الاثنين، 18 يونيو 2012

لماذا يا سيادة الرئيس؟ 3 بروفسير مصطفى إدريس

لماذا يا سيادة الرئيس؟ 3 بروفسير مصطفى إدريس

*نزع أرض الجامعة بداخليات البركس: أمّا اليوم فأنا أكتب لك عن قضيّة تتعلق بجامعة الخرطوم والتي ربما ظن البعض أنها قضية بسيطة وحادثة عابرة، كان يجب أن نتعامل معها بالتأني والصبر الجميل أو ننساها كليّة لأنّها ليست بذات بال في ظل المعضلات التي تواجه البلاد حالياً، ولكنّها والله أخي الرئيس تكشفت عن حقائق مرة لابد من الوقوف عندها والتأمل فيها والجهر برأينا فيها وإسماعك صوتنا فيها بعد أن فشلنا في علاجها عبر الأجاويد والوجهاء والحكماء والمؤسسات التنظيمية صعوداً وهبوطاً وعبر المؤسسات الرسمية صعوداً وهبوطا لأربعة أشهر، وما زالت تلك القضية تراوح مكانها وتؤرق مضاجعنا ولم نصل فيها لحل مرضٍ، والسبب في كل ذلك هو الداء العضال الذي استشرى فينا وأراه الآن يسير بنا وبمشروعنا الحضاري الذي كنا نطمح فيه بخطوات متسارعة إلى الهاوية وربما يؤدي إلى تمزيق السودان كله، ويقودك أنت شخصياً إلى التهلكة لا محالة إن لم تتداركه. هذا الداء لا علاقة له بمكر الأعداء وتربّصهم، رغم تعاظمه واشتداده في الآونة الأخيرة، ولكن بسبب غياب المؤسسية والخوف من تقديم النصح للحاكم أو المسؤول على كافة المستويات أصبحنا أكثر عُرضةً وقابليةً للوقوع في فخ المؤمرات التي تحاك ضدنا. أمّا المصيبة التي ابتليت بها جامعة الخرطوم هذه المرة – وما أكثر المصائب والظلم الذي يقع على جامعة الخرطوم من بعض المتنفذين الذين يتجاوزون المؤسسات الرسمية، أو بسبب الحسد من بعض القائمين على مؤسسات تعليمية خاصة وعامة ولدت كسيحة وتسعى لتشويه صورة جامعة الخرطوم بالافتراء والكذب لإبعادها عن الصدارة التي اكتسبتها بإرثها ومؤسساتها وتجرد القائمين عليها عبر السنين كما سأروي تفاصيله فيما بعد. وتتلخص القضية الحالية في صدور قرار جمهوري بنزع القطعة رقم 2 مربع 7 الشاطئ شرق الخرطوم ومساحتها أكثر من مائة ألف متر من جامعة الخرطوم والتوجيه بتسجيلها باسم صندوق رعاية الطلاب دون علم الجامعة أو مشاورتها على الإطلاق… وأنا أروي لك قليلاً من تفاصيل هذه الحادثة الآن بعد مضي أربعة أشهر على وقوعها وبعد الغوص العميق في أبعادها ومسبباتها وكيف وقعت ولماذا وقعت وبعد السعي مع كثير من القيادات النافذة في الدولة والحزب لعلاجها بالسبل الدبلوماسية؛ ولكن كان الفشل كان هو النتيجة، ولم نتمكن من احتوائها أو علاجها في أضيق نطاق ممكن يحفظ للجامعة حقوقها ولمؤسسة الرئاسة هيبتها ويرد إخواننا في الصندوق إلى الصواب ويلزمهم حدود مسئولياتهم الموكلة لهم، والسبب هو غياب المؤسسية وسطوة المتنفذين الذين يظنون بأنّهم أبناء الله واحباؤه وحواريو القيادة العليا المدللون وأصفياؤها كما سيتبين فيما بعد من خلال هذه الرسالة التي وثقت ما أرويه فيها إليك ويشهد عليه ويعلمه كثير من القامات الكبيرة في الدولة والحزب الذين جلسنا معهم فرادى وفي اجتماعات مرتبة وتداولنا حول الحادثة وكيفية وقوعها والمنهج الخاطئ الذي اتبع من إخواننا في الصندوق، وقد حاولنا اللقاء بك لهذا الغرض ضمن وفد برئاسة رئيس مجلس الجامعة الذي يشغل منصباً قيادياً رفيعاً في الدولة وكذلك الأمين السياسي للمؤتمر الوطني وهو عضو في مجلس الجامعة ومدير سابق للجامعة ولم يؤذن لنا، والسبب الذي قيل لنا لتأجيل اللقاء بك هو الخوف من أن تكون ردة فعلك قوية في عدم التراجع من القرار رغم الاقرار الصريح بالعيوب الظاهرة فيه. وكان الاقتراح البديل الذي طرحه الأخ الفريق الركن بكري قبل تحديد اللقاء بك – وهو أعرف الناس بك وأقربهم منك- أن تتم معالجة الأمر بالتراضي بين الطرفين (الجامعة والصندوق) وإعداد مذكرة بذلك التراضي ترفع للرئيس قبل مقابلته في وفد مشترك من الجامعة والصندوق لمباركة الاتفاق وتغيير القرار السابق، وقد فشلنا في ذلك تماما حتى كتابة هذه السطور بسبب تعنت الإخوة في الصندوق واتكالهم على القرار الذي بحوزتهم، إذ إخواننا في الصندوق التقوا بك خارج الأطر الرسمية - وهذه ليست من عندي بل من عند مسئولين كبار في الدولة- واستصدروا القرار الجمهوري ووقعوا على الخطاب المرفق معه بالعنعنة عن القائمين على شئون الرئاسة في ذات يوم صدوره كما توضح الوثائق التي بحوزتنا والتي وصلتنا في الجامعة بعد أسبوع من صدور القرار وتحويل سجل الأرض من الجامعة للصندوق. بعد استلامهم للقرار الجمهوري في ذات يوم صدوره توجه إخواننا في الصندوق إلى الدوائر المختصة في الأراضي وقاموا على عجل بتحويل سجل الأرض من جامعة الخرطوم إلى صندوق رعاية الطلاب وشهادة البحث بعد تحويل سجل ملكية الأرض من الجامعة للصندوق أيضاً بحوزتنا. وقد فعلوا ذلك ليفرضوا الأمر الواقع وتمّ ذلك بسرعة لا يصدقها الذين يكابدون في تسجيل الأراضي المملوكة لهم لعشرات السنين ومنهم جامعة الخرطوم التي تتنازع معها بعض الجهات الحكومية في أراض ظلت قائمة عليها على مدى قرن من الزمان، والسبب في كل تلك الجرأة وذلك التعنت من إخواننا في الصندوق في ظني أنّهم يوقنون بأنّهم من (أهل الخطوة) ومن أصحاب الحظوة عند صناع القرار بعيداً عن المؤسسية والروتين القاتل والدليل على ذلك أنّ القرار صدر على عجل وتمّ تحويل سجل الأرض على عجل دون الرجوع لأصحاب الحق أو مشاورتهم أوالإلمام بطبيعة الأرض المنزوعة وما يجري فيها من نشاط أكاديمى وإداري وطلابي من صميم رسالة الجامعة، حيث توجد بالموقع عمادة شئون الطلاب ودار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وقسم طب العيون وداخليات خاصة بطالبات الدراسات العليا بالجامعة وجزء من مركز الخدمات الطبية لأسرة الجامعة، بل لم تتم الدراسة والتأكد من صلاحية هذا الموقع القريب من قلب الخرطوم لبناء داخليات كبيرة في المستقبل أم لا، وكان الواجب أن يتمّ ذلك بالتشاور مع الجامعة التي يعنيها الأمر في المقام الأول قبل الصندوق، فالطلاب هم طلاب الجامعة والأرض هي أرض الجامعة فما هي الدواعي لتلك العجلة والتحرك الآحادي من جانب الصندوق؟ وقد تمّ ذلك في ذات الوقت الذي خصصت فيه الجامعة للصندوق أراضي في سوبا والتربية وشمبات وأقام عليها داخليات، وبيننا وبينهم لجنة مشتركة تجتمع دورياً للتنسيق في شأن الأراضي التي منحت لهم والتي يودون أن يتوسّعوا فيها لخدمة طلاب الجامعة وأيضا هنالك تنسيق في شأن إخلاء بعض العقارات التي يشغلها الصندوق وتحتاجها الجامعة للتوسع في برامجها الأكاديمية، فقد أخلى الصندوق بعض الداخليات للجامعة للتوسع فيها في فترة سابقة ولدينا معهم حوار لإخلاء داخليات أخرى كابي دجانة وحسن حسين لحاجة الجامعة الماسة لها ولأنّها أصبحت تسبب مشاكل للجامعة على رأسها انسداد المجاري الذي يؤدي للطفح في شارع الجامعة بصورة متكررة بسبب الضغط العالي على تلك المجاري التي صممت منذ أمد بعيد، ولكنّهم هذه المرة قاموا بهذه الفعلة المنكرة دون التشاور مع الجامعة وربما دفعهم لذلك التعجل للحاق بركب الموضة التي تقول إنّ الأراضي على شاطئ النيل كلها يجب أن تحول الى استثمارات وإن كانت تقوم عليها جامعات أو وزارات (وربنا يستر على القصر الجمهوري) وإخواننا في الصندوق يبدو أنّ معهم فائض من (الكاش) للاستثمار الذي أصبح همهم الأساسي، إذ أّن الدولة فرضت لهم دمغات ورسوم على الوارد وملّكتهم أموالاً طائلة لو خصصت للجامعات لتحمّلت رسالتها في رعاية طلابها وبطريقة أفضل من التي يقوم بها الصندوق حالياً والتي أصبحت من الأسباب الرئيسية في تولد العنف وحوادث الاغتيال والضياع الذي يعاني منه كثير من الطلاب بسبب الضغوط والمعاناة التي يلاقونها في غياب الرعاية الاجتماعية والمادية والنفسية في حدها الأدنى من الصندوق والقائمين عليه، ولنا عودة لهذا الموضوع لشرح المعاناة التي يلاقيها الطلاب من الصندوق بعد جولات ميدانية موثقة بالصوت والصورة في الداخليات التي يسكنها طلاب جامعة الخرطوم. وقد طلبت عدة مرات من الأخ النقرابي أن يغبّر أقدامه في سبيل الله ويزور معي بعض الداخليات ليرى بعينه كيف يفرش الطالب الكرتون على سرير الحديد لينام عليه، وأنّ الغرفة التي كان يسكنها اثنان من الطلاب في الماضي يسكنها الآن ستة طلاب على السرائر ذات الطابقين!! وربما يوجد بجانبهم ثلاثة أو أربعة يفترشون الأرض كما شاهدت ذلك بأم عيني في داخلية حسيب في إحدى زياراتي الميدانية في الصباح الباكر، ويحدث كل ذلك بينما يؤجر القائمون على الصندوق غرفاً لغير الطلاب بغرض الاستثمار في ذات الداخليات، وقد فشلت تماماً في الحصول على موعد للزيارة الميدانية برفقة الأخ النقرابي ليرى بعينه الحال رغم إلحاحي عليه عدة مرات خاصة بعد الحريق الذي نشب في داخليات حسيب في الطب وداخلية خالد بن الوليد في التربية، وفي ظنّي أنّه حريص ألا يورط نفسه في موعد محدد ولا أجد تفسيراً لذلك إلا خوفه من مقابلة الطلاب وردة فعلهم عندما يشاهدون المسؤول الأول عن معاناتهم على الهواء مباشرة (انظر الصور المرفقة للداخليات). 3- الخطوات التي اتبعت لمعالجة أمر القرار الجمهوري بشأن البركس أمّا تفاصيل الحادثة الحالية أخي الرئيس فتتلخص في الآتي: في أثناء اطلاعي على البريد اليومي للجامعة في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر 2010 وجدت خطاباً موقعاً عن الفريق عصمت وليس بواسطة الفريق عصمت شخصياً موجهاً لي نصّه كالآتي: (السيّد مدير جامعة الخرطوم- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته- القرارات الجمهورية لسنة 2010 م، 1- ارجو أن أرفق لكم عدد 1 نسخة من القرار الجمهوري بالرقم (247) لسنة 2010 . 2 - للتكرم بالعلم والاستلام واتخاذ ما يلزم) ولا أدري ما هو الذي يلزمني اتخاذه بعد أن تمّ نزع أرض الجامعة دون علمي، أهو الصمت والتكتم على القرار؟ أم تكميم أفواه الأسرة الجامعية من الخوض في هذا الموضوع إذا ذاع صيته؟ أم تشكيل وفد والذهاب للمباركة للصندوق؟ أم ماذا يا ترى؟ ومرفق مع ذلك الخطاب القرار الجمهوري رقم 247 لسنة 2010 أيضاً وبذات تاريخ الخطاب ونصّه كالآتي (رئيس الجمهورية- عملاً بأحكام المادة 58 (1) من دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005 أصدر القرار الآتي نصه- إلغاء وتخصيص- يلغى تخصيص القطعة رقم (2) مربع 7 الشاطئ شرق الخرطوم لجامعة الخرطوم وتخصص للصندوق القومي لرعاية الطلاب- تخصص القطعة رقم 5/17 الحارة 4/ الملازمين أمدرمان للصندوق القومي لرعاية الطلاب- على وزارات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والبيئة والغابات والتنمية العمرانية ومسجل عام الأراضي والجهات المعنية الأخرى اتخاذ ما يلزم من اجراءات لتنفيذ هذا القرار- صدر تحت توقيعي في اليوم العاشر من شهر شوال لسنة 1431هـ الموافق اليوم التاسع عشر من شهر سبتمبر لسنة 2010 م- المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية …….) وتاريخ القرار والخطاب المرفق هو التاسع عشر من سبتمبر 2010م، ولم يوقع على الخطاب المرفق الفريق بكري وزير رئاسة الجمهورية ولا الدكتور محمد مختار وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء ولا الفريق عصمت مدير المكتب التنفيذي لرئيس الجمهورية بشخصه، فمن هو هذا المتنفذ الذي وقع نيابة عن كل هؤلاء جميعاً يا تُرى؟ ومن هذا الذي ينوب عن كل هذه القامات التي تحرس القصر ومجلس الوزراء وممتلكات الدولة وعلى رأسها الأراضي ويمرر القرار بتلك العجالة؟ والأدهى والأمر من كل ذلك كان عندما اتصلت على الفور هاتفياً بالفريق بكري وبالدكتور محمد مختار وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء. أمّا الأخ الفريق الركن بكري فقد قال لي بالحرف الواحد لا علم له بتفاصيل الحيثيات التي بني عليها هذا القرار وملابساته وعبر عن عدم رضاه الشخصي من الطريقة التي تمّ بها، وقد حكى لي بعض المسئولين في القصر تفاصيل في هذا الشأن أحتفظ بها لأقولها لك أخي الرئيس في أول مقابلة لي معك إن تيسر ذلك، وان لم يتيسر لي ذلك فسوف أسجلها في مذكراتي الشخصية للأجيال القادمة وإن لم يتيسر لي كل ذلك فربما أجد الفرصة لأفصح عنها يوم الحشر عندما نقف أمام رب العزة والقدرة الذي لا تخفى عنه خافية. أمّا الأخ الدكتور محمد مختار القيم على ممتلكات الدولة بحكم منصبه خاصة الأراضي والذي زرناه في مجلس الوزراء بعد تكليفه وزارنا مشكوراً في الجامعة وتمّ بيننا وبينه تنسيق في أمر استرداد بعض الأراضي التي تملكها الجامعة والتي تم تسجيلها باسم مجلس الوزراء في فترة سابقة كما سأروي تفاصيله فيما بعد، ولابد أن أقول في هذا المقام بأنّ التعامل بيننا وبينه يسير بصورة متحضرة جداً منذ توليه المنصب، فله التحيّة وصادق الدعاء بالتوفيق. قال لي الدكتور محمد عندما سألته عن القرار الذي صدر بشأن أرض البركس لم أسمع بالقرار من قريب ولا من بعيد إلا منك الآن

لماذا يا سيادة الرئيس (4) بروفسير مصطفى إدريس

لماذا يا سيادة الرئيس (4) بروفسير مصطفى إدريس
الثلاثاء, 15 شباط/فبراير 2011 07:53 |
الكاتب: وعي الطلبة | | |



