الأحد، 4 مارس 2012

بالتغيير.. سينطفئ وميض النار



التغيير، سؤال يتصدر مجموعة الأسئلة الكثيرة التي تسبح في فضاءات المشهد السياسي. وهو سؤال فرض نفسه بصورة جلية، بحيث لم يعد ممكنا تجاهله أو الصمت تجاهه، حتى في دوائر النظام الحاكم المختلفة. وسؤال التغيير، يشق طريقه بقوة نحو الهدف، متسلحا بعدد من العوامل والمعينات التي تحققت على الأرض: الشعب متذمر وسئم سياسات وممارسات النظام حد رفض العيش تحته، والنظام نفسه فشل فشلا ذريعا في إختبار الحكم، خاصة في تقديم حلول ناجعة لقضية الحرب وقضية الإقتصاد، بل ويواصل السير، بنفس طريقته الاستعلائية، في سياساته القشرية التي لا تلامس جذور الوجع، وواقع البلاد يستمر طاردا لجحافل العاملين من مهنيين وعمال وموظفين وخريجين جدد، بحثا عن فرص العمل والملاذ الآمن في بلاد المهجر، والنظام لا يستحي من إستخدام القوة المفرطة في الرد على الإحتجاجات الطلابية، ولا يقشعر بدنه والشاب البوشي يعتقل بطريقة مشبوهة بسبب كلمة في حق قائد إسلامي بارز... وهنا يبرز سؤال آخر: كيف يقبل المثقفون والمتعلمون والمتدينون في النظام بهذه الممارسات، وماذا فعلوا لإيقاف الحرب، ولمنع تكميم الأفواه، ولوقف «المسخرة» الإقتصادية والفساد الطافح؟. هنالك عدة زوايا من الممكن أن ننطلق منها لتناول مسألة التغيير، والتي في إعتقادي، أصبحت مسألة وقت ليس إلا. وبالطبع، فإن أي من الزوايا المشار إليها تحتاج إلى نقاش وعصف ذهني جاد. بالنسبة لي، رأيت تناول الموضوع من زاوية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: أمر طبيعي أن يحاول أي ديكتاتور، أو نظام شمولي، حماية نفسه بإستخدام القوة وتجريب كل وسائل المنع والقمع والقهر والسيطرة على الإعلام، لكن، وعلى مر التاريخ، هل نجح كل ذلك في منع ثورات الشعوب؟ هل جهاز أمن نميري، الذي فعل وفعل، إستطاع أن يفرمل إنتفاضة أبريل 1985؟ هل القمع غير المسبوق، وظاهرة بيوت الأشباح المدروسة ومطبقة بعناية، هل نجحت في صمود الإنقاذ بنسختها الأصلية الأولى، أم أنها إضطرت لإعادة إنتاج نفسها في نسخ جديدة إستجابة للضغوط؟....، القوة الإستعمارية نفسها، بكل جبروتها، لم تستطع منع شباب شجعان من تكوين جمعية اللواء الأبيض..، والمقصلة لم تهزم عبد الخالق محجوب ورفاقه..، سلاح السجن والمحاكمات لم يرعب الصحفيات الجريئات من مواصلة تصديهم لقضايا الوطن والناس..، ولا البطالة والقمع والتخويف منع البوشي من قول كلمته....
ثانيا: الحرب التي هي أول علامات الفشل السياسي، تحولت بسبب آلة الإعلام الموجه إلى مظهر قوة زائف، واستخدمت لغة تخويف الجماهير من القادم، بالإستفادة من معطيات كثيرة، أولها الإختلاف الإثني. لذلك نجد أن السؤال لماذا الحرب في الهلال الدامي بالتحديد، بدلا من أن يقود إلى توضيح العجز في التنمية وفشل السياسات المتعاقبة وضرورة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، نجده يوظف لصالح بقاء النظام وتعزيز قبضته الأمنية؟ ولمزيد من التوضيح، يمكن رصد ذلك في الآتي:
- خطاب أن الحرب حرب عنصرية، وإذا أتيح للحركات المسلحة أن تدخل الخرطوم، فسوف تتم مجازر اشبه بما حدث في رواندا، وسيختلط الحابل بالنابل، وسيضيع حق أبناء الوسط والشمال التاريخي في حكم البلاد. أي، أن الإنقاذ تواصل من جديد، تعيشها على أنها حامي حمى البلاد والدين واللغة العربية.
- ربط حرب الهلال الدامي بالصراع مع الحركة الشعبية وبالتالي دولة جنوب السودان، ومواصلة سلسلة من الربط القسري يصل إلى إسرائيل والمخطط الإمبريالي تجاه السودان، والهدف من كل ذلك التشويش على حقيقة أن الحرب حرب أهلية يقتتل فيها أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض بكل بشاعة، وتصوير المقاتلين من الطرف الآخر وكأنهم أذرع لأجندة خارجية تستهدف الوطن في محاولة بائسة لإخفاء معالم أي حقوق وقضايا مطلبية ينادون بها. والإنقاذ، بتصويرها الحرب الأهلية من هذه الزاوية، تسعى لإطلاق يدها لتوصم كل من ينادي بوقف الحرب بين أبناء الوطن الواحد بالخيانة، وكل من يتحدث عن تسوية سياسية عليه أن يبلع كلامه، مما يعني أن تسيطر الذهنية العسكرية التقنية الصرفة على مسألة سياسية بحتة. وهكذا ينخفض صوت الحلول السياسية ليعلو صوت المعركة، ويضاف قرن إستشعار آخر بغرض التحسس والتجسس على كل من يتحرك لوقف الحرب، تحركا يستدعي إجراء اتصالات بالحركات المسلحة وربما حكومة الجنوب، وعلى كل من يتحرك لكبح جماح النظام، حامي الحمى والمدافع الأول عن الوطن!