أخي الرئيس: التقيت أنا ورئيس مجلس الجامعة البروفسور الأمين دفع الله بكثير من المسؤولين الكبار جداً في الدولة، ومنهم بعض المقربين جداً منك؛ بغرض معالجة هذا القرار بأيسر الطرق كما اقترح الأخ بكري قبل مقابلتك، وأقروا جميعاً بأن الرئيس لم توفر له المعلومات الصحيحة قبل اتخاذ هذا القرار، وأدانوا الطريقة التي اتبعها إخواننا في الصندوق للوصول للرئيس قبل التشاور مع الجامعة، وصرحوا بذلك عندما تحدثنا معهم فرادى والتقينا بهم في اجتماعات بشأن هذه القضية الملحة؛ ومنهم على سبيل المثال لا الحصر البروفسور إبراهيم أحمد عمر والبروفسور عبد الرحيم علي والدكتور غازي صلاح الدين والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل والبروفسور إبراهيم غندور والبروفسور الزبير بشير طه والي الجزيرة ... و... و... وأبدوا جميعاً تعاطفهم الكامل مع الجامعة واستعدادهم للمساهمة في الحل، ولكن هناك شبه إجماع منهم بأن يكون الحل بطريقة أخرى غير مخاطبة الرئيس مباشرة لتغيير قراره، ومما اقترحوه الجلوس مع الصندوق وإقناعه بخطأ الخطوات التي اتبعها والاتفاق معه على بدائل أخرى في مواقع أخرى من أرض الجامعة، ومن ثم تكتب مذكرة ترفع للرئيس بالاتفاق الذي يتم وبموجبها يتم تعديل القرار أو إلغاؤه. وبناءً على تلك التوصية جلست اللجنة المشتركة بين الجامعة والصندوق في يوم 20/10/2010 ولم يصلوا الى حل رغم الحيثيات التفصيلية التي ساقها ممثلو الجامعة بأهمية الأرض المنزوعة لرسالة الجامعة الأكاديمية في الوقت الحالي والمستقبل القريب، ورغم الكرم الشديد الذي تفضل به وفد الجامعة بتخصيص مساحات بما يشتهون في سوبا والتربية وشمبات؛ لبناء داخليات عليها الا ان اخواننا في الصندوق كانوا يصرون على رأيهم بأن الأرض مُنحت لهم بقرار جمهوري، وكل ما تفضلوا به قالوا انهم على استعداد لاستضافة دار اتحاد الطلاب وعمادة شؤون الطلاب بصورة مؤقتة. عرضنا الأمر مرة أخرى على لجنة الحكماء، فاقترحوا أن يتم لقاء بين مدير الجامعة وأمين الصندوق مباشرة فقبلنا المقترح؛ واتصلت بالأخ النقرابي وطلبت منه أن نجلس سوياً ونصل الى حل ووعد بأن يأتي للجامعة للجلوس معي ومعالجة الأمر، ولكنه (طنش) ولم يفعل ذلك الا بعد مضي أكثر من أربعين يوماً، وبعد محادثة ساخنة وتوبيخ له من الأخ بروفسور ابراهيم أحمد عمر، وعلى إثر ذلك اتصل مدير مكتبه بالمدير التنفيذي لمكتب مدير الجامعة مساء يوم الثلاثاء 30 نوفمبر؛
أي بعد مضي أكثر من أربعين يوماً على لقاء اللجنة المشتركة السابق وطلب تحديد موعد اليوم التالي مباشرة أي يوم الأربعاء 1 ديسمبر للقاء النقرابي مع مدير الجامعة وعلى انفراد، وفعلاً أبلغني مدير المكتب بعد العاشرة مساء ووافقت، وطلبت منه تعديل جدول أعمال المدير المعد ليوم الأربعاء وتضمين اللقاء مع أمين الصندوق حسب طلبه هو على انفراد. حضر النقرابي في الموعد المحدد على رأس وفد من أربعة أشخاص رغم أنه طلب أن يلتقي بي بمفرده على انفراد؛ وعلى اثر ذلك دعوت نائب المدير ووكيل الجامعة ونائبه لحضور الاجتماع. تحدثت في عشرين دقيقة عن الجامعة ورسالتها الممتدة عبر السنين في الماضي والحاضر والمستقبل وتجدد المعارف وتطورها، حيث تم انشاء تسع كليات جديدة في عهد الانقاذ، وأكثر من ستين قسماً جديداً، وتضاعف عدد الطلاب والأساتذة عدة مرات، وفي هذا العام اتخذ قرار بتقسيم كلية الآداب الى كليتين؛ الآداب والجغرافيا والبيئة، وأكدت على حاجة الجامعة الماسة للأرض المنزوعة للتوسع في القريب العاجل، وأكدت على رغبة الجامعة في التعاون مع الصندوق وتخصيص مساحات اضافية في أراضي كلية التربية وشمبات وسوبا ليبني عليها داخليات، وعرضنا عليهم مقترح لجنة الحكماء بكتابة مذكرة مشتركة ترفع لرئاسة الجمهورية لتعديل القرار أو إلغائه، ولكن عندما تكلم النقرابي في آخر اللقاء كان الرفض الشديد لأي مراجعة للقرار والتمسك به كما هو، وكل الذي تكرم به أمين الصندوق أعلن بأنه يمكن أن يستضيف بعض مؤسسات الجامعة القائمة بالموقع حالياً معه لبعض الوقت، وانفض الاجتماع الذي جاء اليه أمين الصندوق برفقة اثنين من ضباط الأمن؛ أحدهما برتبة عقيد ليظهر لي أنه (مالي ايدو في السلطة)، ويبدو أنه ظن بأنه يمكن أن يرهبني اذا انفرد بي مع مرافقيه؛ وأرضخ بقبول القرار الجمهوري خوفاً على الكرسي، ولا أظن أن هنالك تفسيراً غير ذلك. عندما انفض الاجتماع مع أمين الصندوق اتصلت برئيس مجلس الجامعة وأخبرته بما حدث، فقال لي بالحرف الواحد (جدادة الحلة جات تطرد جدادة البيت - مالك ما أديتو كف)، وأصدقكم القول بأنه لم يمنعني من ذلك إلا حرمة المكان الذي انعقد فيه الاجتماع- مكتب مدير جامعة الخرطوم وفي حضور اثنين ممن يحملون القراءن في صدورهم- نائب مديرالجامعة ووكيلها. يؤسفني أخي الرئيس أن أنقل إليك بأن هذا النهج - التهديد باسم السلطة لتحقيق المآرب- الذي سلكه أمين الصندوق؛ يمارس بصورة واسعة في دولتنا؛ وقد يتم أحياناً انتحال شخصيات رجال الأمن للقيام بأفعال تسيء الى الدولة والى جهاز الأمن وتقوض أمن المجتمع؛ وبين يدي ملفات ساخنة لقضايا مشابهة تتصل بالجامعة ويعلم تفاصيلها كثير من المسؤولين الكبار في الدولة فاسألهم عنها... أخي الرئيس إن الأمر الذي حدث وبالطريقة التي تم بها أصبح جرحاً غائراً في جسم الجامعة، وقد حاولنا معالجته بالنَّفَس الهادئ لأربعة أشهر وزيادة- بما يساوي عدة المتربصة التي توفي عنها زوجها- ولكن الأمر خرج من طور الاحتواء وإن لم تتم مراجعته بالحكمة المطلوبة أخشى أن تكون له مضاعفات في هذا الظرف العصيب الذي تعيشه أمتنا، وقد بذلنا أقصى ما في وسعنا لمعالجته بالحكمة والتروي، ولكن فشلنا تماماً حتى هذه اللحظة. وأؤكد لك بأن كافة مؤسسات الجامعة رافضة لهذا القرار، فقد اجتمع مجلس العمداء وقال رأيه صريحاً بضرورة مراجعة القرار وإعادة الأرض للجامعة، واجتمع مجلس الأساتذة الذي يضم في عضويته ثلاثمئة وخمسين من أساتذة الجامعة، وأمن على قرار مجلس العمداء، واجتمع مؤخراً مجلس الجامعة في يوم 26 ديسمبر 2010 وقال رأيه أيضاً صريحاً وواضحاً بضرورة مراجعة القرار وعودة الأرض المنزوعة للجامعة، ولكن بالتماس من رئيس المجلس وافق مجلس الجامعة على إعطاء مهلة شهر للجنة الحكماء لتحاول معالجة الأمر مع الصندوق كفرصة أخيرة، ولكن لم توفق اللجنة وما عرضته لم يكن مقبولاً من كل مؤسسات الجامعة العليا، فالأمر يرجع إليك أنت الآن، وواضح من السرد الذي قدمته بأن المعلومات التي توفرت لك قبل اتخاذ القرار لم تكن كافية، فالرئيس هو الرئيس وأقواله في الجلسات الخاصة ربما تصبح قرارات؛ وتوجيهاته العابرة ربما أثرت على مصير أمة بأكملها اذا لم يكن محاطاً بمؤسسة فاعلة تعرف قدر المنصب وخطورته وتعرف كيف تصوغ القرارات وتفرق ما بين المقصود فعلاً وما وقع سهواً أو عابراً، وتهتدي بأهل الرأي والمشورة فيما تقدمه للرئيس ليوقع عليه، وليس المطلوب من الرئيس أن يقرأ مئات التقارير أو يلم تفاصيل كل ما يقدم اليه من قرارات للتوقيع عليها بعد أن يقول الخبراء والمستشارون رأيهم، وللأسف الشديد فان كثيراً من مآسينا وجروحنا الدامية التي تنخر في جسد الأمة نتجت من تفلتات بعض المسؤولين الكبار والصغار في ظل غياب المؤسسية والمناصحة والمحاسبة، ولتعلم أخي الرئيس ان هؤلاء وأمثالهم ممن يصلون اليك ويزودونك بمعلومات منقوصة أو خاطئة تترتب عليها قرارات خطيرة؛ يعرضونك لخطر كبير ويلقون بك الى التهلكة، وكذلك الذين لا يستطيعون تقديم النصح لك وارشادك لإصلاح الأخطاء التي تقع فيها بحكم طبعك البشري قبل أن تتفاقم، فهؤلاء أيضاً هم الذين يقودون بلادنا الى التمزق كما يجري الآن في الجنوب، ويعلم الله وحده ما يحدث بعد ذلك في دارفور والشرق. وقد تأملت في مسيرة دولتنا عبر السنوات الماضية وعددت عشرات القرارات التي صدرت وتم التراجع عنها بعد فترة وجيزة عند اكتشاف خطئها أو صعوبة تنفيذها في أرض الواقع، وقد يتم التراجع منها بطريقة لا تحفظ ماء الوجه وتورطنا في وحل يصعب علينا الخروج منه... ولو كان هنالك ناصح أمين لما صدرت تلك القرارات ابتداءً، ولما تناولتها وسائل الإعلام وسببت لنا حرجاً وإحراجاً وتكاليف مادية باهظة لمعالجتها أمنياً، وتضاف فاتورتها على كاهل المواطن المغلوب على أمره. فأنت أخي الرئيس ربان السفينة وهي الآن تسير في بحر متلاطم الأمواج، فإن لم تدركها ستغرق لا محالة، ونحتاج منك لمبادرات غير تقليدية لإنقاذ الإنقاذ وتصحيح المسيرة في جبهات عديدة قبل فوات الأوان، ولكن من جانبنا نناشدكم بمراجعة هذا القرار المعيب لنتجنب المزيد من المصادمات والمواجهات التي لا مبرر لها؛ سيدفع ثمنها الشعب السوداني الذي يكابد من أجل لقمة العيش... أخي الرئيس لقد كلفنا خبراء من جامعة الخرطوم وخارجها لإعداد مذكرة قانونية حول القرار الجمهوري رقم 247 لسنة 2010م بإلغاء وتخصيص قطع أراضي، وجاءنا منهم ما يلي: 1. صدر القرار الجمهوري رقم 247 لسنة 2010م بتاريخ 19/9/2010م بإلغاء تخصيص القطعة رقم 2 مربع 7 الشاطئ شرق الخرطوم لجامعة الخرطوم، وتخصص للصندوق القومي لرعاية الطلاب. 2. استند القرار المذكور على أحكام المادة 58 (1) من دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م. 3. إن المادة 58 (1) التي استند عليها القرار تنص على اختصاصات رئيس الجمهورية وليس من بين تلك الاختصاصات تخصيص أو إلغاء تخصيص الاراضي. 4. أما سلطة تخصيص الارض فهي سلطة ممنوحة للسيد وزير التخطيط العمراني وفقاً لأحكام المادة 42 (1) من قانون التخطيط العمراني والتصرف في الأراضي لسنة 1994م. 5. تقتصر سلطة السيد رئيس الجمهورية في هذا الشأن على نزع الارض لغرض عام وفقاً لأحكام المادة 4 والمادة 5 من قانون نزع ملكية الاراضي لسنة 1930م (وهو قانون للنص على نزع ملكية الأراضي للأغراض العامة). تنص المادة 4 من هذا القانون على الاجراءات الشكلية لنزع الملكية، بينما أعطت المادة 5 من ذات القانون السيد رئيس الجمهورية مباشرة سلطة النزع المخولة له متى ما رأى ضرورة لذلك، على أن هذه السلطة تمارس وفقاً لإجراءات محددة سلفاً تتمثل في الآتى:- أ. استيفاء كافة الاجراءات الشكلية المنصوص عليها في المادة 4 من قانون نزع ملكية الاراضي لسنة 1930م. ب. صدور إعلان ممهور بتوقيع السيد رئيس الجمهورية يتم نشره في الجريدة الرسمية لحكومة السودان (الغازيتة) ويشتمل الاعلان على وصف للأرض ومساحتها التقريبية وبيان للمكان الذي يمكن فيه الاطلاع على خريطة الارض، بالاضافة لبيان بأن رئيس الجمهورية قد قرر نزع ملكية الارض لغرض عام. ج. أن تدفع الحكومة تعويضاً للشخص المضرر. 6. بناءً على ما سبق فإن القرار الصادر من رئيس الجمهورية بشأن الموضوع أعلاه يعتبر معيباً من الناحية القانونية وذلك للآتى: أ. إنه صدر من جهة غير مختصة قانوناً. ب. هنالك إجراءات شكلية لم يتم استيفاؤها. 7. لما كان هذا القرار معيباً من ناحية قانونية فإنه يحق للجامعة الطعن فيه أمام المحكمة العليا القومية لإلغائه. أخي الرئيس إن قيام الصندوق كان ضرورة ومرحلة انتقالية لابد من المرور عبرها للخروج من النمط القديم للداخليات في جامعة الخرطوم، والذي ربما رأى البعض أنه يكبل التوسع في التعليم العالي، ولكن ربما جاء زمان يستغنى فيه عن رسالة الصندوق تماماً، وأصدقك القول بأننا في إدارة الجامعات السودانية لدينا تحفظات كثيرة على أداء الصندوق ستبرز للسطح بجلاء أكثر بعد هذه الحادثة، وكثير ممن التقيتهم من مديري الجامعات يقولون لو توفرت لنا الإمكانات التي رصدت للصندوق لقمنا بواجبنا تجاه طلابنا بأفضل مما يقوم به الصندوق حالياً، فلماذا يتملك الصندوق الأراضي والكل يتعاون معه ليخدم الجامعات في هذا الجانب الحيوي؟ وأعلم يقيناً بأن هنالك مسؤولين كبار في الدولة يشاركوننا هذا الفهم بأن الصندوق بأوضاعه الحالية يحتاج لإعادة النظر في رسالته وفي إدارته الحالية التي أضر بها طول المكث في المنصب. فهل بإمكان الصندوق اليوم في ظل اللامركزية والتوسع الهائل في الجامعات إدارة هذه الداخليات في بورتسودان... والجنينة.... ودنقلا.... والدلنج... وعطبرة ... وكسلا...؟ وهل خضع الصندوق لمراجعة نشاطه وكيفية التوظيف فيه ومؤهلات القائمين عليه وتدريبهم؟ وهل صحيح أن إدارة الصندوق مهمومة الآن بالاستثمارات الكبرى وأصبحت لها شراكات معقدة مع المقاولين والمصنعين والموردين وغيرهم من أهل السوق في هذا المجال، كما تقول مجالس المدينة وتقارير المراجعين حتى صار أمر إسكان الطلاب مهمة هامشية ووظيفة ثانوية للصندوق؟ وهل صحيح ما قاله لي أحد الضباط الكبار بأن الصندوق أصبحت له علاقات متشابكة مع بعض مراكز القوة في الدولة، ويجد منها الحماية الكافية وليس من السهل مصارعته أو ثنيه عما يريد فعله.

لماذا يا سيادة الرئيس..!!(7) بروفسير مصطفى إدريس

لماذا يا سيادة الرئيس..!!(7) بروفسير مصطفى إدريس

أقول كل ذلك وأعتقد أنه قد وصلتك معلومات خاطئة عن جامعة الخرطوم من بعض من تضررت مصالحهم بمجيئ الإدارة الجديدة لجامعة الخرطوم - وهم كُثر - وهذا ملف أفضل عدم الخوض فيه الآن حيث بحوزتي عشرات الوثائق، وأعلم يقيناً أيضاً بأن بعض أصحاب المؤسسات التعليمية التي ولدت كسيحة يحسدون جامعة الخرطوم لأنها ما زالت وستظل قبلة للمتميزين من أبناء وبنات السودان، فقد قال لك أحد هؤلاء- كما سمعت منك شخصياً - بأن جامعة الخرطوم تصلبت شرايينها، قال ذلك في الوقت الذي يدير فيه هو جامعة تتعسر مسيرتها وتلهث وراء الطلاب بأي نسب حتى 50% وبسعر زهيد لتقبلهم في كليات لا يجد الطلاب مقاعد في نظيراتها في جامعة الخرطوم بأقل 90%، وربما أجبر بعضهم العجز عن الوفاء بمتطلبات تسيير الجامعة للاستغاثة ببعض الجهات الرسمية في الدولة لتقيل عثرتهم….. وهناك أيضاً آخرون يمنون أنفسهم ويسعون بأن يجعلوا الصدارة لجامعاتهم، ونقول لهم وفقكم الله في مسعاكم ولكن مما نراه عن قرب فيما عندهم وما عند جامعة الخرطوم، نقول لهم لو قدر لأحدكم أن يبقى ألف سنة الا خمسين عاماً في ادارة جامعته لتحقيق هذا الهدف ما تيسر له اللحاق بجامعة الخرطوم، لأنها جامعة مؤسسات وليست جامعة أفراد، ومهما تكاثرت عليها السهام فلن تفت في عضدها، فقد سخر الله لها أناساً هاموا في عشقها ويتنازلون عن كل المغريات في سبيل خدمة جامعة الخرطوم ولم ينقطع هذا الصنف عن جامعة الخرطوم عبر مسيرتها الطويلة المباركة، ونحن منهم ان شاء الله. لم يتوقف العداء لجامعة الخرطوم عند هذا الحد فهناك وزير نافذ و(مشاتر) لا يروق له اذا صعد أي منبر له علاقة بالتعليم العالي أو التدريب صلة الا وبدأ يسب ويلعن جامعة الخرطوم، وتكرر ذلك في منابر عامة كثيرة، وبمناسبة وغير مناسبة، وشهدت ذلك بنفسي وجاءني من الأساتذة من يشتكي من تجني ذلك الوزير على جامعة الخرطوم رغم أنه من خريجيها ودرّس بها عياله….. فقد شهدته يشتم الكبار في حضرتهم ووكلاء الوزارات، وقد قال في حضرتي في أحد الاجتماعات (ناس مصطفى إدريس ديل في جامعة الخرطوم يسقطون الطلاب بلا سبب… وأشياء أخرى…).ولم أرد عليه وقتها لأني أعلم رأي كل من تعامل معه فيه، وأصدقكم القول بأني كلما رأيته تذكرت حارس البوابة الرئيسية بمستشفى الخرطوم في منتصف سبعينيات القرن الماضي….فقد كان ذلك الرجل لا يقوم بحراسة الباب والحيلولة دون دخول الناس بغير اثبات شخصية فقط، لكنه يتفضل على الزوار بعدة شتائم….فعندما تقول له (أبوي عنده عملية خليني أخش أحضرها) يجئ الرد منه (أبوك ان شاء الله يموت ما بدخلك)…. وتقول له عندي موعد مع الدكتور الفلاني الآن، يقول ليك تعال ليهو الساعة أربعة وقت الزيارة، أنا ما بدخلك، فهذا الوزير المشاتر وكثيرا من التنفيذيين الشطار الكبارالذين أنجزوا للأمة مشاريع ضخمة وعملاقة في فترات سابقة تضررت منهم البلاد والعباد كثيرا، عندما أصبحوا هم صناع القرار السياسي، وقد تحدثت عن ذلك في المقالات السابقة….. وكذلك الموظفين (المعتقين) في أجهزة الدولة يستطيعون أن يدوخوا المسؤولين الكبار بالتسويف والمماطلة وصرفهم للقضايا الجانبية ويعطلون كثيراً من القرارات المهمة التي لا تروق لهم، ويتحايلون على المسؤولين باستصدار قرارات لا تمت للمصلحة العامة من قريب ولا من بعيد، ويسرعون في إخراجها وانفاذها خاصة اذا ارتبطت بمصالح شخصية لهم، واني لأرجو أن أعرف ذلك الموظف الذي وقع على الخطاب المرفق مع القرار الجمهوري بإلغاء تخصيص أرض البركس من جامعة الخرطوم وأيلولتها لصندوق رعاية الطلاب….. وأنا أعلم بأن معظم المسؤولين الكبار يتولون مهام تنفيذية ومهام تنظيمية وأخرى غير مرئية، ويمكن للموظفين أن يصرفوهم للاهتمام بقضايا جانبية انصرافية… وعلى سبيل المثال أقول لقد اتصل بي أكثر من مسؤول رفيع جداً في الدولة يسأل عن أسباب قطع شجرة في متحف التأريخ الطبيعي التابع لجامعة الخرطوم، وبعض أولئك المسؤولين ظللت ألهث وراءهم لتحديد موعد معهم لمناقشة قضايا حيوية تتعلق برسالة الجامعة ولم أفلح في ذلك حتى الآن، والعذر دائماً ازدحام جدول الأعمال……. أخي الرئيس لقد حدثنا بعض مشايخنا في فترة سابقة بأنهم عندما أرادوا أن يختاروا رئيساً لمجلس قيادة الثورة وقع اختيارهم على العميد عمر حسن أحمد البشير من بين عدة خيارات كانت مطروحة للنقاش، وقالوا ان ما رجح كفته لقيادة مجلس الثورة أنه قوي الشخصية عند الشدائد، ولكنه لين الجانب وبسيط في الأحوال العادية، ويشارك العوام من أهل السودان أفراحهم وأتراحهم ويتكلم معهم باللغة التي يفهمونها ولا يتنكر لماضيه ونشأته القروية المتواضعة، ويقبل النصح ويلتزم برأي الجماعة…. فهل صحيح أنك الآن بعد أكثر من عشرين سنة في السلطة يصعب نصحك أو التصريح برأي مخالف أمامك، وهل صحيح أنه يستحيل أن تغير رأياً أو قراراً بعد اتخاذه اذا لم تتم التهيئة لذلك عدة شهور، فقد علمنا يقيناً بأن المستشارة القانونية التي طُلب منها صياغة القرار قد أشارت إليك بضرورة أخذ رأي الطرف الآخر صاحب الحق قبل صدوره، ولكن ضرب برأيها عرض الحائط وكذلك توسل إليك بعض الرموز في الدولة للرجوع عن القرار فرفضت…. أخي الرئيس عندما اعتلى عمر بن الخطاب المنبر في مسجد الرسول وأراد أن يصدر قراراً بتحديد المهر في الهواء الطلق وأمام كبار الصحابة انبرت له امرأة وخطأته فيما ذهب اليه، فما كان منه الا أن قال أخطأ عمر وأصابت امرأة، فهل بالامكان أن تقول أنت اليوم أخطأ عمر وأصابت فريدة؛ عندما أشارت إليك بسماع رأي الطرف الآخر قبل صدور القرار بتخصيص أرض الجامعة للصندوق؟ وهل في ذلك عيب؟ أبداً والله فالقراءن يعلمنا بأن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما يخطئ يصححه الوحي جهاراً نهاراً (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى)…(واذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله احق أن تخشاه، وكذلك يلقن القراءن الصحابة درساً قاسياً بعد غزوة أحد، ويكشف عيوبهم في قراءن يتلى ويتعبد به الى يوم القيامة…(ولقد صدقكم الله وعده اذ تحسونهم بإذنه حتى اذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين). فأنا أناشدك اليوم قبل الغد أن تراجع هذا القرار، وأن تعيد النظر في أمر الصندوق وادارته لنتجنب كثيراً من المضاعفات التي لن تعود على البلاد بخير. وقد قال بعضهم أن الخطأ ربما حدث بالتوهم أن الأرض تتبع للجيش، فهي فعلاً تجاور سلاح الذخيرة الذي طارت منه شظايا وأصابت أشخاصاً أبرياء في أم درمان وقتلتهم في فترة سابقة، فلماذا لا ينزع سلاح الذخيرة ويملك للصندوق بدلاً من البركس التي تحتاجها الجامعة لرسالتها النبيلة؟ وما المبرر لاختبار الذخائر في وسط العاصمة وما المبرر أن تتمدد ممتلكات الجيش من الأراضي في جميع أنحاء العاصمة دون أن يمسها أحد بسوء، بينما تظل ممتلكات جامعة الخرطوم نهباً (للغاشي والماشي)…. أخي الرئيس أتابع أحاديثك بدقة شديدة في كل المناسبات العامة وأحرص على كتابة نقاط منها أثناء الحديث وأبدأ في تحليلها مباشرة بعد انتهاء الخطاب وأغوص في مدلولاتها وآثارها على السامعين في القرية الكونية جمعاء، وليس على الحشد الجماهيري الماثل أمام المنصة، وأجد نفسي في مرات كثيرة محتاراً كيف أفلتت بعض تلك العبارات من الرئيس، ولماذا لم يؤطر حديثه في نقاط محددة بواسطة الخبراء وطوابير المستشارين اذا لم يكن الخطاب مكتوباً بتفاصيل دقيقة، وهذا هو الأوجب، وقد سمعت حديثك عن الشريعة في القضارف وبدأت أكتب هذه الأيام مقالاً بعنوان (أمر الشريعة بين ارض البعثة النبوية والقرية الكونية اليوم). أطرح في هذا المقال أفكاراً جديدة لإعادة النظر لفهم السعي لتطبيق الشريعة والدعوة للاسلام التي هي من أوجب الواجبات علينا بعد رحيل الرسول الى الرفيق الأعلى وانقطاع الوحي، فالعالم اليوم يمثل قرية صغيرة أو حوش واحد لأسرة واحدة من حيث امكانات التواصل بين أطرافه، وهو بذلك أصغر من أحياء مكة التي كانت تحيط بالكعبة المشرفة أيام البعثة المحمدية، والتي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثلاثة عشر عاماً مبشراً ونذيراً، ويطوف بالكعبة وبها ثلاثمئة وستين صنماً دون أن يقدم على كسرها، لأن في مكة أبو جهل وأبو لهب وأمية والوليد وشيبة….. وهؤلاء جميعاً يسكنون معنا اليوم في الحوش الكوني الصغير أو القرية الصغيرة إن شئت، حيث يوجد أبو جهل في بيت أبيض في غربها ويوجد أبو لهب في بيت أحمر في شمالها ويوجد الوليد في بيت أزرق في وسطها ويوجد أمية في بيت أصفر في شرقها…… هكذا يجب أن تكون نظرتنا لعالم اليوم وهكذا يجب أن يكون تعاملنا مع أمر الشرع دعوة بالحسنى وحديثاً عن بضاعة سمحة نسوقها داخل القرية الكونية بالتي هي أحسن، ونتعايش مع الآخر القريب والبعيد جغرافياً منا ولكنه بيننا في واقع الحال الآن، فكل ما يقال يسمع ويرى وكل ما يفعل مراقب داخل الحوش الكوني، وهذه فرصة نادرة لنبيع مبادئ الاسلام بالحسنى وأن نرفع شعار لا إكراه في الدين، وأن نجسد الأنموذج في القيم والمثل……… نواص

بروفيسور مصطفى إدريس يكتب : فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها

بروفيسور مصطفى إدريس يكتب : فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها

كتبهاأنور خالد ، في 11 سبتمبر 2011 الساعة: 07:52 ص



بروفيسور مصطفى إدريس

مقدمة:
لا شك بأن السودان يواجه أزمات حقيقية وخانقة تضعه على حافة الصوملة أو اللبينة أو السورنة (نسبة لما يجري في ليبيا وسوريا) ولاشك أن ذلك سببه في المقام الأول السياسات الخرقاء لحزب المؤتمر الوطني وحكومته المحنطة العاجزة عن الاتيان بأي مبادرات جادة لعلاج القضايا الكبيرة العالقة التي أفرزتها نيفاشا وانفصال الجنوب، ولا تلك المتعلقة بحياة الناس اليومية، وما يصاحبها من أزمات اقتصادية واجتماعية متصاعدة يصطلي بنارها الغالبية العظمى من الشعب السوداني، فالإنقاذ أضر بها طول المكث في السلطة والانفراد بها لوقت طويل دون منافس مقتدر ومقنع، فانتهى الحال بها إلى اللامبالاة والاستهانة بأمر البلاد والعباد، فقد عجزت عن أي تجديد أو تغيير في نهجها أو قياداتها التي شاخت وتحنطت في كراسي الحكم فانتهى بها الحال إلى نضوب المعين من أي عطاء نافع للبلد أو لمستقبلها هي نفسها إن أرادت أن تستمر في الحكم. فقد أصبح إصلاحها من داخل مؤسساتها أشبه بالمستحيل وكل من ينكر ذلك إما مكابر شرير عنيد وإما جاهل غبي بليد، أو عميل مغرض حقيد، وأما المراقب الواعي والمنصف صاحب البصر الحديد فإنه يصل إلى هذه النتيجة ويقر بأننا مقبلون على الصوملة أو اللبينة أو السورنة لا محالة إذا لم تتخذ تدابير عاجلة وعاجلة جداً لتغيير هذا الواقع المرير الذي نعيشه، فالاحتقان وصل ذروته في كل أنحاء البلاد غربها وشرقها ووسطها وشمالها وجنوبها الجديد، وكل الفرقاء في السودان يملكون السلاح والمليشيات المدربة وكثيرون منهم يملكون النصير عبر الحدود وفي ما وراء البحار، وإذا انطلقت الشرارة –وهي قاب قوسين أو أدنى- فلن تترك رطباً ولايابساً إلا قضت عليه، ولن يكون هناك (حشاش واحد ليملأ شبكته) ولن ينطبق علينا المثل (دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية).
في ظل هذا الواقع المريرلم تبق إلا فرصة واحدة لشخص واحد في منظومة الإنقاذ ليقوم بالتغيير ويجنب الأمة ويلات الفتنة وهو الرئيس والرئيس شخصياً ولا أحد غيره إذا توفرت لديه الإرادة للتغيير، ولن تتوفر له الإرادة للتغيير والحال على ما نراه الآن، إذ أنه محاط إحاطة السوار بالمعصم بأناس تواترت الأقوال والشواهد العملية بأنه ليس من بينهم ناصح أمين على أقل تقدير، ورغم ذلك لن نيأس من رحمة الله فربما يخلو الرئيس بنفسه ويعتكف لفترة من الزمن يبتعد فيها عمن حوله ويتأمل فيما يجري في الساحة السودانية من أحداث متلاحقة تنذر بشرور قادمة تضاف إلى ما عندنا سلفا من تعقيدات ومصائب، ولعل الرئيس يجد متسعاً من الوقت فيما تبقى من (الزمن الضائع) من عمر الإنقاذ ليصغي إلى ما قاله ويقوله الآخرون من الحادبين على المصلحة العامة في الساحة السودانية عن الأوضاع الحالية في البلاد، ومنهم أعضاء من داخل حزبه، وآخرون في صف المعارضة، فالرئيس فعلاً يحتاج لسماع أناس من غير بطانته الخاصة الحالية الذين أوصلونا إلى طريق مسدود وأوردوا السودان كله إلى التهلكة والزوال.
وعلى الرئيس أيضاً إن أراد أن يغتنم آخر فرصة متاحة له ويقود حملة التغيير أن يتخلّص من تلك البرامج الروتينية الرتيبة التي يشغلونه بها عمداً حتى لا يلتفت للإصلاحات الحقيقية المطلوبة في الظرف الراهن، ويتخذ القرارات الجريئة التي يحتمها الواقع الذي تعيشه البلاد بعد انفصال الجنوب، فالذين من حوله يريدون له أن يعيش بصورة مستمرة في الأحلام الوردية بأن الإنقاذ ما زالت دولة الإنجاز والإعجاز دون أن يدرك حجم المخاطر التي تحدق بالبلاد ويحس بالنار التي تسري تحت الهشيم لتلتهم الوطن بأكمله.. وعلى رأس البرامج التي يجب إعادة النظر فيها تلك الزيارات المبرمجة والمعد لها إعداداً محكماً مسبقاً من بطانته الحالية وما أكثرها في الآونة الأخيرة.. فما معنى أن يظل الرئيس في تجوال مستمر ويدعى لافتتاح محطة مياه شرب في أم درمان ومن بعدها بأيام يتظاهر معظم أهل العاصمة بسبب انقطاع المياه أو تلوثها بالطمي، وما المغزى من دعوة الرئيس لافتتاح مستشفى أو مباني داخل مستشفى وتظل معطلة لأكثر من عام بعد زيارته لها أو حتى طريق مسفلت أو جسر على أحد الانهار، فكلها أعمال روتينية من صميم واجبات السلطة التنفيذية في المواقع المختلفة على مستوى المركز والولايات والمحليات وتتم في كل أنحاء الدنيا دون احتفالات وحشود يشهدها الرؤساء، فلا تحتاج تلك الإنجازات أصلاً أن يقف عليها الرئيس مباشرة وتحشد له الجماهير ويرتب له صعود المنابر ليمتطي لسانه ويطلق له العنان بخطب مرتجلة أمام الجماهير المحتشدة قسراً، بالترغيب والترهيب وتبديد المال العام، وهذا والله أسوأ أسلوب لإدارة البلاد وحشد التأييد للدولة لم نشاهده إلا عندنا في السودان وفي الدول الشيوعية المندثرة.. وليت الأخ الرئيس يعتمد طريقة أخرى لمتابعة ما يجري في البلاد بتكليف خبراء محايدين يأتونه بتقارير دورية عما يجري في كل ولاية، وبدلاً من أن تطلب الولاية زيارة الرئيس لتريه هي ما تريده أن يراه فالعكس هو الأولى فيجب أن يحدد الرئيس موعد زيارته للولايات بنفسه بناء على التقارير المحايدة التي تأتيه ويطلع عليها بعمق، وعندما يذهب يقف على مواطن الخلل ميدانيا حسب التقارير وليس التوجه للافتتاحات المعدّة سلفاً، وصعود المنابر والثناء على القائمين على الأمر في تلك المواقع وإطلاق التصريحات النارية في شؤون عامة ليس لها علاقة بالزيارة والافتتاحات وفي أحيان كثيرة نحصد ثمارها علقماً مراً. فالرئيس يضطر للثناء على القائمين وإنجازاتهم جهارا نهارا أمام الحشود دون أن يعلم شيئا عن كثير من المآسي التي تعيشها الجماهير المحتشدة بغير إرادتها والمواجع التي تعانيها الأمة من القائمين على أمرها الذين يقومون بتعطيل المدارس وحشد القوات النظامية وإعداد فرق الهتافات والزغاريد لنجاح اللقاء الجماهيري الذي يصرف عليه بسخاء من المال العام وهدفه الأساسي أن يسمع القاصي والداني برضاء الرئيس عن أولئك المسؤولين بصورة مباشرة فيجدد لهم التفويض لمزيد من التسلط على رقاب العباد في ظل الفاقة والحرمان الذي تتصاعد وتيرته بين كل عشية وضحاها، وليت الرئيس في جولاته يمتنع عن الخطابة الجماهيرية ويعلن عن رغبته في سماع الصفوة وأهل الرأي الآخر فلعله يجد عندهم ما يستعين به على المهام الخطيرة التي تنتظره في مقبل الأيام حيث يتحتم عليه القيام بإجراءت رادكالية عاجلة خلال الفترة القليلة القادمة لإنقاذ البلاد من مصائب الإنقاذ، وربما انقاذ أهل الإنقاذ أنفسهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم.
لا أريد أن أسترسل في الحديث عن المهددات التي تواجه السودان الآن بعد ولادة دولة جنوب السودان بكل تبعاتها السالبة، وانفجار التمرد في جنوب كردفان بصورة مفاجئة وحلف كاودا الذي تشكل حديثا برعاية من حكومة الجنوب ودعم من امريكا واسرائيل وآخرين وكذلك المشكل المزمن في أبيي التي بدأ تسليمها لقوات أجنبية من الجارة العزيزة أثيوبيا ودار فور التي ما زال التواصل بين مدنها الكبرى يتم عبر الأطواف والحشود العسكرية وجنوب النيل الأزرق التي تعد العدة للتمرد، كل هذا بجانب الضغوط الاقتصادية على الأمة بسبب الغلاء الطاحن الذي يتصاعد مع بزوغ كل فجر جديد في ظل فساد واسع (عينك يا تاجر) وعجز إداري لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان المعاصر حيث تتحدث الحكومة نفسها عن جشع التجار واستغلال حاجات الناس وتعجز أن تقوم بأي إجراءات عملية لملاحقتهم والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات العلنية ولكن لا تتوفر لديها الإرادة للقيام بذلك لأن كل الامكانات الأمنية والشرطية مسخرة حاليا لحماية النظام والحيلولة دون قيام أي مظاهرات تنادي بإصلاح النظام أو إسقاطه.
نواجه كل تلك التحديات في ظل غياب تام للناصح الأمين على كافة المستويات في الحكم، بل وإصرار على العنجهية ودفن الرؤوس في الرمال من بعض قادة الإنقاذ الذين يتسابقون في التصريحات المستفزة للأمة.. السيف البتار.. لحس الكوع.. وإحراق من تسول له نفسه بالخروج.. حتى أصبح البعض يقول بأن قادتنا (مكتوبين- عاملين ليهم عمل) وسرى فيهم (العمل) بحيث لا يجدي معه حفلات أعتى شيخات (الزار) فهم يتبارون في إطلاق التصريحات التي تعجل بتقويض دولتهم وانهيارها بأنفسهم، فوالله الذي لا إله غيره فقد أصبحت سياسات أهل الإنقاذ ومواقفهم تجعل الحليم حيران، والعاقل مذهولاً والحادب محبطاً والشامت مغتبطاً.
على وجه العموم فنحن الآن أمام ثلاث خيارات في الشأن السوداني: اولها مبادرة عاجلة من الرئيس باصدار قرارات غير تقليدية لاحداث التغيير المطلوب وفي مقدمتها أن يلبس الرئيس الجلباب القومي ويتخلى عن قيادته للمؤتمر الوطني البائس المفلس ويعلن عن فترة انتقالية بمواقيت محددة يستعين فيها على حكم البلاد بخبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة بعيدا عن المحاصصة السياسية والشروع فورا في إعداد مسودات للمواثيق التي ترد للأمة حقها في اختيار الطريقة التي تحكم بها ومن ثم الشروع في انتخابات عامة في ظل حريات مشرعة كما سأورد بعض ملامحه بالتفصيل فيما بعد، وأما الخيار الثاني فهو أن يتحرك الحادبون على الوطن من كافة ألوان الطيف خاصة الإسلاميين الذين يقفون في الرصيف والذين ملوا الانتماء للمؤتمرين الوطني والشعبي، ويتواثقون على بناء تنظيم جديد من قواعد الشعب السوداني تحت مظلة شعارات جامعة وأهداف قومية واضحة تستوعب تعقيدات الظرف الراهن في السودان ويتجاوزون بذلك التنظيم الجديد تحجر السلطة القائمة وتعنتها وعجز المعارضة الضعيفة وتهافتها، ويسعون بعد استنفار قاعدة مليونية عريضة منظمة بدقة من الشعب في مدة زمنية وجيزة لتشكيل قوة ضاغطة ومنضبطة تثبت للجماهير بأنها تلبي طموحاتهم وتسعى لعلاج مشاكلهم فيفرض ذلك التنظيم نفسه في الساحة ويسعى لإحداث التغيير وسحب البساط من كل الفرقاء الموجودين في الساحة بما فيهم المؤتمر الوطني، ويتم ذلك دون استفزاز للقوات النظامية إذا لم يتم انحيازها الطوعي والفوري لمناصرة التغيير والوقوف مع خيارات الشعب مع اليقظة التامة للحيلولة دون حدوث فوضى يدرك الجميع بأن السودان لا يتحملها أبداً، ولابد من الاستفادة وأخذ الدروس والعبر من تجارب الشعوب التي سبقتنا في محيطنا العربي كما سأورد معالم كل ذلك أيضا لاحقا، وكلا الخيارين الأول والثاني يمكنهما السير معا جنبا الى جنب ونأمل أن يبادر الرئيس بالسرعة المطلوبة واتخاذ القرارات الشجاعة المطلوبة لاحداث التغيير طوعا قبل أن تسبقه الأحداث ويتصاعد الضغط الشعبي العارم وتصل الأحداث الى نقطة اللاعودة كما حدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ويصبح حينها هنالك شعار واحد (الشعب يريد إسقاط النظام)، أما الخيار الثالث إذا لم ينجح الأول أوالثاني فهو الصوملة لا محالة ولا شيء غيرها كما هو واضح للعيان.
لم أقصد بتلك المقدمة الطويلة التحامل على الإنقاذ ونقدها والهجوم عليها واتهامها بالفشل بدون أدلة دامغة وبراهين ساطعة، وقد كتبت عن أداء الإنقاذ وحزبها خلال العقدين الماضيين مطولاً بعد الانتخابات التي جرت في أبريل 2010 ويمكن الرجوع لتلك المقالات في موقعي على شبكة المعلومات الدولية، ولكن لابد أن نستعرض في المقالات القادمة بعض ما نادت به الانقاذ من شعارات عند مجيئها ونقيم كسبها فيما بشرت به ونطرح السؤال هل واقع الحال اليوم في السودان يعبر عن تلك الشعارات ويجسدها أم أن هناك نكوصاً وردة عن تلك الشعارات لا تخطئها عين كل مراقب للمسيرة وما سببها..

انتفاضة الأُمة وتحديات المستقبل10
فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها
بروفيسور مصطفى إدريس

أعلنت الإنقاذ عند مجيئها أنها صاحبة مشروع حضاري يسعى للمحافظة على وحدة البلاد وكرامة الأمة وسيادتها واستقلال قرارها وذلك بتحكيم شرع الله وبسط الشورى والعدالة وبناء دولة المؤسسات ووقف التدهور الأمني والاقتصادي المريع والنهوض بمُقدّرات الأمة واستغلال الموارد على ظهر الأرض وباطنها والارتقاء بالتعليم والصحة ورتق النسيج الاجتماعي…وهلمجرا….فأين نحن الآن من كل تلك الشعارات؟ هل حافظنا على وحدة البلاد وسيادة الأمة وبلادنا تتقطع وتقع تحت الاحتلال الأممي (الهجين والصافي) وتنهال علينا القرارات الدولية التي تسلب السيادة كل يوم حتى أصبح من العسير تعدادها بأرقامها التي فاقت تلك القرارات التي صدرت في شأن القضية الفلسطينية خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، ولعل آخرها وأشدها إيلاماً علينا ما كان بشأن التمديد الأخير للقوات الدولية في دار فور والذي أعطاها أيضًا حق التدخل في كل شبر من أرض السودان والتنسيق مع القوات الموجودة في مواقع أخرى من أراضيه أو في دول الجوار …ولا نملك نحن في المقابل أمام كل ذلك إلا الاحتجاج النظري والعويل ومن ثم التسليم بالأمر الواقع، فهل تمّ كل ذلك بسبب المشروع الحضاري الذي أعلنّاه كما يقول البعض أم أن غالب تلك التدخلات الخارجية سببها سوء التدبير منّا والاستغفال والاستحمار والاستدراج الذي يسوقنا إليه خصومنا؟ وهل نفعنا تقديم التنازلات والتودد إليهم والتعاون معهم حتى النخاع وفي أخطر الملفات الأمنية؟ وهل رضوا عنّا بعد أن وافقنا على فصل الجنوب واعترفنا بدولته في ظل قضايا عالقة كثيرة وعلى رأسها ترسيم الحدود ومشكل أبيي وجيوش الحركة الشعبية في الشمال….؟
كل مراقب مُنصف لمسيرة الإنقاذ يقول إنّها جلبت كثيرًا من عداوة الآخرين لها بسوء تدبيرها وتطاولها ومد أرجلها أبعد من طول لحافها وعدم مقدرتها على المناورات السياسية الذكية، وقد عرف خصومها كثيرًا من مواطن ضعفها وعلى رأسها التشبث بالكراسي وعدم القدرة على التغيير والتعامل بذات الكروت المحروقة، فظلوا ينصبون لها الشراك فتقع في الفخ بإرادتها ولا تستطيع الخروج منه حتى بتقديم التنازلات تلو التنازلات والانبطاح والقبول بالضرب على (القفا) والأمثلة في هذا الباب لا تحصى ولا تعد طوال مسيرة الإنقاذ…..هل نذكر موقف حكومتنا من غزو العراق للكويت وما تبع ذلك من مضايقات، وهل نذكر فتح البلاد على مصراعيها للحركات الإسلامية المخترقة وغير المخترقة وما نجم عن ذلك من مآسي للسودان إذ كان دخولهم بدون ضوابط واضحة… وهل نذكر قيام المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي والذعر الذي أصاب القوى الكبرى ودول الجوار منه…..وهل نذكر محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا…… دعونا نأخذ مثالاً واحداً من تلك الأحداث - وغيرها كثير- ونغوص في آثاره المدمرة على مسيرة الإنقاذ وليكن ذلك الحدث هو الاتّهام لحكومتنا بالمشاركة في تدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
تلك الحادثة مهما تنصلنا منها وتبرأنا فإن اعترافات الممسكين بزمام الأمور في تلك الفترة تقول بأن حكومتنا كانت ضالعة فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، صح ذلك أم لم يصح فدعونا نتأمل في المصائب التي جلبتها لنا إفرازات تلك الحادثة بعد فشلها وما ظللنا نعانيه من ويلاتها حتى الآن؟ كل الشواهد تقول إن تلك الحادثة قد استغلت استغلالاً بشعاً واتخذت ذريعة للابتزاز المستمر للإنقاذ من قبل النظام المصري البائد وكذلك من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي، فكان من ثمارها احتلال حلايب بدون مقاومة أو مساومة تذكر وكان استقطاب جيراننا ضدنا واستنفارهم لدعم التمرد في الجنوب حتى من دول شديدة التحفظ والمحافظة في محيطنا العربي، وكانت الحرب تشن على السودان عبر الحدود من يوغندا وكينيا وأثيوبيا وأريتريا بتمويل من القذافي وبعض دول الجوار الخليجي، واستأسد علينا الجيران الذين ساندناهم في الوصول للحكم في بلادهم وما زلنا نستدر عطفهم ونخشى بأسهم حتى اليوم في سابقة لم تحدث في تاريخ السودان في التعامل مع هذه الدول، وقد كانت سياسة حرب السودان وغزوه عن طريق جيرانه سياسة مدروسة ومتفق عليها وقد أعلنت عنها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق في أكثر من مناسبة.
كانت تلك الحادثة أيضاً من أكبر العوامل لزرع الفتنة وبذور الشقاق داخل القيادة في الدولة والحزب والتي توجت بانشقاق الإسلاميين في عام 1999 م. أقول ذلك وعندي تفاصيل كثيرة عن التحولات في المواقف والصراعات التي كانت تدور وسط القيادات في تلك الفترة التي أعقبت محاولة الاغتيال…. من هم الذين تم تهميشهم ومن هم الذين تم إبعادهم ومن هم الذين لقوا حتفهم ومن هم الذين تمت تصفيتهم ……ومن هم الذين صعد نجمهم ومن هم الذين بدأوا يقيمون المحاور داخل القيادة الى أن وصلنا الى المواجهة السافرة الخجولة في مذكرة العشرة الشهيرة وما تبعها من انشقاق ومواجهة بين الفريقين تسببت في معظم ما يعانيه السودان اليوم.
واستطيع أن أؤكد القول بأن ولادة أزمة دار فور لم تبدأ في عام 2003 بل نشأت وترعرعت من الصراع الذي أعقب محاولة اغتيال حسني مبارك داخل القيادة في الحزب والدولة أيضاً، وقد تابعنا بأسف شديد وحسرة بالغة تمرد الأخ داوود يحيى بولاد وخروجه على التنظيم والدولة وتعاونه مع الحركة الشعبية وتحركه بجيش عرمرم من الجنوب الى دار فور، وكثيرون منّا يعلمون دوافعه لتلك المغامرة الغريبة وقتها والتي لم تخطر على بال كل من يعرف بولاد عن قرب - وأنا منهم، وكذلك تابعنا الآثار التي نجمت عن إخماد تمرده، والتفاعلات التي كانت تدور في أروقة الحزب والدولة، فقد كانت تلك الأحداث (خميرة) لما تم لاحقاً في دار فور من تصعيد ومواجهات عسكرية ضاع خلالها الآلاف من الأبرياء وتعمقت مشاعر الكراهية والعداء بين أهل الملة الواحدة والتاريخ والمصير المشترك وتوقفت عجلة التنمية وأصبح (حالنا مكشوفاً) تلوكه كل الألسنة على ظهر الأرض، ولم يسلم من آثار فتنة دار فور رمز الدولة نفسه حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرًا باعتقاله على ضوء اتهامات موجهة له بشأن الحرب في دار فور وتريده أن يمثل بسببها أمام القضاء الدولي في لاهاي، وأصبحت تلك الملاحقة للرئيس هي الأخرى من الهموم والشواغل القومية الكبرى في مسيرة الدولة وعلاقاتها مع الأمم والشعوب……حدث كل ذلك وما يزال تبادل الاتهامات بين الوطنيين والشعبيين على أشده … من يقف وراء التمرد في دار فور…. ومن قام بالتصعيد…ومن ….ومن… فالمشكلة ما زالت تراوح مكانها وتتصاعد وتجد من يصب عليها الزيت في كل مرحلة من مراحل تطور الأحداث في السودان ولم يجدنا نفعاً اتفاق أبوجا ولا توقيع نيفاشا وإنفاذ كل ما طلب منّا فيها ولن يكون اتفاق الدوحة بأفضل من سابقيه، وكل المراقبين السياسيين يقولون إنها مرشحة لمزيد من التصعيد بعد انفصال الجنوب وقيام حلف كاودا إذا لم تتم المراجعة والمحاسبة وتغيير المنهج الذي تسير به البلاد حالياً ….. فاتقوا الله في الأمة يا قادتنا…..
استمر الصراع والتنافس والكيد المتبادل بين الفرقاء الإسلاميين بعد الانشقاق ولم يقتصر على دار فور وامتد الى قضية الجنوب أيضاً بالرغم مما بذلناه في سبيلها من دماء غالية وأهدرنا فيها من موارد كان يمكن أن تحول السودان كله إلى جنة، فكانت مذكرة التفاهم بين الشعبي والحركة الشعبية في جنيفا التي أدانتها الحكومة واستنكرتها بأشد الألفاظ والألقاب، ولكن ما لبثت هي الأخرى أن سارعت الى الجلوس مع المتمردين وقدمت لهم التنازلات التي لم يحلموا بمثلها وهم يتقدمون نحو كوستي بجيوشهم قبل مجيء الإنقاذ….. فكانت نيفاشا التي لم تغب عن أجوائها أيضًا ظلال محاولة اغتيال حسني مبارك وما تبعه من انشقاق وشقاق بين الإسلاميين فقد ظل كل طرف يسعى لتسجيل هدف في مرمى الطرف الآخر بالتودد الى خصومه خاصة الحركة الشعبية. كل ذلك جعل مهمة رعاة المفاوضات الغربيين سهلة في نيفاشا وتمكنوا من ممارسة الضغوط المستمرة خلال تسعة أشهر متواصلة مع استعراض العضلات ورفع الكروت الحمراء وفتح الصحائف السوداء والتهديدات عند الضرورة حتى ولدت نيفاشا (بسكين النفاسة) وبكل تلك التشوهات الخلقية والخلقية حيث التنازلات المخزية والمحزنة التي قادتنا الى الشراكة المجحفة مع الحركة الشعبية التي تنازلنا لها عن الجنوب بكامله وأشركناها في حكم الشمال وتقاسم الثروات البترولية ويالها من مصيبة.
بعد توقيع الاتفاقية لم نفطن لخطورتها ولم نخضعها لنقاش وافٍ يبين عيوبها ويمكننا من التحوط للمخاطر المترتبة عليها وتمّ تمريرها عبر الأجهزة المحنطة والمغلوب على أمرها دون تمحيص وذلك من باب حفظ ماء وجوه الذين وقعوها - كيف لا وهم من سادتنا وقادتنا وفلذات أكبادنا- وظللنا من بعد ذلك غارقين في المعارك الجانبية على مدى خمس سنوات في المرحلة الانتقالية مع الحركة الشعبية التي أفلحت في جرنا إليها بالاستخدام الأمثل لقدرات فاقان وعرمان على السفسطة والثرثرة ووضع المطبات حتى داهمنا الاستفتاء الذي تم دون ترسيم الحدود أو حل مشكلة أبيي أو الاتفاق على مصير الجيوش في جنوب كردفان والنيل الأزرق وكذلك الديون الخارجية والنفط وغيرها من القضايا التي ما تزال عالقة…..والتي أقسمنا في بادئ الأمر على أن الاستفتاء لن يتم دون حلها. وتم الانفصال المؤلم وبأغلبية ساحقة تظل شاهدة على عجزنا في التنبؤ بالأحداث وضعف التدبير السياسي أبد الدهر، ولم تشفع لنا أو تسعفنا المليارات التي بددناها بلا رقيب ولا حسيب في الجنوب قبيل الاستفتاء مباشرة أملاً في تغيير النتيجة أو على الأقل تقليل نسبة المصوتين للانفصال الى الحد الذي يحفظ ماء الوجه، فقد كانت تلك المشاريع التي سعت القيادة لتنفيذها في الجنوب قبيل الاستفتاء أشبه بـ (علوق الشدة) وهو إطعام الدابة قبل إسراجها استعداداً للسفر مباشرة وهي جائعة منذ زمن بعيد فلن يعينها ذلك العلوق ويقويها لقطع المشاوير الطويلة التي تنتظرها كما يقول أهلنا الطيبون…..تم انفصال الجنوب بالرغم من الدماء التي أريقت منذ الاستقلال من أجل المحافظة على وحدة السودان وخاصة في عهد الإنقاذ التي صعدت الحرب وعملت على دحر التمرد في إطار شعارات التوجه الحضاري ونشر الدعوة، وتمّ الانفصال وذهبت معه الثروات النفطية التي بذلنا جهوداً خارقة لاستخراجها واستثمارها وكل المراقبين يقولون بأن ذلك لن يحقق السلام المزعوم….
كل المراقبين في الساحة يقولون بأن الانفصال الذي تم لن يحقق السلام المنشود ولن ينتج منه إلا المزيد من الحروب والمواجهات الدامية التي يخسر فيها الجميع وعلى وجه الخصوص شمال السودان كما نرى الآن، حيث لم يمض سوى شهر واحد على الانفصال (وأهلنا يقولون العينة من باديها) حتى تفجر الصراع المسلح في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق تتهيأ لذلك أيضاً وقام تحالف كاودا بين المتمردين في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وربما تبعهم آخرون…. وهرعت وفود التمرد الى إسرائيل انطلاقًا من جوبا عاصمة الدولة الوليدة وصعدت أمريكا والغرب من حملتها ضد الحكومة وقد تنبأنا بكل ذلك في مقالات سابقة نشرت قبل أكثر من عام ولكن لا حياة لمن تنادي.
إن الذي تم في نيفاشا وما تبعه من شراكة غريبة ومريبة مع الحركة الشعبية اتسمت بالتدليل والحرص على عدم التصعيد والمواجهة معها في كثير من القضايا التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية زادها تعنتاً وإصرارًا على كسب المزيد من التنازلات والتي يصعب علينا نحن عامة الشعب السوداني تفسيرها أو قبولها في حدود إبداء حسن النية أو السذاجة وعدم الخبرة (والاستكرات) فحسب، بل الأمر ربما كان أعمق من ذلك بكثير، وحتما يحتاج الأمر برمته لمراجعة شاملة ومحاسبة لمن وصلوا بنا الى هذه النهاية المأساوية المؤلمة والمخيبة للآمال، فالتحقيق في مثل هذه الأحداث الجسام يحدث في كل الدول التي تحترم نفسها وشعبها وتنظر الى مستقبلها وقد فعلت إسرائيل ذلك بعد الهزيمة التي تجرعتها من حزب الله وحركة حماس وطارت رؤوس وخلت مقاعد وسجن آخرون، فنحن في انتظار الرئيس ليفي بوعده الذي أعلن عنه بالمراجعة الشاملة لمسيرة الإنقاذ خلال الفترة الماضية والدخول في مرحلة جديدة كما سموها الجمهورية الثانية، فالحال لن يستمر على ما كان عليه في الجمهورية الأولى مهما حاولنا تبرير ما تم بالكلام المعسول والوعود الفارغة والأماني المستحيلة، وألقينا باللائمة على الحكومات المتعاقبة على حكم السودان وحملناها معنا قسطًا من وزر الانفصال.
وهكذا عزيزي القارئ فإن حادثة واحدة مما كسبت أيدينا وليس بسبب كيد الأعداء سواء جاءت تلك الحادثة بتفلتات فردية أو توجه رسمي للدولة تسببت في مآسي دفع ثمنها الشعب السوداني باهضاً ودفع ثمنها المشروع الذي جاءت به حركة الإسلام في السودان ودفع ثمنها قادة البلاد وحكامها وما يزال ينتظرنا المزيد إن لم نستيقظ وننتفض. وعدم علاج تلك الحادثة بالحسم الواضح في وقتها ظل مصدر ابتزاز مستمر للدولة وقادتها، وقد ظلت تفاصيلها في طي الكتمان ولم يرشح منها إلا النذر اليسير وفي إطار المكايدات بين الإسلاميين بعد انشقاقهم ولكنها كانت ورقة قوية تمكن خصوم الإنقاذ من استثمارها بصورة مستمرة حتى الشهور الأخيرة قبل رحيل الرئيس مبارك حيث تابع المراقبون في الساحة السياسية السودانية باستغراب شديد الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس المخلوع حسني مبارك برفقة القذافي الذي شارف الخلع أيضًا للسودان والإملاءات التي حاولا فرضها على القيادة في السودان كما تحدثت عن ذلك بعض وسائل الإعلام المنشورة والمستورة، وقبلها أيضاً تواترت الأخبار عما تلقاه أحد المسؤولين الكبار من معاملة لا تليق بالمقام السيادي الرسمي لدولتنا عند زيارته لمصر ومحاولته اللقاء بالرئيس حسني مبارك قبل عامين، حيث قوبل بطريقة كان فيها المزيد من الاستفزاز والابتزاز………. بعد هذا السرد الموجز جدًا نطرح السؤال مرة أخرى أين نحن الآن من شعار الحفاظ على السيادة ووحدة التراب وكرامة الأمة وهل ما واجهناه في هذا الباب كان بسبب كيد الأعداء أم بسوء كسبنا نحن؟.

كل المراقبين في الساحة يقولون بأن الانفصال الذي تم لن يحقق السلام المنشود ولن ينتج منه إلا المزيد من الحروب والمواجهات الدامية التي يخسر فيها الجميع وعلى وجه الخصوص شمال السودان كما نرى الآن، حيث لم يمض سوى شهر واحد على الانفصال (وأهلنا يقولون العينة من باديها) حتى تفجر الصراع المسلح في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق تتهيأ لذلك أيضاً وقام تحالف كاودا بين المتمردين في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وربما تبعهم آخرون

إن الذي تم في نيفاشا وما تبعه من شراكة غريبة ومريبة مع الحركة الشعبية اتسمت بالتدليل والحرص على عدم التصعيد والمواجهة معها في كثير من القضايا التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية زادها تعنتاً وإصرارًا على كسب المزيد من التنازلات والتي يصعب علينا نحن عامة الشعب السوداني تفسيرها أو قبولها في حدود إبداء حسن النية أو السذاجة وعدم الخبرة (والاستكرات) فحسب

انتفاضة الأُمة وتحديات المستقبل11

فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها

بروفيسور مصطفى إدريس

أما فيما يختص بالتزام الإنقاذ وكسبها في تطبيق الشريعة واعتماد الحكم الراشد والنزاهة والشفافية واتباع المؤسسية في صنع القرار وتحقيق العدالة والرفاهية ورتق النسيج الاجتماعي فإن كل ذلك ظل شعارات تلوكها الألسن ويتم استخدامها كمُسكّن عند اللزوم بغرض دغدغة عواطف الجماهير خاصة عند النوازل الكبرى والانتخابات، حيث تستخدم تلك الشعارات خاصة الشريعة كأدوات من أجل الكسب الرخيص للتأييد والسعي المُستميت للبقاء في الحكم لأطول مدة ممكنة دون أن يسند ذلك جهد مقدر لتنزيل تلك الشعارات في واقع حياة النّاس العامة بصورة جادة طوال الفترة السابقة من عمر الإنقاذ التي تمت فيها (دغمسة الشريعة) كما جاء في اعترافات المسؤولين الكبار أنفسهم، ومهما تحدثنا عن كثرة المساجد وازدياد روادها والاهتمام بالقراءن وكثرة الحفاظ واستخراج البترول وإقامة السدود ورصف الطرق وزيادة عدد الجامعات والمدارس والوفرة في السوق…..بالرغم من كل تلك الإنجازات فإن شواهد الواقع اليوم تكشف عن (دغمسة واسعة) وتراجع كبير جدًا في الأداء الرسمي للدولة تسبب في انحسار المثل واندثار القيم التي عُرف بها الشعب السوداني طوال تاريخه الممتد عبر العصور من حب الكرامة والكرم والشهامة وعزة النفس والحياء والعفاف والتعفف والتواضع والتكافل الطوعي والمشاركة في السراء والضراء والمواساة والتداخل الأُسري والتعاون والنفير والنفرة وضيق الهوة بين الفقير والغني ومناصرة الحق، أين تلك القيم اليوم مع ما نراه عياناً بياناً من تنامي الجهوية والقبلية والطبقية التي تميز بين من ينتسبون إلى الإنقاذ وبين من لا ينتسبون لها أومن يعارضونها، فحالنا لا تختلف عن حال الشعوب التي انتفضت من حولنا في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لا أظن ذلك أبداً فالشعب كله يراقب حال الذين ينتسبون للطبقة الحاكمة في كافة المواقع من المحليات إلى الأجهزة الدستورية العليا وفي الشركات والمؤسسات وغيرهم ممن تظهر عليهم آثار النعمة فجأة وبدون مقدمات أو سند تاريخي بأنهم من الوراث، فكثير ممن كانوا يرقعون الثوب ويخصفون النعل قبل الإنقاذ أصبحوا أصحاب شركات وممتلكات عابرة للقارات فهل هي (الفلاحة) والاجتهاد والجهد الذاتي فقط ما أوصلهم إلى تلك الحال أم هي المحسوبية والتمييز والسرقة المباشرة وغير المباشرة. لا يحتاج قادتنا إن توفرت لهم الإرادة لمحاربة الفساد أن يطالبوا وسائل الإعلام التي تكشف كل يوم عن قرائن تشير الى الفساد في موقع ما أن تأتي بدليل قاطع على الفساد بينما ترفض المؤسسات تزويد الإعلام بأي تفاصيل وتتستر على منسوبيها وترفض تمليك أي إعلامي تفاصيل الوثائق التي تثبت أو تنفي ما رشح في وسائل الإعلام، هذا إذا لم يكن جزاؤه الضرب والحبس والتنكيل والتهديد كما حدث لبعض الصحفيين. فأين الشفافية في ممارسة الحكم؟ عموماً فإن المتابع للأحداث عبر النوافذ الإعلامية المتاحة -وما أكثرها في هذا الزمان- وكذلك التقارير العلمية التي تنشرها بيوت الخبرة المحايدة وغير المحايدة يصاب بالغثيان والخجل والإحباط مما آل إليه الحال في أداء الدولة السودانية، ولا أقصد بذلك الإعلام المتحامل علينا ولكن مصادر المعلومات التي تنتهج النهج العلمي وفق معايير متفق عليها في الجامعات ومعاهد البحوث المتخصصة والتحليل الإحصائي الدقيق كلها تؤكد أننا في تراجع مستمر ونأتي في ذيل القائمة على المستوى العالمي في غالبية مناحي الحياة وفق المعايير المتفق عليها، وينطبق ذلك على سيادة حكم القانون – أي قانون كان- وعلى تفشي الفساد الإداري والمالي الذي يزكم الأنوف وفي الدمار الذي أصاب الخدمة المدنية وانهيار مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية وتفشي المحسوبية وعدم الاتقان في كل عمل يؤدى في أي موقع خدمي، صناعي، تجاري، وظيفي وفي تدهور البيئة وتفشي الأمراض والأوبئة وانتشار الجريمة بأنواعها المختلفة وتلاشي الحدود ما بين الدولة والحزب والنقابة. ومما يؤسف له حقاً أن كل ذلك يتم على مرأى ومسمع من المجموعة المحدودة التي تستأثر بالحكم وصناعة القرار والتي تحيط نفسها بطوابير من الكوادر الضعيفة التي لا تنصح من أهل الولاء المزيف فكانت النتيجة الحتمية أن تحولت طموحات الإنقاذ التي جاءت من أجلها الى سراب وتحولت إنجازاتها الكبيرة التي تحققت إلى إخفاقات بسبب عدم القدرة على تسويقها بطريقة مقبولة وأصبح كثير من خصومها الحقيقيين أو المتوهمين أبطالاً بسبب قدرتهم على تسويق إخفاقات الإنقاذ وسوء تصرفات بعض قادتها دون أن يخوضوا ضدها حرباً بالسنان، والأمثلة في هذا الباب لا تحصى ولا تعد وقد فصلت في إخفاقات الدولة خلال الفترة الماضية في مقالات سابقة نشرت بعد الانتخابات التي جرت في أبريل عام 2010 يمكن الرجوع إليها في موقعي على الشبكة العنكبوتية Mustafaelbashir.comوبدلاً من الاستفادة مما ورد في تلك المقالات من نصائح فقد جلبت علينا نقمة بعض القائمين على الأمر وغضبهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومهما أحسنّا الظن في نوايا قادتنا الكبار وصدق توجههم في إحقاق الحق وتوفير العدالة ومحاربة الفساد فإنني على يقين تام بعد معايشة لصيقة لأداء الدولة في مواقع كثيرة بأنهم لن يفلحوا أبدًا في إقامة الحق ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة في الجمهورية الثانية في ظل الأوضاع القائمة حاليًا وفي وجود ذات الوجوه المتحكمة في دولاب الدولة من المحترفين المخضرمين والمعتقين الذين عرفوا كيف يستخدمون اسم الحزب الحاكم في إملاء ما يريدون وتنصيب من يحبون ويتغلغلوا في النقابات التي سلبت إرادة العاملين وأصبحت حكراً لفئات بعينها على مر السنين ولا يقبل البعض منهم أو يساوم بفراقها حتى بعد بلوغ سن المعاش، وكذلك هناك كثير من التكوينات والمنظمات الإنقاذية الرسمية وغير الرسمية التي تمكن العاطلون من كل المواهب والمؤهلات والمفسدون في الأرض وأصحاب المصالح الشخصية من التسلل إليها وظلوا يتسببون في تكريس الواقع التعيس الذي تعيشه الدولة والشعب والذي يزخر بالأزمات المتلاحقة التي لا تترك للقادة للكبار وقتاً- إذا أحسنا بهم الظن- ليتابعوا ما يجري ويطلعون على ما تقوم به الذئاب وبني آوى والرخم من تعطيل لمصالح البلاد والعباد. فقد عرف أؤلئك المتسلقون كيف يلعبون ويموهون على الكبار ويكسبون ود بعضهم وينالون ثقتهم المطلقة ويقنعونهم بكفاءتهم، وأهم من ذلك كله عرفوا كيف يؤدون فروض الولاء والطاعة المبالغ فيها وبطريقة ملائكية بحيث لا يردون للكبار أمرًا ويفعلون كل ما يطلب منهم على الوجه الأكمل خاصة في المسائل البعيدة عن المصلحة العامة للأمة. وكل من يقرأ هذه السطور ويتأمل في محيطه الذي يعمل فيه في مؤسسات الدولة المختلفة يجد شواهد على ما نقول وقد تحدث عن ذلك الوباء القاتل كثير من الحادبين على المسيرة مرارًا وتكرارًا قبل الشامتين والمتربصين ولكن لم يحدث أي تغيير يذكر، نفس الوجوه ونفس الشخصيات وذات المنهج الى أن تقع الطامة الكبرى ويعم الطوفان ولا عاصم في ذاك اليوم من أمر الله وسننه الذي لا يتخلف عنها إلا من رحم. فالإنقاذ يا معشر القادة الكبار قد ضلت طريقها أو اختطفت إن لم تكن قد تنكبته عمداً وبفعل فاعلين مندسين، وبسبب أفعالهم أصبحت دولتنا في المرتبة الثالثة (قبل الطيش) في قائمة الدول الفاشلة في العالم بعد أن توفرت فيها معايير الدولة الفاشلة الاثنا عشر وهي : 1 / الضغوط الديمغرافية ( سوء توزيع السكان والنزاعات بينهم ) 2 / اللاجئون والمهجرون والمشكلات الناتجة عن الهجرة والنزوح 3 / فساد الحكم وغياب المحاسبة والشفافية وضعف الثقة بالمؤسسات 4 / هجرة العقول من أوطانهم 5 / تدهور حاد في تقديم الخدمات للجمهور 6 / استفادة أقلية معينة من النظام السياسي وهضم حقوق الأغلبية المهمشة 7 / وجود تراجع اقتصادي حاد واختلال الميزان التجاري وضعف سعر الصرف بالعملة المحلية وانخفاض في معدلات الاستثمار وهبوط في الدخل الإجمالي 8 / انتهاك حقوق الإنسان وانتهاك حرمة القانون 9 / وجود انشقاقات داخل النخب الحاكمة وظهور انقسامات دستورية حادة 10 / تدهور الوضع الأمني (دولة داخل دولة) مثل سيطرة نخبة عسكرية داخل الجيش أو مجموعة أمنية معينة واندلاع نزاعات مسلحة بين مراكز القوى المختلفة 11 / غياب التنمية الاقتصادية وعدم المساواة بين السكان في الوظائف والتعليم والمداخيل 12 / تدخل دول أخرى فى شؤون الدولة الداخلية من خلال دعم تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية والاستعانة بقوات دولية أو قوات حفظ سلام. وواضح أن كل من يتأمل في هذه المعايير يمكنه أن يجد لها آلاف الأمثلة من واقع الحال في السودان اليوم ويتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن دولتنا قد فشلت في الوفاء بوعودها التي قطعتها عند مجيئها قبل أكثر من عقدين من الزمان ونكتفي للفت نظر المسؤولين الكبار بأسئلة نطرحها عليهم عن مدى إلمامهم بعظم المصائب التي يعاني منها السودان اليوم بسبب الاخفاقات في أداء الدولة التنفيذي في الجوانب الإدارية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية….دون تفصيل دقيق على ضوء النقاط البسيطة التالية: هل يعلم المسؤولون الكبار أسباب وحجم العجز الإداري الذي أصاب معظم مؤسسات الدولة الكبرى والصغرى منها بدءًا من مشروع الجزيرة والسكة حديد والوزارات والجامعات الى شفخانة شلعوها المغاوير ومدرسة باعوها المحافير ومحلية أكلوها المزاوير…. وهل غاصوا في أسباب ذلك الفشل الواضح للعيان ليعرفوا كيف تتم التعيينات في المناصب الإدارية العليا والصغرى وهل تراعى فيها معايير الكفاءة والمؤهلات أم تغلب عليها الجهوية والمناطقية والولاء الحزبي المزيف؟ وللتحقق مما أقول -إن لم تكونوا تعلمونه سلفًا - أطلبوا معلومات عن ثلاث مؤسسات حكومية عريقة خدمية كانت أم تجارية أم سيادية متعثرة وغوصوا في أسباب فشلها وفي هوية من يحركون دولاب العمل المتعثر فيها ومؤهلاتهم ومن هم الذين يستأثرون بالقرار في تلك المؤسسات، وهل تتم القرارات وفق التسلسل الهرمي الوظيفي أم أن هناك (فناطيط) صغار متنفذين يفرضون أنفسهم على الكبار خارج المؤسسية ويتحكمون في كل قرار يصدره المسؤول الأول ويستأثرون بالمميزات الوظيفية والحوافز والمكافآت….واسألوا من أين جاء هذا المقرب ….ومن ذاك المتسيد… ومن هذه المستأسدة …..وما علاقتهم جميعاً بالمسؤول الأول؟ هل هي تنظيمية أم مناطقية أم جهوية أم قبلية أم أسرية…أم….. موظف في مؤسسة عريقة ترك له الحبل على الغارب- لأنه واصل- فيما يتعلّق برصد حقوق العاملين ومخصصاتهم لفترة طويلة والتعامل معها في جهاز الحاسوب، فاكتشف بعد فترة طويلة أنه يتلاعب كيف يشاء في الأرقام ويخص بعض من يصطفي من العاملين والعاملات في المؤسسة بمخصصات إضافية بصورة انتقائية- ووراء الأكمة ما وراءها- ووصلت تلك المخصصات غير الشرعية الى أرقام مليونية وظلت تصرف بصورة مستمرة ولم تكتشف إلا بالصدفة البحتة…….ذات الموظف قبض متلبساً بجريمة نكراء تخدش الحياء ويتعذر ذكر تفاصيلها في فترة سابقة داخل مكاتب الدولة…ولم تتم معاقبته وتجدر الإشارة إلى أنه يأتي في بعض المناسبات (بالميري) الزي العسكري ويدعي أنه مستنفر ضمن كتائب الإسناد المدني وما يزال حرًا طليقاً بعد إيقافه عن العمل…وبس. جمعتني دعوة عشاء مع بعض الوجهاء في صالون أحد الوجهاء الفسيح وكان من بين المدعوين رجال أعمال وإعلاميون ومديرون سابقون لجامعة الخرطوم فسألني أحد الحاضرين عن أحوال الجامعة وكيف أديرها في ظل الأزمات المالية الخانقة وتكاثر الأعداد وضعف البنية الأساسية، فحدثتهم مطولاً عن العقبات التي واجهتني في البداية وكيف بدأت في التغلب عليها بالغوص العميق والنزول الى أدنى السلم الإداري والتعرف على المشاكل من جذورها عن قرب وحدثتهم عن أني فتحت كثيرًا من الملفات الشائكة والصعبة التي كان يؤجلها أسلافي أو يتجاهلونها حتى تنتهي دورتهم في إدارة الجامعة بسبب صعوبة الغوص فيها لأسباب كثيرة على رأسها الخوف من التدخلات السياسية من المتنفذين الصغار داخل الجامعة ومن المتنفذين الكبار الذين يسندونهم خارج الجامعة ويثقون في التقارير التي يرفعونها لهم ويتم تقيمهم لأداء الإدارة وفق ما يأتيهم به أولئك الصغار المتنفذون في الداخل، وعندما انتهيت من السرد الذي جذب انتباه الحضور قال لي البروفسور مأمون حميدة في دعابة بليغة وباللغة الإنجليزية Mustafa, you know too much more than you are supposed to know as Vice Chancellor in this erra and you will not stay any longer in office - you have to go very soon فقد قال إنني صرت أعرف عن المشاكل بالجامعة أكثر مما يجب أن يطلع عليه المدير في مثل هذا الزمان الذي نعيشه ولن أبقى في موقعي طويلاً ويجب أن أرحل– وقد صدقت نبوأته ومن بعدها دار نقاش بين الحاضرين في ذلك العشاء الفاخرعن مواصفات المدير الذي يعمر طويلاً في موقعه في مؤسسات دولة الإنقاذ….فكان خلاصة ما ذكروه عنه (أنه يأتي إلى المكتب بعد العاشرة صباحاً ويتصفح الصحف اليومية، ويطمئن على أن الجواز والتذاكر والنثرية بالدولار جاهزة للسفرة القادمة خارج البلاد في مهمة جديدة غير تلك التي كانت في الأسبوع الماضي، ومن ثم يبدأ في مطالعة البريد المهم بعد تصنيفه بواسطة السكرتارية الحصيفة التي تعطي اهتماماً خاصاً وأولوية للمذكرات التي تأتي من المسؤولين الكبار بالقلم الأخضر والأحمر وغالباً ما تحتوي…. بطرفكم ابننا /ابنتنا/ود جيرانا/…فلان وهو من أهل الثقة والسبق .و……فأرجو أن يجد منكم الاهتمام والرعاية وإجابة طلبه……ثم بعد ذلك ينظر المدير في الدعوات التي وصلته للمشاركة في اجتماعات اللجان التي يشكلها الكبار خاصة فيما يتعلق بتطبيق الإستراتيجية القومية الشاملة والخطة الخمسية والربع قرنية ولجنة ضبط الجودة وتحسين الأداء في مؤسسات الدولة والخطة الإسعافية لنجاح الموسم الزراعي والصناعي والتبعيلي…..ولجنة الضغط على المصروفات وتقييد السفر للخارج وتوطين التقانة والعلاج وصناعة طائرات الإنذار المبكر التي تكتشف الطائرات المغيرة قبل وصولها للأجواء السودانية وهلم جرا….وقبل أن يخرج السيد المدير (المعمر في كرسيه) للمشاركة في اجتماع إحدى اللجان المذكورة ربما استمع الى تنوير عن مجريات العمل في المؤسسة التي يُديرها من نائبه أو مدير المكتب….. (والخلاصة كلو تمام يا أفندم – وربنا يطول عمرك ويخليك لينا)… هذه نماذج بسيطة عن حال الخدمة المدنية وما آلت إليه في عهد الإنقاذ… مهما أحسنّا الظن في نوايا قادتنا الكبار وصدق توجههم في إحقاق الحق وتوفير العدالة ومحاربة الفساد فإنني على يقين تام بعد معايشة لصيقة لأداء الدولة في مواقع كثيرة بأنهم لن يفلحوا أبدًا في إقامة الحق ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة في الجمهورية الثانية في ظل الأوضاع القائمة حاليًا وفي وجود ذات الوجوه المتحكمة في دولاب الدولة من المحترفين المخضرمين والمعتقين الذين عرفوا كيف يستخدمون اسم الحزب الحاكم في إملاء ما يريدون. ******* العقبات التي واجهتني في الجامعة تغلبت عليها بالغوص العميق والنزول إلى أدنى السلم الإداري والتعرف على المشكلات من جذورها عن قرب وفتحت كثيراً من الملفات الشائكة والصعبة التي كان يؤجلها أسلافي أو يتجاهلونها حتى تنتهي دورتهم في إدارة الجامعة بسبب صعوبة الغوص فيها لأسباب كثيرة على رأسها الخوف من التدخلات السياسية من المتنفذين الصغار داخل الجامعة ومن المتنفذين الكبار الذين يسندونهم خارج الجامعة ويثقون في التقارير التي يرفعونها لهم ويتم تقيمهم لأداء الإدارة وفق ما يأتيهم به أولئك الصغار المتنفذون في الداخل.

عن صحيفة التيار

الإنقاذ ومتلازمة الحكام العرب



الإنقاذ ومتلازمة الحكام العرب
(الاستعداء والإقصاء والاستعلاء فالفشل فالنكران والعناد ثم السقوط المدمر)
بروفسور مصطفى ادريس البشير
مقدمة:
في البدء لا بد أن نشرح معنى كلمة متلازمة (Syndrome ) التي وردت في العنوان، فهي مصطلح يكثر استخدامه فى الطب. فبعض الامراض يطلق عليها لفظ متلازمة عندما تتعدد أعراضها وتصيب أكثر من عضو في الجسم وربما يكون سببها خلل في عضو واحد من الجسم، فعلى سبيل المثال من أشهر المتلازمات في الطب مرض البول السكري الذي يحدث اما بسبب عدم افرازهرمون الانسيولين بواسطة غدة تسمى المعثكلة (البنكرياس) أو عن عدم فعاليته في احداث أثره في الجسم ان وجد وذلك لأسباب متعددة...، فغياب الانسيولين أو عدم فعاليته يتسبب في مرض البول السكري الذي يطلق عليه متلازمة اكلنيكية Syndrome Clinical اذ لا يوجد بالجسم نسيج لا يتأثر بمرض البول السكري اذا لم تتم معالجته بجدية، وأهم شئ يطلب من المريض هو الحرص على اتباع الارشادات الطبية، فمرض البول السكري بمرور الزمن وعلى مراحل عدة يؤثر بصورة رئيسية على القلب والشرايين والكلى والعيون والجهاز العصبى والجلد والعظام ....وربما جاء المريض الى الطبيب يشكو من آلام وأعراض ناتجة من اصابة أي من تلك الانسجة أو كلها أو بعضها....فحكامنا العرب مصابون بمتلازمة أعراضها الاستعداء والاقصاء والاستعلاء فالفشل فالنكران والعناد ثم السقوط المدمر وأول مسبباتها طول المكث في السلطة والاستئثار بها دون غيرهم من خلق الله مما يتسبب في تلك الأعراض السلبية المتعددة لا محالة، وتتشابة تلك الأعراض ويمكن أن نطلق عليها مجازا(متلازمة الحكام العرب) لأنها في نهاية المطاف تنتهي باجهادهم هم أنفسهم وتتعثر أو تنعدم قدرتهم على العطاء الايجابي ومن ثم تبدأ المشاكل التي تنتهي بهلاكهم او اقصائهم بواسطة الجماهير الغاضبة. وقد رأينا ذلك عمليا في الأمثلة التي سبقت في تونس ومصر وليبيا واليمن وما زالت سوريا تنتظر والحبل على الجرار كما يقول الدكتور فيصل القاسم، والخاسر الأكبر من كل ذلك هو الأمم والشعوب التي تدفع التكاليف الباهظة في الأرواح والاقتصاد والأمن الاجتماعي دون جدوى أو أمل في استجابة اؤلئك الحكام للتنازل الطوعي أو الاعتبار من بعضهم بعض، ولنا أن نسأل هل يختلف أهل الانقاذ عن غيرهم من الزعماء الذين ثارت عليهم الشعوب كما يزعمون؟ وهل بدأ الربيع العربي عام 1989 في السودان كما يدعي بعضهم؟ وهل الانقاذ محصنة من الثورة بما تجده من تأييد شعبي كاسح تجسد فيما جرى في الانتخابات العامة الأخيرة في عام 2010 كما يقول قادتها ومنظروها؟
للاجابة على هذه الأسئلة وغيرها بالمنطق الهادئ دعونا نتابع مسيرة الانقاذ بايجاز شديد عبر المحطات الكبرى في عمرها المديد ونشخص بعض ما أصابها من علل أنتهت بها الى المتلازمة المذكورة أعلاه، ورجاؤنا كبير في أن بعض قادتها ربما يقتنعون بوجود تلك المتلازمة ويقبلون بالوصفة الدوائية التي نقدمها لهم في ختام هذه المقالات وتكون هنالك فرصة للتعافي قبل الوصول الى المرحلة النهائية من المتلازمة (السقوط المدمر). وقبل أن نغوص في الحديث فاني اعتقد لدرجة الجزم بأن الانقاذ قد استوفت كل الأعراض التي تسبق السقوط المدمر كما سيتبين لنا من الكشف الطبي لجسد الانقاذ والفحوصات للدم والبول والصور المقطعية والرنين المغنطيسي والموجات الصوتية والقساطر وهلمجرا... التي استعنا بها في الوصول للتشخيص أعلاه ولم يتبق الا وصف الدواء الذي ربما يجنبنا الوصول للمرحلة الأخيرة من المتلازمة وهي السقوط المدمر بصورة مفاجئة بثورة مكلفة في الأرواح والخسائر المادية ربما تنتهي بالمزيد من التفتيت لما تبقى من السودان، ونرجو أن يكون فيما نورده في هذه المقالات والتي سبقت ابراء للذمة باننا قد بذلنا ما في وسعنا من النصح رغم النكران والعناد ودفن الرؤءس في الرمال، فمعذرة الى ربكم ولعلهم يرجعون، وأكرر بأنني على يقين بأن المرحلة الأخيرة من المتلازمة هي فقط التي بقيت للانقاذ.
وبالرغم من أن الانقاذ عند مجيئها لم تسفر عن وجهها الحقيقي وظلت متخفية لبعض الوقت وعملت بشعار (اتمسكن لامن تتمكن) وموهت عن نفسها بما عبر عنه عرابها الشيخ الدكتور حسن الترابي في مقولته الشهيرة بعد الانشقاق (قلت للبشير اذهب للقصر رئيسا وسأمضي أنا للسجن حبيسا) وحاولت أن تتخفى بأقنعة فضفاضة بالحديث عن أنها حركة وطنية تتمسك بالموروثات القومية وتسعى لاقامة العدالة والحفاظ على وحدة البلاد والتصدي للتمرد والاهتمام بقضايا الشعب الأساسية ومشاطرتهم في اقتسام النبقة وسلكت كل السبل للتمويه عن توجهها الاسلامي بصورة سافرة، ولم تمض ستة أشهر حتى أسفرت عن وجهها ووجهتها واستخدمت اجراءات أمنية تجاوزت حدود المعقول في البطش والتنكيل والتشريد للخصوم والمناوئين، وقد تم كل ذلك بسند فقهي بررت به تلك الأفعال الشنيعة بحجة الدفاع عن بيضة الدين وحماية دولة المدينة من العلمانيين والعملاء وقوى اليسار وتقدم التمرد نحو الشمال.
ولما كان الأسلوب الذي اتبعته للتغيير كان خاطئا - بادئ ذي بدء- مهما كانت المبررات التي قدمت كما اعترف بعض قادتها مؤخرا فسرعان ما تكشفت عيوبها وبدأ انحرافها عما بشرت به وبدأت الأدواء تتسلل الى جسدها من بداية مسيرتها في السنوات الخمس الأولى من عمرها حيث دبت فيها الخلافات السياسية بسبب غياب الشورى وفشت فيها مظاهر الفساد والمحسوبية بسبب غياب الشفافية والمحاسبة والعقاب، فقد رأينا التساقط المبكر لبعض الرموز الذين دفعت بهم الانقاذ للواجهة في المجلس العسكري وبعض المدنيين وكذلك أطلق الترابي صرخته الشهيرة في وقت مبكرعن ظهور الفساد وتلقفتها وسائل الاعلام وسببت حرجا للسلطة وبدأ التململ من تصريحات الشيخ تلك قبل الانشقاق بوقت طويل.
فالمراجعة الأمينة لمسيرة الانقاذ تقول بأنها ولدت بعيوب خلقية وراثية تحتم عدم قدرتها على تجسيد النموذج الاسلامي الصحيح ولعلها أدركت هي نفسها ذلك اذ لم نعد نسمع عن المشروع الحضاري الذي كانت تلوكه الألسن صباح مساء وحاشا لله أن يدعي أحد بأن ما يجري الآن في السودان بفعل حكومة الانقاذ يمثل قيم الاسلام النبيلة التي كتبت له الخلود مهما تقادم الزمن، وعلى رأس تلك القيم الحرية والشفافية والعدالة، وهذا ما سيتبين لنا من الاستقصاء في كسبها عبر العقدين الماضيين الذي كنا فيه شركاء وعليه شهود ولا يمكننا التنصل من ذلك او انكاره ونسأل التوبة والمغفرة.
ففي هذه السلسلة من المقالات سنحاول تجنب السرد التاريخي المفصل للأحداث والقضايا ولكن سنركز على التحليل العلمي لها واستقصاء الرؤية والأسانيد الفقهية لما تم وهل هو من الاسلام أم تبرير وتمرير لأهواء الكبار وصناع القرار وارضاء لنزعاتهم السلطوية فحسب، وهل ما واجهته من مصاعب كان كله بسبب التآمر عليها أم بما اكتسبته هي نفسها.
طول المكث في السلطة
وأول ما أغفلته أو تغافلت عنه الانقاذ واوردها الى المتلازمة أعلاه هو عدم تحديد الآجال في الحكم أو الوعد برد الأمر للأمة بعد فترة مؤقتة اذ انها جاءت بانقلاب عسكري على حكومة منتخبة، فظلت بعض القيادات النافذة متمرسة في مواقعها في السلطة وان تبدلت المواقع وتنج عن ذلك الافلاس الفكري والتسلط والاحتكار والتحنط وعدم القدرة على التجديد والمواكبة الذي نراه اليوم. ولم تعد تلك القيادات مهددا أمنيا ومهدرا لامكانات الأمة ومصالح البلاد والعباد فحسب ولكنها أصبحت عبئا ثقيلا ووصمة عار في جبين الحركة الاسلامية التي ظلت تنادي بالحكم الراشد وتبشر به لأكثر من نصف قرن. فهل آن الأوان لما تبقى من الحادبين والقابضين على الجمرمن أبناء الحركة الاسلامية البحث عن رايات أخرى جامعة تجمع شمل الأمة السودانية وتواكب ما يدور في الساحة العربية والاسلامية هذه الايام......وتعالوا لنبحث معا هل هنالك شواهد في تاريخ الاسلام تدل على المدى الزمني الذي يجب أن يبقى فيه الحاكم وحكومته على سدة الحكم؟
وللاجابة على هذا السؤال دعونا نتأمل سويا في السيرة النبوية العطرة، فالرسول (ص) حكم عشر سنوات فقط بعد الهجرة وهي مرحلة الدولة في المدينة، فقد كانت الدولة تتقدم فيها صعودا في كافة الميادين، دعوة بالحسنى بعد الحديبية فدخل الناس في دين الله أفواجا وحربا لمن يقفون في وجه الدعوة السلمية وتربية وتزكية للنفوس وتشريعات توجه مسار الدولة وتوضح علاقاتها مع الآخرين الى أن جاء القراءن في نهاية السنين العشر ليعلن للامة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا.....اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا) وقد كان رسول الله في قمة العطاء والبذل والصحة البدنية والقدرة على قيادة المسيرة لفترة اطول من السنوات العشر تلك، حيث قاد (ص) جيش الفتح جنوبا ودخل مكة في السنة الثامنة للهجرة وقاد جيش العسرة شمالا الى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة في ظروف طبيعية ومادية قاسية جدا وعاد بعد عدة شهور الى المدينة ليقود موكب الحج في السنة العاشرة للهجرة الى مكة (حجة الوداع) ومعه ما يزيد عن أربعة عشر الفا في ظروف شاقة ومسيرة طويلة عبر فيها أكثر من خمسمائة كيلومترا ذهابا وجيئة وبعدها التحق الرسول بالرفيق الأعلى بسبب علة طارئة، وكان رحيله صدمة كبرى لم يتحملها الصحابة بمن فيهم عمر رغم هذا النص الصريح بكمال الدين والنصوص الأخرى التي تقول للرسول (انك ميت وانهم ميتون)، وتسلم السلطة من بعده أبوبكر الصديق رضي الله عنه الذي كانت مهمته الأساسية تثبيت الأمة واخراجها من الصدمة القاسية بالرحيل المفاجئ لنبيها وانقطاع الوحي، وقد أبلى في ذلك أحسن البلاء من أول وهلة عندما صعد المنبر وقال بصوت قوي (أيها الناس من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت) وكذلك كانت له مواقفه الصارمة من المرتدين والمتمردين الذين رفضوا الانصياع لأي كائن من كان بعد رحيل رسول الله، وما كان لأبي بكر أن يطيق البعد والفراق عن حبيبه الذي لازمه قبل البعثة في مكة وفي رحلة الهجرة وظل بجانبه في حله وترحاله ولم يفرقهما الا الموت فاصطفاه الله عاجلا وأجاب دعاءه ليكون بجوار رفيقه تحت الأرض أيضا في حجرة عائشة بعد فترة قصيرة من الحكم استتب فيها الأمن للدولة الفتية.
وجاء من بعده عمر بن الخطاب وحكم عشر سنوات فقط ولكنها ظلت النموذج والمعيار والمثال الذي يجسد عدالة الاسلام وحجيته لقيادة البشرية واصلاح حالها في كل زمان ومكان، وقد كان في قمة عطائه عندما اصطفاه الله شهيدا بطعنة خنجر من أبي لؤلؤة غلام المغيرة وأجاب الله دعوته التي كان يكررها دائما (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وميتة في مدينة نبيك) فلحق بصاحبيه ودفن معهما في حجرة عائشة، ثم جاء من بعده ذو النورين عثمان وكانت العشر الأوائل من حكمه استقرارا ونماءا وفتوحات وتوسعا وسعة في المعاش كما أورد أصحاب السير، وعندما تعداها بدأت تطل ظواهرومظاهر لم يعهدها الصحابة من قبل في عهد الشيخين وعلى رأسها سطوة الامويين –عشيرة عثمان رضي الله عنه وأرضاه- واستئثارهم بالسلطة ومنافعها مما دفع بعض الشباب المتحمسين من الأمصار في الدولة الاسلامية للهجوم على عاصمة الخلافة في مدينة رسول الله (ص) وقتلوا الخليفة عثمان رضي الله عنه ظنا منهم بأنه السبب في تلك الانحرافات التي بدأت تدب في دولة الخلافة الراشدة التي حدثت ربما بسبب تقدم سنه... وبعدما فعلوا فعلتهم الشنيعة أصيبوا بالذهول من هول الكارثة اذ لم تكن لديهم رؤية واضحة للبديل أو ما يترتب على فعلتهم تلك...، فكانت الفتنة الكبرى التي نعيش آثارها الى يومنا هذا، فهل نعتبر بذلك الدرس الذي جسدته حادثة مقتل الخليفة الراشد سيدنا عثمان وهو من المبشرين بالجنة ومن السابقين الأولين ونحدد مدة الحاكم في السلطة أم أن التأمل في أحداث الفتنة الكبرى حرام كما يقول بعض فقهاء عصر الانحطاط....
هل يمكننا أن نستنبط من تلك التجارب ما نقيس به مدة البقاء في الحكم؟ حيث حكم رسول الله في المدينة عشر سنوات واختاره الله بعدها لجواره وهو في قمة العطاء وحكم بعده عمر عشر سنوات واختاره الله شهيدا وهو في قمة عطائه وفتوحاته وعدله وحكم عثمان أكثر من عشر سنوات فأطلت الفتنة برأسها وتسرب الفساد والمحسوبية للدولة وقامت الثورة عليه بعد العشر الأوائل، فهل يمكننا أن نقول قياسا على ذلك بأن الحاكم يجب ألا يبقى أكثر من عشر سنوات، ينتخب لدورة أولى لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد في انتخابات عامة لدورة ثانية واحدة فقط، أم يريد لنا بعض المتفيقهين أن نقبل وننصاع لرأي وعاظ السلاطين الذين يقولون بأن الامام المبايع يظل في موقعه حتى الموت ما لم يفقد أهليته؟ وما هو الحد الفاصل الذي نقيس به الأهلية في ظل غياب الشفافية والمحاسبة والنصح؟ وهل تحتاج معرفة أهلية حكامنا العرب المعاصرين لكبير عناء، ومنهم من ظل في موقعه بعد أن أصابه العجز البدني حتى أصبح يعامل معاملة الرضيع في التخلص من الفضلات الطبيعية ومنهم من ظل مغيبا بفعل السكر والليالي الحمراء بصورة يومية ولا يصحو الا في منتصف النهار ليبدأ من جديد قبل غروب شمس اليوم التالي، ومنهم من استبد به الجنون حتى صار ملك الملوك ولا يجرؤ أحد على مخالفة ما يراه وان وصل الى مرحلة الجنون السافر ومنهم الغارق في اللهو البرئ والأنشطة الهامشية لدرجة تجعلك توقن بأنه اما مغيب عن قضايا الأمة أو متبلد الشعور عما يعايشه شعبه من مآسي لا تحصى ولا تعد ومنهم من سلم البلاد ومصالحها للأعداء واكتفي بدور كلب الحراسة....ومنهم...ومنهم...
فهل نصم آذاننا ونغمض أعيننا عن التجارب الناجحة في عالم اليوم ونحن نري الاستقرار السياسي والنماء الاقتصادي والولاء للأوطان في ظل الحرية والشفافية والعدالة لدى الشعوب التي تحرم على قادتها بالقانون البقاء في السلطة لأكثر من 8-10 سنوات كحد أقصى في دورتين فقط وفق المنافسة الحرة كما هو الحال في أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا.... وقد يتنحى أحدهم لمجرد أن تحوم حوله شبهة مالية أو أخلاقية ويتعرضون الى أقسى أنواع المساءلات أمام الرأي العام والقانون على السواء..... وقد جاء الاسلام في أول عهده واستصحب كثيرا من العادات الكريمة التي وجدها سائدة في ذلك الزمان فما العيب في أن نستفيد من تجاربهم التي طوروها بعد احتكاكهم ومعرفتهم للحضارة الاسلامية عن قرب، فأقاموا أنظمة مستقرة وشعوب منتجة ومحبة لأوطانها، شعوب تخيف حكامها وتعزلهم في اي وقت شاءت متى ما أحست بانحرافهم أو تسلطهم، فلماذا يصر وعاظ السلاطين وبطانة السوء في بلداننا العربية على استمرار الأوضاع على ما هي عليه ويتولى أمرالأمة أناس بمؤهلات متواضعة وخبرات ضعيفة وسمعة ملطخة واذعان وارتهان للغرب والشرق ولا تقف سوآتهم في حدود دائرتهم الضيقة فحسب بل يتنزل ذلك الانحلال والتحلل من المسئولية العامة على كثير من مرافق الدولة من أعلى الى أسفل حيث يولون عليها أهل الولاء المزيف والمصالح الشخصية مما ينتج عنه تخريب الاقتصاد وتمزيق البلاد وتدمير التعليم وخراب العلاقات الخارجية مع القريب والبعيد وفوق ذلك كله اضمحلال الولاء للوطن وضمور القيم التي عرفت بها أمتنا عبر تاريخها الطويل، ولنا أن نتساءل هل يقرأ حكامنا في السودان وفي بلاد العرب ما تتناقله المواقع الاليكترونية عن أدق ما يدور في دهاليز الدولة وما يحدث خلف الأسوار حتى في حياتهم الخاصة وحياة المقربين منهم، وهل نظل نحكم على تلك المعلومات المنشورة كلها بأنها اشاعات مغرضة وقذف بالباطل؟.
بالرغم من أنني أتعامل بحذر شديد مع كل ما يصلني من معلومات عبر قنوات التواصل الاليكتروني أو ما أعثر عليه عند البحث في بعض المواقع في الفضاءات المفتوحة في شبكة المعلومات الدولية فان كثيرا من المعلومات المتداولة عن الفساد بأنواعه المتعددة يشير الى واقع مرير ولا يمكن انكاره او التستر عليه، ولنا أن نتساءل اما كان الأجدر لقادتنا أن يترجلوا طواعية ويفسحوا المجال لغيرهم ويرحموا أنفسهم وأسرهم وأعراضهم في المقام الأول بغض النظر عن المآسي التي تعيشها الأمة بسبب بقائهم المزمن في الحكم.....وهل هناك أمل في التغيير بعد الكوارث المتلاحقة ومذكرات الاحتجاج المتكررة من القواعد التي تطالبهم بالتغيير، أم نستطيع أن نقول بأن التغيير بات مستحيلا بسبب مافيا السلطة والمال التي تحيط بالكبار وتحول بينهم وبين اتخاذ خطوات جادة للاصلاح؟ والى متى يحتمى النظام بالأزمات الكبرى والفواجع التي تحدث بسبب وهنه وغفلته ويدفع ثمنها الشعب مزيدا من الدماء والشقاء؟ يخطئ النظام خطأ فادحا اذا فسر اصطفاف الشعب السوداني وهبته لتحرير هجليج هو التفاف حول شعارات الانقاذ البائرة أوالتفاف حول القيادة التي لا تحسن الخطاب العام، بل هو الحس الوطني والشعور بالمسئولية القومية، فهل من تدابير عملية بعد تحرير هجليج تخرج البلاد من الوقوع في كوارث أكبر من سابقاتها وتجعل الاصطفاف في ظل الأوضاع التي أفرزتها السياسات الرعناء للدولة مستحيلا وتدخل البلاد في فوضى عارمة؟ هل بامكان الشعب السوداني أن يقدم المزيد من التضحيات في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والأداء الحكومي المتردي والخطاب السياسي المتخلف؟ أرجو أن يواجه الكبار هذه الأسئلة بمسئولية ان كان هنالك بقية من ضمائر حية، وأما القواعد فقد آن لها الأوان أن تبحث عن طريق آخر غير الذي تسلكه القيادة التي أصبحت مكبلة بهذا الواقع الذي فرضته على نفسها أو فرض عليها بسبب طول المكث في السلطة كما هو الحال في الأنظمة العربية التي ثارت عليها شعوبها، وعليها ان كانت ترغب في الاصلاح أن تنفض يدها من المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية التي قتلوها وأشانوا سمعتها وتلتحق بحركة الشعوب العربية والاسلامية التي سبقتنا للتغيير تحت رايات الحرية والشفافية والعدالة...؟ ونواصل
.......................


هل من معالجة حقيقية لطول المكث في السلطة (المقال الثاني)
فيما سبق قلنا بأن طول المكث هو أول المسببات للاصابة بمتلازمة الحكام العرب بأعراضها المتعددة من استعداء واقصاء واستعلاء وفشل ونكران وعناد لا تخطئها العين في مسيرة الانقاذ خلال ربع القرن الماضي وتجلت آثار كل تلك الأعراض في الأداء داخل مؤسسات الدولة وفي المعاملة مع المعارضين للحكم وفي العلاقات مع دول الجوار والعالم أجمع كما سنرى بعض الأمثلة لذلك فيما بعد، ومن مثالب طول المكث أيضا أنه خلق علاقات اجتماعية ممتدة وشللية جعلت من الكبار الممسكين بزمام الأمور مجموعة يجمعها ارتباط المصالح ووحدة المصير وأصبحت الدولة بالنسبة لهم هي عبارة عن شركة مساهمة محدودة العضوية مملوكة لهم ويتبادلون كراسيها ويحددون شكلها حسب ما تمليه ضرورة اطالة عمر النظام والبقاء في الكراسي لأطول مدة ممكنة بعيدا عن مصالح الأمة كما تجلى ذلك في تشكيل معظم الحكومات السابقة والحكومة الراهنة ذات القاعدة العريضة -كما يسمونها –على وجه الخصوص ولا تلوح في الأفق بادرة بأن يتم تغيير ملموس في مواقع الكبار المعتقين واذا فشل أحدهم في موقع تحول لآخر ليمارس دمارا أوسع طالما هو عضو مؤسس وصاحب أسهم كبيرة في الشركة المساهمة (دولة السودان المكلومة).
لقد سمعنا الرئيس يقول في عدة مناسبات بأنه لا ينوي الترشح للرئاسة في الانتخابات القادمة في عام 2014 ولنا أن نسأل ونتساءل هل نتوقع أن يقوم الرئيس باتخاذ خطوات عملية لتتم الاستجابة لهذه الرغبة التي أبداها وكررها عدة مرات وهو رئيس الدولة والحزب معا؟ هل سيأمر باعادة النظر في تعديل الدستور واللوائح التنظيمية للحزب بحيث تحدد الآجال في تولية المناصب في الحزب والدولة بما في ذلك رئاسة الجمهورية ويقول للذين أمضوا أكثر من عشرين عاما في الحكم خلاص كفاكم؟ اذا لم يقم بذلك فان الأمرلا يعدو أن يكون فقط جس نبض للساحة كما يقول بعض المراقبين، والغرض منه معرفة من يأخذون الأمر مأخذ الجد من المتطلعين للرئاسة فيتم التخلص منهم مبكرا كما كان يفعل كثير من الزعماء العرب ...القذافي وصدام ومبارك وعلي صالح.... وربما اعتقد البعض بأن تصريحات الرئيس تلك أريد بها احراج مؤسسات الحزب لتبادر مبكرا من عندها وتعلن تمسكها بالرئيس مرشحا أوحدا للحزب قبل أن يدور جدل في الأمر اذا حان أجل الانتخابات وظل الرئيس صامتا.
ولعل الاحتمال الأخير هو الراجح فقد سمعنا كل الذين سئلوا من القيادات النافذة في الدولة والحزب عن ذلك التصريح الذي ظل الرئيس يدلي به يقولون بان الأمر يرجع لمؤسسات الحزب وليس للرئيس الحق في ذلك. بالطبع لا يمكنهم أن يقولوا غير ذلك في غياب اتخاذ الرئيس الخطوات والتدابير اللازمة للتغيير، ولا يمكن لأحد منهم أن يتجرأ ويثني على الرئيس في هذه المبادرة ويقول بأن ذلك موقف مشرف وسنة حسنة من الرئيس أن يتنازل طواعية أو يقول هذا أمر طبيعي في حياة الأمم والشعوب المتحضرة، ولا شك ان قال أحد منهم بذلك فانه قطعا سيتهم بأنه يتطلع لخلافة الرئيس، هذا بالاضافة لأنهم يعلمون بأن الأمر اذا أصبح حقيقة فسيطالهم هم أنفسهم لأنهم جميعا مصابون بداء طول المكث في السلطة ويتطلع بعضهم للاستمرار في السلطة اذا قدر للسودان أن يبقى سودانا تحت حكم الانقاذ حتى الانتخابات القادمة حتى عام 2014 وما بعدها الى الأبد. ونكاد نجزم بان ما ظل يحدث في البلدان العربية من تجديد وراء تجديد وتعديل للدستور للمزيد من التجديد سينسحب على سودان الانقاذ عندما تحين الانتخابات القادمة أو التي بعدها أو التي بعد التي بعدها ولن يعوزهم التبرير لذلك فهناك المقولة المكرورة عند الأنظمة العربية كافة والسودان ليس استثناء....الرئيس قبل الترشح استجابة لارادة التنظيم ورغبة الجماهير خاصة وأنه لا يوجد بديل ملائم تلتف القواعد حوله كما هو الحال بالنسبة للرئيس، وكأن الأرحام في بلاد العرب عاجزة عن ولادة الزعماء أو افرازهم بعد أن يتربع الرئيس على العرش فلا يجرؤ أحد أن ينزعه منه الا ملك الموت أو الثورة المدمرة كما يحدث الآن في بعض البلدان العربية، وقديما قيل لفرعون بأن مولودا من بني اسرائيل سيولد وسيكون سببا في زوال ملكك فصار يسحيي النساء ويذبح الأبناء من بني اسرائيل وقيل أنه فرض الطهارة (الختان) الفرعونية حتى لا تستطيع المرأة الولادة بدون مساعدة قابلة وعندها ينكشف أمر المولود فاذا جاء المولود ذكرا ذبح، ولكن شاء الله أن يولد موسى ويوضع في التابوت ويلقى في اليم ويلتقطه آل فرعون ويتربى في كنفهم ويكون سببا في هلاك فرعون فهل من مدكر.
طول المكث في السلطة واحدة من القضايا التي يجب أن يدور فيها وحولها الحوار بالصوت العالي داخل اروقة الحزب الحاكم مهما كانت التضحيات وحجم العزل أو التهميش الذي يمارسه الكبار للذين ينتقدونهم، وقد تابعنا اجراءات العزل والتهميش للذين يجهرون بالنقد خلال السنوات الماضية وكذلك تابعنا كشوفات الاحالة للمعاش المتكررة لكثير من الكفاءات في القوات النظامية بسبب ما جهروا به من المطالبة بالاصلاح، وبكل أسف أصبحت دائرة صنع القرار في الدولة ضيقة جدا، والذين يقدمون المشورة والنصح للقيادة العليا معظمهم ممن يفتقرون لأبسط المؤهلات في السياسة والاقتصاد والاجتماع وادارة شئون الدولة في ظل العولمة والفضاءات المفتوحة، وكذلك لا يملكون الشجاعة لقول الحق مما جعل مواقف الدولة متذبذبة وخطابها ممجوج ويتسبب في كثير من الاحراجات ويجلب المزيد الكوارث، بالاضافة لعدم القدرة على استغلال الفرص السانحة التي تسوقها لهم الأقدار كما حدث بعد تحرير هجليج عندما اصطفت الأمة كلها خلف قواتها المسلحة ومجاهديها، ولكن كان رد القيادة المزيد من العنتريات الفارغة والبطولات الزائفة والقرارات الطائشة على الهواء مباشرة ولا نلبث طويلا حتى يتم التراجع عنها بطريقة لا تحفظ ماء الوجه ولا تعطي أي قدر من الاحترام والمقبولية للطريقة التي تدار بها البلاد.
ملحمة استعادة هجليج كانت عظيمة وكشفت عن معدن الشعب السوداني الأصيل ومدي تلاحمه عندما تصبح المعركة معركة كرامة ورد شرف ولكن تلك الملحمة الصادقة لتحريرهجليج تم افسادها بالتهريج وعدم القدرة على ضبط الخطاب السياسي الرسمي وغوغائية الاعلام، فبدلا من التهديد والوعيد وادعاء البطولات كان يجب على القيادة التأمل الهادئ في الأسباب التي أدت لهذا الاختراق الأمني المشين والمهين لسمعة الدولة التي أصيبت في مقتل وفي أهم مورد اقتصادي وفي أصعب ظروف اقتصادية تمر بها البلاد وقد تم ذلك في وضح النهار وبترتيبات كانت مكشوفة تحدث عنها قادة الجنوب بدأ من رئيسهم سلفاكير. فقد كان الواجب النظرللانتصار الذي تم في اطار رد الشرف ومسح العار وليس ادعاء البطولات الزائفة، وكنا نؤمل في اللقاءات العفوية التي اندفع لها الشعب السوداني بعد التحرير مباشرة أن يتبلور خطاب واقعي يشير الى أن القيادة قد استوعبت الدرس من اخفاقاتها المتكررة والتي جاءت نكبة هجليج على قمتها، ولكن بكل أسف لم نشهد الا تكريس للمزيد من الخواء الفكري وغياب الرؤية الصحيحة للأحداث واللجوء الى دغدغة عواطف العوام بالتصريحات الخاوية من المبنى والمعنى وكلها تصب في خانة المزيد من العزلة والاستهداف للبلاد بدون مبررات موضوعية. فمتى يتعلم قادتنا السياسة؟ كنا نتوقع أن تكون رسالة الشكر والعرفان للشعب السوداني واضحة في تلك التجمعات، وتحمل البشريات بتغيير نهج الغفلة وطرح نهج جديد يعالج داء التفريط في مقدرات الامة ومكتسباتها، وكذلك كنا نتوقع توجيه الخطاب لشعب جنوب السودان والتأكيد على العلاقات التاريخية التي تربطنا وضرورات الواقع والمستقبل التي تشد بعضنا الى بعض ونحاول فك الارتباط بينه وبين الحركة الشعبية التي ولت الدبر بعد أن أدخلتهم في مغامرة كبيرة لم تتحسب لعواقبها ونبين لهم عن طريق الارقام والاحصاءات الدقيقة أفعالها الخرقاء التي لا تصب في مصلحة شعب جنوب السودان، ولكن يبدو أن ما توصلت اليه ويوافقني فيه كثير من المراقبين بأنه لن ينصلح حال السودان الكبير الا بالاقصاء المتزامن للحركة الشعبية والمؤتمر الوطني من سدة الحكم في الجنوب والشمال وحينها ربما تعود اللحمة من جديد ويتوحد أهل السودان بعد ان ذقنا مرارة التقسيم وفق رؤية جديدة تنبني على المصالح المتبادلة وما أكثرها وليس على المكايد المتبادلة كما يحدث بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، فهل يتحقق ذلك الحلم يا ترى؟
الخطاب السياسي الرسمي بعد التحرير بما فيه من تهديدات ووعيد وشتائم قطع الطريق على كل تدبير أمني خفي كان بالامكان القيام به لازاحة الحركة الشعبية من قيادة جنوب السودان وهي في أضعف حالها بعد الهزيمة النكراء في هجليج، وهو أمر أصبح من الضرورة بمكان، وليس من الصعب التخطيط له وتنفيذه اذا عرفنا كيف نستغل التناقضات الموجودة في الساحة الجنوبية على مستوى التركيبة القبلية والأطراف المتصارعة على السلطة في ظل هشاشة الأوضاع القائمة في الجنوب، والتي يعصمها من الانهيار الأيادي الخارجية التي تحكم سيطرتها على توجيه القرار السياسي لدولة الجنوب من العاصمة جوبا.
وقد كان المؤل فيه أيضا بعد استعادة هجليج اعمال النظر فيما حدث ومحاسبة المفرطين في أداء الواجب والاستفادة من الاصطفاف الجماهيري الذي تم لاحداث انفراج في الساحة السياسية واصلاح واضح في مسيرة الدولة المتعثرة والاعتراف بالأخطاء التي حدثت، ولكن لم نر الا المزيد من دفن الرؤوس في الرمال. فهل اطلع قادتنا على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة يوم الفتح مطأطا رأسه وهو في قمة النصر ويقول لأهل مكة اذهبوا فأنتم الطلقاء فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويتحول بين عشية وضحاها عتاة كفار قريش من مناوئين للدولة الاسلامية الى حملة رايات الاسلام والجهاد في كل أرجاء المعمورة المعروفة آنذاك....
في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد لا يتم الاصلاح بالمذكرات الناعمة المتفرقة التي ظل يتقدم بها بعض الذين استعادوا وعيهم من قواعد المؤتمر الوطني في مختلف المناطق والمؤسسات والقطاعات لأن الكبار سيتعاملون معها بكل اللطف والمكر والدهاء ما دامت مفرقة ولم تتحول الى تيار جارف للتغيير فهي في نظرهم وسيلة للتنفيس واثبات بأن هنالك شورى وحرية وسماع للرأي الآخر كما ظل يدور في اللقاءات التي تنعقد من حين لآخر. فالمطلوب هو ثورة داخلية عارمة تدعو للتغيير الذي تقر به القيادة مجبرة تحت ضغط القواعد الثائرة بحق ويثبت في المواثيق الرسمية للدولة والحزب ويشرع في تنفيذه وفق آجال محددة وليس كما ورد في المذكرة الألفية كما سماها البعض، ولا بد من الوقوف بحزم ضد طول المكث الذي جعل من قادتنا الكبار أباطرة وأصحاب قداسة لا يسألون عما يفعلون ولايحاسبون فيما اقترفوا من جرائم في حق الامة، وقد حصدنا ثمار كل ذلك في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
طول المكث في الكراسي والتفويض المطلق لأباطرتنا الكبار هو الذي ضيع منا ثلث السودان ولم يجلب لنا السلام رغم تنازلنا عن مكتسباتنا في البترول الذي استخرجناه بعرق المخلصين ودماء الشهداء، ولم يكتف المتمرون السابقون الذين أصبحوا يديرون دولة كاملة الدسم بما تنازلنا لهم به ولكنهم صاروا يهاجموننا في عقر دارنا ويخربون أعز ما نملك في هجليج حيث المورد الرئيس للعملة الصعبة ويهددون الزراعة المطرية والرعي في جنوب كردفان والنيل الأزرق والنيل الأبيض مما نتج عنه تشريد أهل الاستثمارات الضخمة التي كانت في تلك المناطق لعشرات السنين. هل تعلم الدولة كيف تضررت مصالحهم ومصالح العباد تبعا وقد أصبح بعضهم مطارد بسبب الافلاس؟
طول المكث هو الذي جعل أباطرتنا يولون علينا الكثير من ضعاف القدرات وضعاف النفوس – بمزاجهم- في مواقع مهمة تتصل بحياة الناس فيخربون مؤسسات الدولة ان لم ينهبوها. طول المكث هو الذي جعل أباطرتنا يطلقون العنان لألسنتهم عندما يعتلون المنابر فيجلبون لنا الوبال ويؤلبون علينا الآخرين بدون مبررات مستساغة..و.كثير من الأمثلة يمكن سردها في هذا الباب.....فهل يعي قادتنا الكبار الدرس بعد كل هذه المآسي التي تتعرض لها البلاد ويتخذون خطوات عملية في تقنين البقاء في كراسي الحكم ومؤسسات التنظيم ويبدأ الكبار بالترجل طوعا قبل تثور عليهم القواعد فتقصيهم أو تندلع الثورة الشعبية التي ربما تنتهي بالفوضى والحرب الاهلية ويتحمل لعناتها أؤلئك الذين يصرون على البقاء في الكراسي حتى السقوط المدمر؟ ....ونواصل
---------------------
عصبية الرأي الواحد (المقال الثالث)
بالاضافة لطول المكث في السلطة الذي تحدثنا عنه سابقا فان من الأدواء التي تسببت في متلازمة الحكام العرب التي انتقلت عدواها للانقاذ في السودان بأعراضها كلها من استعداء واقصاء واستعلاء وفشل ونكران وعناد فهي العصبية العمياء للرأي الواحد وادعاء امتلاك الحق المطلق، وهذا داء قديم في حياة الأمم وكانت له آثاره المدمرة في حياة الشعوب وتسبب في حروب ممتدة عبر التاريخ، وقد كانت أفظع آثاره على الاطلاق ما قام به هتلر عندما روج لفكرة تفوق الجنس الآري وبدأ في تنفيذ طموحاته التوسعية في اخضاع الشعوب الأخرى وقهرها بالقوة العسكرية من منطلق تلك العصبية للجنس الآري المتفوق على الشعوب الأخرى وراح ضحية تلك الادعاءت ما يصل الى خمسة وأربعين مليون نفس أزهقت في الحرب العالمية الثانية.
فالانقاذ أيضا ولدت بهذا الداء- ادعاء الحق المطلق- وبدت عليها أعراضه منذ وقت مبكر مثلها مثل غيرها من الأنظمة العربية الشمولية التي سادت في المنطقة العربية منذ موجة التحرر من الاستعمار في خمسينات وستينات القرن الماضي تحت رايات الاشتراكية والقومية والبعثية والجماهيرية وقهرت الشعوب وأجبرتها على الانصياع لرأي واحد وقائد واحد وحزب واحد وحصدت الأمة العربية ثمار كل ذلك فيما نشاهده اليوم من انحطاط وتخلف وفرقة وتمكن للعدو الصهيوني في قلب الأمة العربية والارتماء التام في أحضان القوى الاستعمارية......
أما الانقاذ فقد كان ادعاؤها أكبر وأخطر من غيرها من الأنظمة العربية التي جاءت باسم الاشتراكية والقومية والجماهيرية التي لم تثر غيظ اللاعبين الكبار في الساحة الدولية في عالم اليوم مثل ما ظل يغيظهم ويخيفهم الشعار الاسلامي، بل واقع الحال يقول بأن اللاعبين الكبار في العالم ظلوا يشجعون تلك الرايات -ولو في الخفاء بغض الطرف عما ترتكبه من فظائع في حق الشعوب-لأنها تبتعد بالامة الاسلامية عن مصدر عزتها وقوتها التاريخي وهو الاسلام، ولا خلاف في ذلك بين الشرق الشيوعي سابقا والغرب الليبرالي، فقد كانت الأنظمة العربية في العراق وسوريا وليبيا والجزائر ومصر تحارب تنامي التيار الاسلامي الحركي بعنف وتستخدم كل أدوات البطش لكبته وابعاده عن الثأثير في مجريات السياسة دون أي انتقاد يذكر من المنظمات الدولية التي يسيطر عليها الكبار.
في مثل هذا الظرف وتلك الروح السائدة في الساحة العربية قامت الانقاذ في السودان وتبنت التوجه الاسلامي الحركى الذي يؤمن بالاسلام كدين ودولة بعد فترة وجيزة من التخفي والتعمية والتمويه تحت شعارات الوطنية والمحافظة على وحدة البلاد ودحر التمرد في الجنوب - ليس ذلك فحسب - بل سرعان ما نصبت نفسها الوصي الوحيد على فهم الدين الاسلامي واقامة أحكامه في المجتمع وحاولت أن تحتكر مظاهر التدين في المجتمع وكممت أفواه كل المعارضين بما فيهم أصحاب الخلفية الاسلامية دون التأمل الواعي للمعادلة الداخلية والاقليمية والدولية المعقدة.
ادعاء أهل الانقاذ بأنهم أصحاب الحق المطلق المؤيد من السماء وبأنهم حماة الدين وحراس العقيدة وأصحاب التوجه الحضاري جعلهم يتصرفون باستعلاء واستعداء واقصاء وقسوة على الآخرين الذين عارضوهم في الداخل ووصفوهم بأسوأ نعوت العمالة والعلمانية، وهجموا على مؤسسات الدولة المدنية منها والعسكرية ومكنوا لكوادرهم فيها بمؤهل واحد هو الانتماء للحركة الاسلامية، وقد ظن أهل الانقاذ أن بامكانهم اقامة الدين كله دفعة واحدة عبر سلطان الدولة وفي فترة وجيزة طالما أنهم ملكوا زمام الحكم وتم لهم التأمين والتمكين في دولة السودان، وظنوا أن اعادة حكم الاسلام وأحكامه كما يفهمونها هم ستأتي بالخير الوفيروتفتح عليهم بركات السماء والأرض طالما طبقوها على شعب غالبيته العظمى من المسلمين الذين كانوا يحكمون بالاسلام قبل أقل من قرن من الزمان ابان الحقبة المهدية - ليس ذلك فحسب- بل بشروا بالمد الاسلامي الذي سينطلق من السودان ليعم المعمورة جمعاء في وقت وجيز.
تلك الحماسة الزائدة والنظرة الأحادية الضيقة بأنهم يملكون الحق كله تجاهلت كثير من المعطيات في الساحة الداخلية والاقليمية والخارجية وتسببت في استعداء قطاعات كبيرة ضدهم من داخل البلاد التي توجد فيها أحزاب سياسية عريقة ذات مرجعية اسلامية وطبقة عريضة من المثقفين الذين لا يشاطرونهم الرأي فيما ذهبوا اليه، وكذلك كان التغيير المفاجئ ملفتا لدول الجوارالتي يحظى السودان بتسعة منها تتداخل قبائلها ومصالحها مع السودان الذي يتوسطها جميعا، وكذلك القوى الدولية التي تعرف الموقع الجغرافي المميز للسودان وثرواته المكنونة في باطن الأرض وظاهرها.
فأهل الانقاذ في حماستهم تلك لم يتحسبوا أو يقدروا حجم المعادلات الدولية في عالم اليوم وهيمنة اللاعبين الكبار التي تسندها مؤسسات بحثية ضخمة ومراكز دراسات تصرف عليها المليارات لاعداد ورسم السيناريوهات السياسية التي تعين القوى الغربية المهيمنة على توزيع الأدوار في السياسة الدولية فيما بينهم منذ سايسبيكو حسب ما تقتضيه حاجياتهم في جلب المواد الخام والطاقة الرخيصة وبيع منتجاتهم الصناعية خاصة السلاح وكبح جماح المتطاولين عليهم وتعويقهم واخافة المتطلعين للانفلات ونهب ثروات المنبطحين وبالاضافة للتمكين للعدو الصهيوني في قلب الأمة العربية والاسلامية.
مهما يقال فقد استطاعت الانقاذ في أول عهدها أن تقوم بمغامرات ناجحة وقد ساعدها على ذلك وصولها المفاجئ للسلطة الذي لم تتنبأ به أجهزة المخابرات الغربية أو دول الجوار خاصة مصر رغم تجزرها في المنطقة العربية ولذلك احتاجت لبعض الوقت للتعرف على النظام الجديد وتعديل مساره فيما بعد في الخط الذي يريدونه هم أو على الأقل الخط الذي يحد من طموحاته ويحول دون الوصول الى أهدافه. فقد تمكنت الانقاذ في سنواتها الأولى من احداث بعض النجاحات في تنفيذ خططها في الداخل حيث كسرت شوكة التمرد في الجنوب بعض الشئ وأوقفت زحفه نحو الشمال وعكست بعض النماذج للطهر والزهد والحزم في محاربة الفساد ومشاطرة الشعب السوداني شظف العيش، وفي محيط الجوار الأفريقي تم تغيير نظام منقستو المعادي في أثيوبيا واستقلت دولة اريتريا بدعم تام من السودان وكذلك حدث التغيير في الكنغو وتشاد... النشوة بتلك بتلك النجاحات جعلت الانقاذ تفتح أبواب البلاد على مصراعيها للحركات الاسلامية وحركات التحرر من كل أنحاء الدنيا بلا ضابط ولا رابط بحجة مناصرة المسلمين والمستضعفين في العالم في اطار المشروع الحضاري العالمي، وقام المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي وكانت تلك فرصة مواتية للاختراق الذي تم بجدارة ودفعت الانقاذ ثمنه غاليا بعد فترة وجيزة.
أخطرما نتج عن ذلك الاندفاع بنظرية الرأي الواحد والحق المطلق الذي أصبحت دائرة صنع القرار فيه تضيق أكثر مما كان عليه الحال قبل استلام السلطة هوتشتيت الجهود في جبهات متعددة ومواجهة قضايا متنوعة لم تكن في الحسبان في الداخل والخارج، فبدأت الخلافات الداخلية تدب وسط القيادة بين أهل الظاهر وأهل الباطن، القدامى والجدد، العسكر والملكية، ودار جدل كبير حول أولويات دولة المشروع الحضاري...بسط الحريات....اقصاء العسكر....المساومة مع التمرد في الجنوب....العلاقة مع الغرب...غزو العراق للكويت..... وبدأ أهل الحق المطلق الذين أزاحوا عند مجيئهم كل معارضيهم من مفاصل الدولة باسمه يتبادلون الاتهامات ويكيد بعضهم لبعض الى أن وصلنا في فترة وجيزة لم تصل الى عشر سنوات للانشقاق، وحمل البعض السلاح في وجه الدولة الاسلامية التي شاركوا في قيامها ونعتوها بأبشع التهم كما كان الحال بالنسبة لحركة داوود بولاد وحركة العدل والمساواة التي كان يقودها الدكتورخليل ابراهيم –رحمهما الله- وما زالت تلك المعارك مستعرة بين الفرقاء الاسلاميين ووصل الحال بالتلاميذ أن زجوا بشيخهم الذي أوصلهم الى كراسي الحكم في السجن ووصفه بعضهم بالزندقة. حدث كل ذلك في أقل من عقد من الزمان، ألا يدعو ذلك الى مراجعة شاملة ووقفة تأمل من الجميع، بما فيهم الذين ما زالوا يمسكون بتلابيب الدولة ووصلوا بها الى الدرك الأسفل من الحضيض والذين يناصبونهم العداء وهم على استعداد للتعاون مع الشيطان لازاحة الانقلابيين الجدد الذين انقلبوا على الانقلابيين القدامى من السلطة؟
لقد كانت الهيمنة الاحادية المطلقة سببا في أن يشرب الاسلاميون من ذات الكأس التي سقوا منها مخالفيهم وبأيديهم هم، وتبخرت كل أحلامهم التي قاموا بالانقلاب من أجلها ولا يوجد مراقب عاقل يمكن أن يحسب ما نراه يجري اليوم في السودان بأنه كسب للاسلام أو للحركة الاسلامية، ولا يجادل في ذلك الا مكابر تعميه شهوة البقاء في السلطة. فما هي ثمار ذلك الاستحواذ والاستعلاء باسم الدين؟ هل أصبحت لدينا دولة اسلامية في السودان يحتذى بها كما كنا نمني أنفسنا عند قيام الانقاذ؟ هل حافظنا على دولة السودان التي تسلمناها عام 1989 بحدودها الجغرافية منذ استقلالها اسلامية أو غير اسلامية الآن؟ أم أن وجودها نفسه على الخارطة أصبح مهددا تماما بعد أن تقطعت من أطرافها في الشمال والشرق وكل الجنوب تحت مرأى ومسمع منا وبسوء تدبيرنا وقلة حيلتنا وهواننا. وهل قهرنا الأعداء الذين صنفناهم بادئ ذي بدء وأعلنا عداوتنا لهم واستعدادنا لمنازلتهم أم أجبرتنا العزلة التامة حتى من أقرب الأقربين في دول الجوار الى الاستجداء المستمر لكسب ود الشيطان الأكبرالذي كنا نلعنه ونتمنى منازلته ومواجهته في الميدان لنسيمه سوء العذاب ومازال يتمنع ويرفض الرضى عنا او التطبيع معنا رغم ما بذلناه له مطارف وحشايا وما قدمنا له من معلومات أمنية وقرابين بشرية.
من أسوأ افرازات نظرية الحق المطلق كان الاسراع في تنصيب أهل الولاء على مرافق الدولة واقصاء الآخر مهما كانت خبرته ما دام لا ينتمي للتنظيم ولا يدين بالولاء التام للنظام الجديد فتم تخريب الخدمة المدنية بعمليات الصالح العام ولم تسلم من تلك الحملة القوات النظامية في الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والسلك الدبلوماسي حيث تمت حملات تطهير واسعة ولجأت الانقاذ في ذات الوقت الى قيام أجهزة خاصة موازية لأجهزة الدولة رغم تنصيب أهل الولاء في كافة المواقع المهمة في مؤسسات الدولة، فكان قيام الدفاع الشعبي، والشرطة الشعبية، والأمن الشعبي وغيرها كثير وظلت مؤسسات الدولة في الخدمة المدنية تدار من أوكار يجتمع فيها أهل (الجلد والراس) بالليل ويدفعون بما يقررونه بالنهارالى مؤسسات الدولة ويتم تنفيذ كل ما يريدون بالاملاء على المؤسسات وفي كثير من المواقع يشار الى فلان الذي يملك الحل والعقد في المؤسسة وقد يكون (فنطوطا صغيرا) ولكنه يستطيع أن يملي ما يريد على الآخرين وان علت مكانتهم الوظيفية أو الأكاديمية أو رتبتهم العسكرية وليس لأولئك الا الاذعان لما يريده أهل الجلد والراس أو انتظار الكشف القادم للاحالة للصالح العام أو المعاش او العزل تحت مبررات واهية، وللأسف ما زالت تلك السياسة قائمة بعد أكثر من عقدين من الزمان الى يومنا هذا وقد ازدادت بعد انشقاق الاسلاميين حيث أصبح هنالك هوس جديد وبعبع مخيف يستنصر به المفسدون المستفيدون من الوضع الهش القائم حاليا في ضرب من يقفون في طريق مكاسبهم ومكتسباتهم الغير مشروعة وهو الاتهام بالانتماء الى المؤتمر الشعبي.
ومما يؤسف له حقا فقد أصبحت هنالك اليوم في مؤسسات الدولة طبقات وشلليات وعصابات تهيمن وتملك القرار ليس بالحق المطلق كما كان يقال في بادئ الامر- ولكن بتشابك المصالح المادية ويناصر بعضها بعضا في الاقصاء والعزل لكل حادب مخلص بتلفيقات يصدقها أصحاب القرارالكبار الذين أغرقتهم المصائب الكبرى التي تواجه البلاد ولا يلمون بما يجري في مؤسسات الدولة ولا يستطيعون متابعتها عن قرب مما هيا الأجواء لمافيا السلطة والمال أن تنخر في جسم الدولة وتفتعل المشاكل وتخلق الأزمات كبيرها وصغيرها دون محاسبة أو ردع، ويكفي ما نراه من انفلات ومشاكسات في مرافق الدولة على أعلى المستويات- الولاة والوزراء والمدراء- وما أصاب السوق من سعار في الأسعار وخراب للاقتصاد وضنك في العيش تعاني منه أكثرية الأمة بينما هنالك أقوام تتكاثر ثرواتهم في كل فجر جديد ويظهر عليهم أثر النعمة التي حلت عليهم بدون مقدمات منطقية مقبولة، وما تزال الأزمات والمصائب تتوالى بسبب هيمنتهم على مفاصل الدولة دون رقيب ولا حسيب.
هل لنا ان نسأل من كان المسئول عما حدث من تفريط أدى الى احتلال هجليج وتخريب أعز مورد نملكه؟ فقد كان اجتياح هجليج امتحانا مكشوفا لكل مراقب للأحداث قبل عشر أيام من وقوعه فهل من لجان كونت لدراسة ما حدث بشفافية وابلاغ المواطن الذي أصابه الذهول من هول الكارثة. وهل لنا أن نطالب بمحاسبة المسئولين عن الاخفاق الشديد في العلاقة مع الحركة الشعبية وتدليلها خلال سنين الفترة الانتقالية الذي انتهي بنا الى بتر ثلث السودان وتصاعد المواجهة معها الآن الى ما هو أسوأ مما كانت عليه عشرات المرات قبل اتفاقية السلام المزعومة. وهل لنا أن نطالب بمحاسبة الذين صرفوا المليارات الضخمة في الجنوب قبيل الاستفتاء على الانفصال دون أن تكون لهم أدنى فراسة في التنبؤ بنتائجه التي جاءت بنسبة 98% لصالح الانفصال؟ وهل حقا نصدق اليوم بأننا عدنا من جديد لرفع رايات الجهاد من جديد بعد ان طويناها باسم السلام مع الحركة الشعبية وسلمنا لها الجمل بما حمل، وأصبح الجنوب كله لها بما فيه من نفط ومنشآت أقمناها بعرق الكادحين ودماء المجاهدين.
لا يختلف اثنان ولا تنطح عنزان في ان الانقاذ بعد أكثر من عقدين من الزمان في الحكم المطلق قد فشلت في بسط المؤسسية في مؤسسات الدولة وما زالت سطوة المتنفذين والمفسدين والاجهزة الموازية هي الي تسير الدولة وتسير بنا بخطوات متسارعة الى الهاوية. ولا توجد أي اجراءات ملموسة لمحاربة الفساد أو كبح المحسوبية التي تزكم الأنوف وما زال الاقصاء مستمرا مما دفع بالآلاف من الكفاءات البحث عن سبل العيش الكريم في بلاد أخرى بل لجأ الكثيرون الى وطن بديل وتخلوا عن هويتهم السودانية ولم يقل بذلك خصوم الانقاذ وحدهم بل تحدثت عنه قطاعات كبيرة من قواعد الحزب الحاكم نفسه وسطروه في مذكرات احتجاج نشرت على مدى واسع وتلقفتها وسائل الاعلام....فهل بقي شئ من المشروع الحضاري الذي حكمنا الناس باسمه وشردناهم وعزلناهم أم أننا أصبنا حقا بمتلازمة الحكام العرب وننتظر فقط مصير صدام وبن علي والقذافي وعلي صالح ومبارك الذين ظلوا جميعا يحكمون باسم الحزب القائد الذي يحصل على 99% في كل انتخابات وكلهم ذهبوا وذهبت معهم أحزابهم الى مزبلة التاريخ ولم يبك عليهم أحد بل ستظل لعنات الشعوب تطاردهم الى الأبد، فدولة الظلم تغرب وتذهب بمجرد أن تفقد كراسي الحكم وينفض سامرها ودولة الحق تصمد لقرون وتترك آثارا ومآثر تتغنى بها الأجيال وتمجدها فهل يا ترى سيذكر أهل السودان الانقاذ بخير ان دالت دولتها في الغد القريب؟ وهل من سبل لمعالجة الهيمنة باسم الحزب الواحد تجنبنا الانزلاق للسقوط المدمر بعد أن أكملت الانقاذ كل أعراض متلازمة الحكام العرب؟....ونواصل
_______________________


بعد كل تلك المآسي هل يقبل الانقاذيون بالتغيير السلمي؟ (المقال الرابع)
لقد رأينا في المقالات السابقة الواقع المريرالذي أفرزته هيمنة الحزب الواحد -وباسم الاسلام- في السودان، وواضح بما لا يدع مجالا للشك أننا نحتاج لمراجعة شاملة لفهم الدين ومراجعة المنهج الذي يتبع لانزاله على أرض الواقع في عالم اليوم بعد غياب امتد لعدة قرون حدثت فيها تغيرات هائلة في حياة البشر، بعد أن تم اقصاء الأمة الاسلامية من التأثيرفي مجريات السياسة العالمية بسبب انهيار الخلافة العثمانية وأصبحت السيادة المطلقة للغرب الذي أنتج خلال القرنين الماضيين أدوات ونظريات جديدة أصبحت تؤثر في حياة البشر في كافة المجالات الثقافية والاجتماعية الاقتصادية والفكرية وأصبحت بلاد الاسلام سوقا رائجة لكل ما ينتجه الغرب وتتلقفه دون تمحيص.
البلدان العربية تعيش اليوم مخاضا عسيرا للتغيير في ظل ما سمي بالربيع العربي الذي انتفضت فيه الشعوب على الدكتاتوريات التي ظلت تحكم بالحزب القائد والزعيم الخالد وظل المطلب الرئيسي هو المناداة بالحرية والعودة الى الحكم الراشد. وفي معظم البلدان التي انتفضت فيها الجماهير كان الشعار السائد هو المناداة باصلاح الحكم وفق مرجعية اسلامية معاصرة تستوعب المستجدات في الساحة الدولية، فهل يجد ذلك التوجه من يرعاه ويوجهه بما يستوعب ما أنجزته البشرية خلال الحقبة الماضية من تعميق لمعاني الحرية الفكرية الواسعة والديمقراطية أم أن الاسلاميين في بلدان الربيع العربي سيقعون فيما ابتليت به الانقاذ في السودان؟ هل يقبل الاسلاميون في دول الربيع العربي النزول الى الميدان السياسي ويمارسون الحراك السياسي السلمي والقبول بالتداول السلمي للسلطة وفق ما تنتجه صناديق الاقتراع ويبذلون كل ما في وسعهم لحراسة ذلك النهج ان هم وصلوا الى الحكم؟ أم أنهم سيسعون لاحتكار السلطة اذا وصلوا اليها بالذرائع المختلفة ويقفلون الباب على الآخرين باعمال السلطان وليس بالانجازات التي تجعلهم أقرب الى وجدان الناخب؟ واهل ذا لم يحصلوا على الأغلبية في دورة أو دورتين من الانتخابات سيبيتون النية بالانقلاب على الآخرين كما فعل أهل الانقاذ عام 1989 ؟ وهل يستجيبون لاستفزاز الآخرين بالتحالف ضدهم وبتأليب وتحريض من القوى الخارجية التي لا تريد التمكين للاسلاميين في بلاد العرب ويقومون بنشاطات رعناء تؤدي الى اقصائهم من الساحة مرة أخرى كما حدث خلال نصف القرن الماضي؟
أرجو أن يكون فيما حدث في السودان عبرة لنا في السودان وللآخرين الذين ينشدون التغيير هذه الأيام في البلدان العربية، فقد وصل أهل الانقاذ الى الحكم بانقلاب أبيض لم ترق فيه دماء وانفردوا بحكم البلاد حوالى ربع قرن وباسم الاسلام الذي حاولوا تطبيقه وفق رؤيتهم له ولم ينجحوا لا في تطبيق الاسلام ولا في تلبية مطالب الجمهور في العيش الكريم، بل ولم يحافظوا على وحدة البلاد فمزقوها ونهبوا خيراتها وأصبح كثير منهم من أصحاب الممتلكات عابرة القارات، وانتهي بهم الحال الى قتل تنظيمهم الذي أوصلهم الى السلطة عام 1989 بأيديهم هم، وهاهم اليوم يتباكون على أطلاله. وقد تابعت بألم شديد ما يتداوله ويتبادله بعض الاسلاميين هذه الأيام من حديث ووثائق عن ضرورة عودة المرحومة الحركة الاسلامية التي استخدمت سلما للوصول الى السلطة وتم لفظها الى ركن قصي أدراج بعض التنفدين حتى توفاها الله وشبعت موتا، وفي نظري لا سبيل لاحيائها من جديد كما سنرى فيما بعد في هذه المقالات.
سمعنا الشيخ الترابي عدة مرات يبدي أسفه على التسرع بالانقلاب ولا أدري هل كان يمكن أن يقوم بتلك المراجعات اذا ظل ممسكا بالسلطة حتى اليوم ووصل الحال الى ما وصل اليه الآن أم لا؟ فقد تمت تلك المراجعات بعد اقصائه من السلطة رغم أننا كنا نسمع منه نقدا قويا لمسيرة الدولة قبل الانشقاق ولكننا لم نسمعه يبدي أسفه على الانقلاب وقتها. لانصاف الرجل- وأنا من جلساء أهل الباطن في الحركة الاسلامية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي- أقول بأنه رغم حرصه على امتلاك الحركة الاسلامية للقوة وسعيه لتغلغل كوادرها في أجهزة الدولة قد استغرق اقناعه بتنفيذ الانقلاب عام 1989 وقتا طويلا. وأقول بكل الثقة من معلوماتي انه كان في مقدور الحركة الاسلامية أن تقوم بالانقلاب منذ المفاصلة مع نميري قبيل الانتفاضة عام 1985 وقد كان الترابي هو الذي حال دون ذلك، فتحول المسار لقبول تسلم قيادة الجيش برئاسة المشير سوار الدهب -رضي الله عنه -السلطة.
ومهما كان من تبريرات سمعناها مرارا وتكرارا للانقلاب على تلك الديمقراطية الهشة فاننا اليوم في حال أسوأ بكثير مما كان عليه الوضع قبل انقلاب عام 89 ولا يكابر في ذلك الا من تعميه شهوة السلطان والامتيازات الشخصية التي حصل عليها خلال فترة حكم الانقاذ، ولن يشفع للانقاذ التوسع في التعليم ولا ثورة الاتصالات ولا الطرق التي عبدتها ولا خزان مروي ولا حكم الشريعة المحنط...ولا...,لا.... لأننا لم نر لكل ذلك أثر ملموس في حياة المجتمع السوداني اليوم لا في التعليم ولا في الاقتصاد ولا في الصحة ولا في قيم المجتمع والسبب في ذلك هيمنة شلة بسيطة باسم الحزب الواحد الذي حل محل الحركة الاسلامية ومن خلفهم مجموعة زمارين وطبالين ونفعيين يزينون لهم سوء أعمالهم بعد أن فقدوا أي رصيد من أي نوع يسندهم لقيادة هذا البلد المنكوب الذي يتجه نحو الدمار الشامل بخطى حثيثة ان لم تتداركه رحمة الله وحكمة العقلاء. فمن أين جاءت فكرة التسلط على البلاد ورقاب العباد باسم الاسلام هذه؟
اذا رجعنا الى الوراء وتأملنا في الرسالات السماوية السابقة كلها ورسالة الاسلام على وجه الخصوص نجد أنها بادرت بتعميق الحوار الفكري والمجادلة بالحسنى وبقدر ما توفرت الحريات العامة انتشرت الرسالة وزاد أتباعها. وقد استغرق الأمر وقتا طويلا من الحوار والدعوة بالحسنى حتى تصل دعوة رسولنا (ص) الى مرحلة الدولة في المدينة، وتم ذلك بجهد بشري كبير بعد توفيق الله، وظل القراءن ينزل على الرسول (ص) ويطلب منه المزيد من الصبر وبذل المزيد من الجهد البشري في تثبيت مبادئ الحق في نفوس المؤمنين والصبر على أذى المخالفين (فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)..(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...) (لو شاء الله لهدى الناس جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)
وعندما تمنعت قريش عليه وحاربته- وهي عشيرته في مكة وقد ولد في أشرف بيوتها- على مدى ثلاثة عشر عاما من العمل المتواصل بدأ يبحث عن قاعدة أخرى ينشر فيها ومنها الدعوة ويقيم فيها دولة الاسلام وتعاليمه على الرغم من أهمية مكة في تاريخ الدين والبشرية وحبه الشخصي لها (ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) فاتجه الى الطائف ووجد صدودا أكبر واهانة أسوأ، وعندما جاءه أهل المدينة وبايعوه على النصرة والحماية في منى طلبوا منه في ذات الاجتماع أن يأذن لهم ليميلوا بسيوفهم على القرشيين الذين كانوا في مني فيقضوا عليهم، فقال لهم لم نؤمر بذلك، وعندما جاءهم مهاجرا الى المدينة أول عمل بدأ به هو كتابة ميثاق شرف ودستور يحفظ لكل أهلها من مسلمين ويهود ووثنيين حقوقهم وحدثنا أهل السير بأنه ذهب الى اليهود ليستعين بهم في المساهمة في دفع دية قتيل ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان على الرغم من علمه بنفاق عبد الله بن أبي بن سلول ظل يصله ويحسن اليه ولم يسمح بقتله بعد الفتنة التي أثارها في غزوة بني المصطلق، وحتى عندما جاءه ابنه وطلب منه أن يكون هو القاتل لأبيه اذا قرر الرسول (ص) قتله رفض الرسول ذلك، بل لم يأمر بحبسه أو ابعاده من المدينة وهو يقوم بأسوأ أعمال الدس والوقيعة داخل المجتمع المسلم الذي استطاع بالرغم من كل تلك المعوقات أن يحدث نقلة كبيرة في حياة البشر فهما وسلوكا ونتاجا وانجازات ملموسة في واقع الحياة. و عندما رحل الرسول (ص) بصورة مفاجئة اثر علة لم تمهله طويلا والتحق بالرفيق الأعلى، استطاع المجتمع المسلم أن يمتص الصدمة بسرعة وتمضي مسيرة الأمة المختارة وتتمدد الدولة الاسلامية من أفقر البلاد على ظهر الأرض حتى تبلغ كل أطراف العالم المعروف في أقل من ربع قرن، تنشر دينها ولغتها وثقافتها المنبثقة من هذا الدين الخالد الذي علم الناس الحرية والشفافية والعدالة والمساواة على أنقاض حضارات عريقة وراسخة في ذلك الزمان الروم والفرس......فما هو كسبنا في السودان بلد المليون ميل مربع سابقا خلال ربع قرن من حكم الانقاذ باسم الاسلام وبقيادة حركة اسلامية عمرها أكثر من رنصف قرن ؟ صفر أو ما دونه....
اذن ما هي السبل للخروج من الأزمة الحالية التي يواجهها السودان وتواجهها حكومة الانقاذ التي فرضت رؤيتها للاسلام وبعد ما يقارب ربع القرن من التجريب والتخريب أفلست تماما ووصلت الى طريق مسدود واستكملت كل أعراض متلازمة الحكام العرب من استعداء واقصاء واستعلاء وفشل ونكران وعناد ولم يبق لها الا السقوط المدمر الذي نسال الله أن يجنبنا اياه.
أول هذه السبل للخروج من الازمة هو الاعتراف بالفشل من عند القائمين على الأمر أنفسهم وكذلك من قواعد الحزب الحاكم، هذه هي نقطة البداية للاصلاح فهل يمكن أن يحدث ذلك؟ أما على مستوى القيادة فهنالك كثيرون عرفوا الخطأ الذي تسير فيه الدولة ومنهم من (تخارج) بهدوء وابتعد من عدة سنوات، ومنهم من جهر بالنصح فهمش وأبعد من دائرة صنع القرار، ومنهم من اتهم بموالاة الأعداء فعزل، أما القواعد فقد بدأت تتحرك مؤخرا وقرأنا المذكرات تلو المذكرات وبعض الأقلام الجريئة من داخل صفوف الحزب الحاكم التي بدأت تجهر بالنصح على الملأ ولكن لا يوجد أثر حقيقي لكل تلك الأعمال لأن الفئة المحدودة التي تمسك بزمام الأمور لم تقتنع بعد بخطورة ما يجري، وهنالك من يزين لها موقفها من بطانة السوء واهل المصالح العاجلة لتستمر في ذات النهج، فهل هنالك من أمل أن تحدث ثورة قواعد عارمة تطيح بالرءوس المتحجرة ام يفيق بعض رموز النظام ويعلنون الثورة من عل، الله اعلم.
فلنحسن الظن ونتفاءل خيرا ونقول بأن المؤتمر الوطني اقتنع بضرورة التغيير وحدثت فيه ثورة من أسفل الى أعلى أو من أعلى الى أسفل فما هو المطلوب من تلك الثورة أن تقوم به للخروج من الظرف الراهن؟
اذا حدثت تلك الثورة من داخل الحزب – وأدعو الله أن يتم ذلك عاجلا غير آجل- فسيكون ذلك اعتراف ضمني بحجم المشكلة التي يعاني منها السودان اليوم وكذلك اقرار بفشل النهج الذي أتبع خلال الفترة السابقة وبذلك تكون الانقاذ قد تعافت من الاستعلاء والنكران والعناد وتلك من أهم أعراض متلازمة الحكام العرب، ويبقى أمامنا كيفية الخروج من الأزمة التي خلفتها الفترة السابقة قبيل الانتخابات القادمة التي تحل بعد أقل من عامين بحكمة يقبلها الجميع ويشارك فيها الجميع دون عزل أو اقصاء لأحد في ظل حرية تامة تنهي سيطرة الحزب الواحد خلال فترة انتقالية تمتد لأربعة وعشرين شهرا يعرف فيها كل فريق قدره أمام الشعب السوداني، وأهم ملامح تلك الفترة الانتقالية وأولى خطواتها المطلوبة هي تشكيل مجلس سيادة أعلى توافقي من سبعة أشخاص يمثلون الكتل السياسية الكبيرة التي كانت في الساحة قبيل الانقاذ (2 لحزب الأمة 2 للاتحادي 1 للجبهة الاسلامية و1 لأحزاب اليسار) بالاضافة للمشير البشير وتكون رئاسة المجلس بالتناوب لمدة 24 شهرا، ويرأسه المشير عمر البشير في الاشهر الثلاثة الاولى والثلاثة الاخيرة وبقية الشهور تتم فيها الرئاسة بالقرعة ثلاثة أشهر لكل عضو.
أولى مهام مجلس السيادة التوافقي تشكيل حكومة نكنوقراط رشيقة تتولى ادارة شئون البلاد خلال الفترة الانتقالية وتعد العدة لانتخابات عامة لتشكيل برلمان قومي يعقد أولى جلساته خلال ثمانية عشر شهرا من بداية الفترة الانتقالية ويقوم مجلس السيادة في ذات الوقت أيضا بتشكيل لجنة قومية توافقية لتقديم مقترح دستور للبلاد يتم التوافق علية في مجلس السيادة ويرفع للبرلمان المنتخب بعد تشكيله مباشرة لدراسته واجازته. بعد اجازة الدستور في البرلمان يتولى مجلس السيادة والحكومة الانتقالية الاعداد لانتخابات الرئيس الجديد وفق ما نص عليه الدستور المجاز في بقية الشهور الستة المتبقية من المرحلة الانتقالية ليتولى صلاحياته من مجلس السيادة بنهاية ال24 شهرا من المشير البشير مباشرة، وبعد ذلك يقوم الرئيس المنتخب مع البرلمان المنتخب بتشكيل الحكومة وفق نصوص الدستور المجاز -اذا كان رئاسي او برلماني.
اذا تمت الموافقة على هذا المقترح وهو قابل للتعديل والاضافة والحذف نكون قد انجزنا عملا حضاريا مميزا تذكره لنا الأجيال القادمة ونكون قد تخلصنا من هيمنة الحزب الواحد بطريقة متحضرة و جنبنا البلاد الدخول الى مرحلة الفوضى واني لأرجو أن يتم حوله حوار واسع داخل الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة وتقدم الدعوة لكل حملة السلاح في أطراف السودان لالقائه فورا والمشاركة في العملية السياسية، ويقدم الدعم للقوات النظامية لتقوم بدورها الفاعل في حماية الثقور وحماية المرحلة الانتقالية في ظل حريات مشرعة تتيح لكل حادب على مستقبل السودان أن يدلو بدلوه. هذه الفترة الانتقالية لمدة أربعة وعشرين شهرا ستوصلنا الى موعد الانتخابات القادمة حسب ماهو مبرمج من قبل الحكومة نفسها، فخير للحكومة أن تزيل الاحتقان الداخلي بهذه الخطوة الجريئة وتربك حسابات القوى الدولية التي تصعد من ضغطها هذه الأيام على الحكومة عبر المحكمة الجنائية والخنق الاقتصادي بمختلف السبل للحصول على المزيد من التنازلات لحكومة الجنوب في المفاوضات المتعثرة وكل الشواهد والمشاهد على مسرح السياسة الدولية تقول بأننا نحتاج لمبادرة جريئة فهل يفعلها السيد الرئيس مرة واحدة، أرجو ذلك.
بالتزامن مع هذا المسار المقترح للمرحلة الانتقالية فانني أدعو قواعد حزب الحرية والشفافية والعدالة (الحشد) وكل القوى السياسية في البلاد بما فيها قواعد المؤتمر الوطني التي لا تعجبها الأوضاع الراهنة الى وقفة أسبوعية صامتة يوم الجمعة من الساعة 11- 12 ظهرا في الميادين العامة في كل مدن وقرى السودان ليس فيها هتاف ولا ندوات ولا ميكروفونات، فقط يمكن أن نحمل فيها شعارات مكتوبة وتدور فيها مناقشات فردية جانبية وتعارف وتنسيق مواقف، تبدأ هذه الوقفات الاحتجاجية الصامتة ابتدأ من الجمعة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر يونيو الحالي وتستمر آخر جمعة من شهر رمضان المعظم في الخرطوم ميدان أبو جنزير وبحري ميدان عقرب وأم درمان ميدان الخليفة وبقية مدن السودان وقراه بالميادين التي يتفق عليها أهل البلد، واذا وجدنا تجاوبا من الشعب في مختلف أنحاء السودان وتم توثيق ذلك عبر وسائل الاعلام المحلية والعالمية نكون قد قمنا بعمل حضاري على طريقة الزعيم الهندي غاندي. ونبذل كل ما في وسعنا الالتزام بأنها وقفة صامتة واذا تصدت لها الحكومة بالمنع نصر عليها ونكررها كل أسبوع ونلتزم بالصمت وعدم الاستجابة لأي استفزاز واذا أصبحت التجمعات مليونية كل أسبوع سوف تقبل الحكومة بتغيير موقفها طوعا أو كرها، ولكل حادثة حديث، ولكن من حقنا أن نقف في حر الشمس ونعبر عن احتجاجنا لما يجري ولن تغلب ارادة الشعوب أبدا باذن الله....ونواصل