- إدعاء أن خوض الحرب هدفه منع حدوث إنفصال آخر...! لكن التجربة أثبتت أن الحرب التي دامت عشرات السنين إنتهت بالإنفصال. طريق الحرب يختلف تماما عن طريق الحوار السياسي. فإذا فشل الحوار في الحفاظ على الوطن موحدا، فلن تستطيع الحرب غير خلق مزيد من الأحقاد والدوائر المتربصة وتقوية الشعور بعدم الإنتماء.
- وإذا نظرنا إلى أي من الدفوعات التي تقدمها الحكومة، سنجد أنها نفس منطلقات الحركات المسلحة لرشق الحكومة بتهم من نوع: الحركات لها وزن شعبي كبير، لكن الحكومة إنقضت عليه، أما العلاقة مع دولة الجنوب فهي كرت تستخدمه الحكومة للضغط على هذه الحركات.
- تاريخيا، كانت الحرب الأهلية في السودان عاملا مساعدا في سقوط وتغيير الأنظمة الحاكمة، مثلما حدث في ثورة اكتوبر 1964 وإنتفاضة أبريل 1985، فمن جهة، هي تهلك النظام ذاتيا، ومن جهة أخرى يتعمق الشعور الوطني المعارض للحرب ليتجسد تعبئة شعبية ضد النظام. نقول هذا، في نفس الوقت الذي نرفض فيه أي إستنتاج يفترض ضرورة إستمرار الحرب حتى يحدث التغيير. ومن زاوية أخرى، أعتقد أن الحرب الأهلية الدائرة الآن في البلاد، وبما لها من إنعكاسات تسعى الحكومة للإستفادة منها في غير مناطق الحرب، أعتقد أنها تؤثر سلبا في حركة الشارع السياسي وهو يتجه نحو التغيير. ولكن هذا التأثير السلبي لن يدوم طويلا، بل سيتحول إلى وقود وطاقة محركة للتغيير حالما إستشعر الجميع ضرورة الإنتقال بالموقف ضد الحرب من مجرد شعار إلى التعبير عنه بتدابير عملية. فإذا ما توفرت الجدية لمجابهة المخاوف من الخطر العنصري، وتمت مخاطبة جذور المشكلة مباشرة، سينطفئ وميض النار.
ثالثا: يعتقد كثير من المثقفين، إن حرية كتابة النقد في المسئولين من رجال الحكم، هو في حد ذاته نقلة كبيرة. ولكن، حرية التعبير الحقيقية هي عندما تتطور هذه الكتابة وما تثيره من قضايا، وتتحرك فعلا ملموسا يصل إلى المحاكم لتتم المحاسبة. فماذا يعني أن يتم الطعن في عدد كبير من ذوي المناصب الدستورية، بينما تقف الجهات العدلية والقانونية لا تحرك ساكنا؟ وماذا يعني أن تتحول تقارير المراجع العام إلى مجرد كلام والسلام؟. الديمقراطية الحقيقية، تعني أن يتم التحقق في أي خبر يمس هذا المسئول أو ذاك، هذه المؤسسة أو تلك من مؤسسات الحكم. في البلدان التي ترسخت فيها الديمقراطية، أي خبر صغير في حق أي وزير أو صاحب منصب في الدولة، يمكن أن يزعزع بقاء هذا الوزير أو المسئول في كرسي المسئولية. أما في السودان، فإن أقصى ما يحدث هو النقل إلى موقع آخر مترقيا. هذا الوضع جعل سقف الأحلام يتضاءل. فالقول الذي لا ينتج عنه فعل، ربما يبرئ الذمة، لكنه لا يحقق الغرض المنشود، ويؤدي إلى شعور الفرد المحدد، ناشطا سياسيا كان أو صحفيا، بالإمتلاء الكاذب، أي أنه، وبمجرد الحديث في الموضوع المعين، قد أدى واجبه كاملا. هذه الحالة دفعت بقطاع واسع من المثقفين إلى الخلف ليسجلوا غيابا ملحوظا في معارك القضايا الكبيرة التي ظل يتصدى لها المثقفون تاريخيا في السودان.
رابعا: البعض، ربما لا يعجبه تكرار الحديث عن فشل إستكمال المهام التأسيسية للدولة الوطنية السودانية، دولة ما بعد الإستقلال، ولكنها حقيقة، تجعل الحياة للأجيال المتعاقبة لا تبدأ من نقطة متقدمة، الأمر الذي ظل ينعكس سلبا على الصراع السياسي في البلد. فهذه المهام تختلط في الأولويات والترتيب، والقوى المناط بها التأسيس تتشتت بدلا من أن تتجمع، وهي قوى، بحكم طبيعتها وتركيبتها الآيديولوجية والإجتماعية، متعددة الألوان والأطياف والرؤى، لكن المهمة التي أمامها، مهمة التأسيس لوطن، تقتضي التمازج والتشابك، وبالضرورة التنازل، حتى تصل غاياتها في بناء دولة الوطن. بالطبع، ليس مستحيلا علاج ذاك الفشل في إستكمال مهام التأسيس، بل من الممكن التصدي له بالحراك في الاتجاهات المتعددة حتى تتقاطع الخطوط وتنتج فعلا مقاوما لعوامل التفرقة ومحاولات بناء الوطن بنظرة آحادية. ومن هنا، فإن الوعي بضرورة مقاومة المشروع الآحادي أو المتناقض مع مهام تأسيس الوطن القائم على واقع متعدد ومتنوع بكل ما تحمل الكلمتان من معان، يشكل عاملا أساسيا وحاسما من عوامل التغيير.
في المقال القادم، سنواصل مناقشة مسألة التغيير، متناولين وسائله وآلياته المختلفة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق