الاثنين، 18 يونيو 2012

الإنقاذ: من العقيدة إلى القبيلة .. بقلم: صديق أمبده


الإنقاذ: من العقيدة إلى القبيلة .. بقلم: صديق أمبده


السؤال الاستنكاري "من أين آتى هؤلاء الناس؟" الذي جعله الأستاذ الطيب صالح – رحمه الله- عنواناً لإحدى مقالاته فى أول التسعينيات مازال قائماً يسأله الناس كلما أتت الإنقاذ بفعل منكر لم يسبقها عليه أحد (تقرأ حكم) وأفعالها هذه كثيرة ، وآخرها انحدارها نحو العنصرية وتحزم قادتها ومؤسساتها بالقبلية والعشائرية . تداول السودانيون أمر هذا التحول منذ مدة - ربما بعد المفاصلة بصورة أكبر – حيث انتهي "تمكين" الصالح العام ، "التمكين" الذي نظَّر له الدكتور حسن الترابي وأراده تمكيناً لأهل المشروع الحضاري ليمسكوا بمفاصل السلطة والمال وليجعلوا من كل السودانيين عداهم رعايا لا يحق لهم تسنم الوظائف العامة القيادية والوسيطة ولا التمتع بثمار أعمالهم وتجارتهم إلا بعنت شديد ، وذلك حتى يتمكنوا هم من الحكم (تقرأ كامل التسلط على البلاد والعباد). "التمكين" الذي جعلته الإنقاذ في نسختها الثانية بعد المفاصلة- تمكينا للمجموعات القبلية للشمال النيلي – "الجلابة" دون مشورتهم ودون إذنهم وصبّت عليهم لعنات وبغض الشعب السوداني (الفضل)-في تعبير الكاتب الفاتح جبرا- خاصة مجموعات الهامش من دارفور و كردفان والنيل الأزرق والشرق وحتى الوسط النيلي . لكن هل يستحق "الجلابة" هذا؟
"الجلابة" او الأفراد الذين هاجروا من الشمال النيلي (دناقلة-جعليين-شايقية ومن جاورهم ) الى الوسط وأقاصي الغرب بغرض التجارة – هربا من الفقر في مناطقهم -(او حتى كموظفين منتسبين إلى الشمال النيلي) استقروا فى تلك المناطق واختلطوا بأهلها وشاركوهم أفراحهم وأتراحهم وشاركوا فى العمل العام وإنشاء المدارس الأهلية والمراكز الصحية والأندية الرياضية والثقافية ، شاركوا بجهدهم ومالهم واعتبروا تلك المدن أوطانهم ولم يعد الجيل الثاني منهم للوسط إلا بعد أن أصبحت نوافذ الاستثمار أقل من إمكانياتهم المادية التي تجمعت على مر السنين . لقد ساروا في أهل تلك المناطق سيره حسنة وأوصوا ان يدفنوا فى مدنهم تلك إذا حان الأجل ، كناية عن المحبة والارتباط بتلك الأرض . فمن أين أتى هؤلاء الناس الذين شوهوا هذه الصورة النضرة واكسبوا "الجلابة" عداوة جيل جديد لم يعرف تلك الحسنات فأصبحت الإنقاذ وظلمها وعنصريتها الجديدة مجسما لأهل الشمال جميعا حتى "الجلابة" الآخرون الذين ينافحون صباح مساء عن حق كل السودانيين فى الوطن وخيراته وعن الديمقراطية والحرية ، ينافحون بالقلم والقول وبعضهم حتى بالمشاركة بالسلاح مع حركات الهامش (مهما اختلفنا معها) .
هذه العنصرية الجديدة والتى وصلت حداً أدهش الأستاذ الشاعر محمد عبد القادر سبيل ("كيف استجدت العنصرية في حياتنا ومؤسساتنا العامة" الصحافة 18/8/2011) العائد لتوه من غربة طويلة . فرغم اللون "الفاتح" وسمت قبائل أهل الشمال - أضاعت عليه هذه العنصرية عددا من الوظائف المرموقة " لأنني لست من شعب الله المختار" على حد قوله (هو من النيل الازرق). هذه العنصرية لها نسب في التوجه الثقافي والسياسي العرب-إسلامي (عبد الله بولا – "شجرة نسب الغول" مجلة مسارات جديدة 199 وفى ظلم أهل الهامش الذي تأسس فى فترة الاستعمار وفشلت النخب السياسية وسياساتها قصيرة النظر فى التصدي له بعد الاستقلال . لقد كان الاستئثار بالسلطة ميراثا للمتعلمين من أبناء الوسط تكالبوا عليه بأحزابهم وعند سودنة الوظائف في بداية الاستقلال ، حرموا منه حتى الجنوبيين الذين وعدتهم الأحزاب السياسية بمناصب مقدره وكانوا يطالبون فقط بأربعين وظيفة فمنحوا ستة وظائف من مجموع ثمانمائة وظيفة أخلاها الخواجات مما أدى في نهاية الأمر الى الانفصال .
في بحث سابق(امبده (1991) – تعليم الاستعمار واستمرارية المظالم - بالانجليزية ) (انظر أيضا أمبده 1990- دليل قادة الخدمة التنفيذية والعامة فى السودان 1954-1989) عرفنا السلطة على أنها تشمل رئاسة الدولة والوزراء والوكلاء ومديروا المصالح الحكومية وكبار ضباط الجيش وكبار ضباط الشرطة وقضاة المحكمة العليا . وبالرجوع الى الأصول الجهوية (الإقليمية) للذين احتلوا تلك المناصب اتضح ان هنالك تركيزاً شديداً للسلطة في الفترة المذكورة في الوسط والشمال ، تركيزا يمكن تفسير استمراره بعد الاستقلال بقصر النظر السياسي الذي لم يستن التمييز الايجابي في احتلال بعض المواقع القيادية فى الخدمة المدنية والعامة ليمكن كل السودانيين – خاصة أهل الهامش- من أن يروا أنفسهم فى مرآة الدولة وان كل السودانيين سواسية في تسنم الوظائف العليا. لكن ذلك التركيز لم تكن له دوافع عنصرية قصد بها إقصاء أهل الهامش في اعتقادي وإنما قصر نظر سياسي تغذَّي على مطامع الأفندية وتكالبهم على الوظائف والترقي . فما مدى ذلك التركيز فى الأربعة عقود الأولى التي أعقبت الاستقلال وكيف تطور بعدها في عهد الإنقاذ ؟
كان معامل تركيز السلطة في أقاليم السودان الأوسط(الخرطوم والشمالي والأوسط القديم ) فى الفترة المذكورة (1954-1989) عاليا جدا (نحو 80%) بحد ادني 70% للوزراء وأعلى 92% للوكلاء ومدراء المصالح بينما توزعت الـ 20% المتبقية على بقية أقاليم السودان بما فيها الجنوب . ومما يجدر ذكره فان مدينة ام درمان وحدها-وليست ولاية الخرطوم – كان نصيبها في المتوسط من السلطة بتعريفها آنف الذكر نحو 27% من كل فئة بحد اعلي 49% لكبار ضباط الجيش و45% للرؤساء والوزراء ، وحد ادنى 26% للوكلاء ومديرو المصالح الحكومية . وقد كانت نسبة سكان ام درمان حينها حوالي 1% (واحد في المائه) من سكان السودان اذ كان عدد سكانها نحو 114.000 نسمة في تعداد 1955. والسبب الرئيسي في اعتقادي هو تركز التعليم فيها فى تلك الفترة . وجاء زمن خرجت فيه حتى ام درمان من المعادلة .
أما الإقليم الشمالي (ولايتي الشمالية ونهر النيل) فقد كان نصيبه من السلطة حوالي 22% فى المتوسط بحد ادني قدره 10% من الوزراء وحد أعلي 30% من قضاة المحكمة العليا. فماذا حدث بعد الإنقاذ ؟ هل هجمت الإنقاذ بإقليمها الشمالي على مأدبة السلطة باليدين بدلا عن الشوكة والسكين كما قالت الحركة الشعبية (عندما كانت شريكا فى الحكم بعد إصرار المؤتمر الوطني على وزارتي المالية والطاقة خلافا للاتفاق) .
لحسن الحظ هنالك إحصائيات حول مؤشرات الاستئثار بالسلطة في الفترة 1990-2001 وهي التي وردت فى الكتاب الأسود . الكتاب الذي أثار صدوره ضجة عارمة ونعت مصدروه بالعنصرية علما بانه لم يكن لينشر الا بصورة سرية . ومن المتداول فى شأن الكتاب المذكور، والصادر فى السنوات الأولى التي أعقبت المفاصلة انه في الأصل تم جمع المعلومات التى يحتوى عليها بواسطة النظام نفسه عندما كان جسما واحدا. والدلالة على ذلك المعلومات الدقيقة التي يحتويها والخاصة على سبيل المثال بالأصول الجهوية لكبار مسئولي الأمن والمخابرات ، وهى مما لا يتوفر إلا لأهل الحكم أنفسهم . وقد توجهت أصابع الاتهام حينها الى المؤتمر الشعبي .
مؤشرات الاستئثار بالسلطة تحت الإنقاذ في عشريتها الأولى ، والتي اخرج الأستاذ المحبوب عبد السلام شيخه منها كما تخرج الإبرة من العجين (انظر المحبوب – الحركة الإسلامية السودانية (2010)، أظهرت تحولا جذريا فى تلك المؤشرات مقارنة بالفترة 1954-1989 . فقد ارتفعت نسبة منسوبي الإقليم الشمالي (الشمالية ونهر النيل حوالي-ثلاثة ونصف في المائة- 3.5% من السكان حاليا ) من متوسط 10% من الرؤساء والوزراء فى الفترة الأولى الى متوسط 52% فى عشرية الإنقاذ الأولى ، مما أسس للأنكفاء الجهوى شديد الوضوح في الفترة اللاحقة (الى 2011) والذي أصبح يرى بالعين المجردة (ملاحظة الرجل العادي وليس الإحصائيات) حتى أصبح يوصف بالعنصرية عيانا بيانا ليس على مستوى السلطة السياسية فحسب وإنما على مستوى الخدمة المدنية والعامة ومؤسسات الدولة وشركاتها ، وشركات الطبقة الرأسمالية الإسلامية الجديدة التى سعت الإنقاذ الى تمكينها وإحلالها محل الرأسمالية القديمة (على وزن القرش الأبيض لليوم الأسود ). وللإنقاذ فى ذلك فنون وأدوات ليس اقلها لجنة الاختيار ومعايناتها الشكلية (انظر الطاهر ساتي فى عموده في الصحافة (9/5/2006) وما جاء فيه عن طرائف المعاينات وأسئلتها التى لا علاقة لها بالوظيفة وإلحاق أناس بالمعاينة النهائية لم يجلسوا حتى للامتحان التحريري. اما على مستوى الوظائف القيادية والوسيطة والتي لا يتم الإعلان عنها أصلا فتكفى أخر الشهادات والتي ذكرها الأستاذ سبيل(الصحافة 18/8/2011 ) "انت من وين" ؟
بعد اتفاق الدوحة الأخير ثار لغط كثير حول منح دارفور (حوالي 22% من السكان) منصب نائب رئيس الجمهورية وطفقت أبواق الحكومة فى الصحف تردد ان ذلك يكرس للجهوية متناسين ان الجهوية قد باضت وأفرخت تحت نظام الإنقاذ . دعونا مرة أخرى ننظر فى مؤشرات الاستئثار بالسلطة تحت دولة الإنقاذ . منذ بداية الإنقاذ ولمدة 22 عاما احتكر الإقليم الشمالي (السلطة) ممثلة فى مناصب رئيس الدولة والنائب الأول (حتى نيفاشا) والنائب الثاني بعدها والوزارات السيادية الأساسية مثل وزارة رئاسة الجمهورية ، وزارة مجلس الوزراء (عدا فترة ما بعد نيفاشا) ، وزارة الداخلية (عدا فترة إبراهيم محمود والزبير بشير) ووزارة الدفاع (عدا فترة إبراهيم سليمان) ووزارة الخارجية (عدا فترة نيفاشا) وزارة المالية (عدا فترة سيد زكي وعلى محمود الحالية) ووزارة الطاقة (عدا فترة لوال القصيرة) بالإضافة الى مديرو الشرطة ونوابهم (44%) وحكام الولايات (34% قبل نيفاشا) بالاضافة الى مدراء جهاز الأمن والمخابرات ونوابهم وكبار المسئولين فى هذه الأجهزة .والاحتكار الفعلي لما هو دون ذلك . فماذا بقى من السلطة التنفيذية إذن (وزارات الثروة الحيوانية والصحة والسياحة والمساحة والشباب والرياضة؟) . ماذا سيقول هؤلاء النابحون لو كان كل هؤلاء الحكام من دارفور مثلا أو كردفان او الشرق او حتى النيل الأبيض والجزيرة .
الاستئثار بالسلطة فى الدول النامية (خاصة تحت الانظمة الشمولية ) هو المدخل الأساسي الى توزيع الثروة وذلك لان الدولة بوظائفها وعطاءاتها وإعفاءاتها هى مصدر الثروات في هذه الدول (عديمة الشفافية) التى لم يتجذر فيها الشعور القومي بعد . السلطة فى منح العطاءات والأراضي الاستثمارية والسكنية والإعفاء من الضرائب والجمارك والرسوم ، سلطة التوقيع ، وسلطة اتخاذ القرار . سلطة اتخاذ القرار هي الثروة الحقيقية فى الدول النامية الشمولية ، ولذلك فالاستئثار بها هو الاستئثار بتوزيع الثروة فى نفس الوقت . الأمر لا يحتاج الى دليل اذ يكفى فقط ملاحظة تحول كوادر الإسلاميين من مدرسين وطلاب (فى الأصل) ومن فقراء (على الحديدة) الى رأسماليين كبار في ظل الإنقاذ وأثرياء باعترافهم (ويتمنون الزيادة) . هذا غير ما توفره هذه الثروات من التطاول فى البنيان والزواج مثنى وثلاث ورباع والتمتع بطيبات الدنيا (وليس الآخرة) . (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) او "النسوان والبنون" كما قال ود الريس فى الرواية المشهورة .
أين هؤلاء من تاريخهم وأصولهم المتواضعة ماديا مثل اغلب السودانيين . يقول الدكتور التجانى عبد القادر (نزاع الإسلاميين فى السودان 200، "ان الغالبية العظمى من أعضاء الحركة الإسلامية جاءوا من الشرائح الاجتماعية الفقيرة القادمة من قاع المجتمع او من شريحة الموظفين محدودي الدخل ، وأن من كانوا يملكون منازل خاصة فى الخرطوم تتسع لاستضافة اثنين او ثلاثة يعدون على أصابع اليد الواحدة" ويضيف "ويقولون الآن أنهم بنوا عماراتهم الطويلة من استثماراتهم !" (ص 139) .ويطابق هذا قول محجوب شريف في إحدى قصائده (خزنة وتنك ، وطلقة فشنك ، طلع البدر علينا ، يا مستهبل، أم طلع البنك) ، وربما هذه من بصائر الشعراء (الرؤية قبل الآخرين) .
و الإنقاذ وظَّفت الاستئثار بالسلطة فى تعميق جراح الفوارق التنموية بدلا عن ردمها . الأصل أن يتم الاعتماد على دراسات الجدوى للمشروعات الاقتصادية وإنشاء الطرق وفق الأسبقيات القومية بحيث تنشأ الكباري وتمتد الطرق الى مناطق الإنتاج (التي تفك ضائقة المدن المعيشية وتجعل أهل الريف يستقرون في قراهم) أو المناطق ذات الكثافة السكانية العالية . لكن الإنقاذ مسكونة بالتعنصر وسوء التصرف – ودون اذن من أهل الشمال – رأت غير ذلك . كيف تفسر إذن إنشاء طريقين شرق وغرب النيل الى أقصى الإقليم الشمالي ليس فى مثلث حمدي فقط وإنما فى خط الجيلي / قرى- دنقلا فى الأساس(ومن بعد طريق فى الصحراء من دنقلا الى ارقين قرب مصر). كيف نفهم إنشاء كباري لبعض القرى ومشاريع زراعية لا توجد لها عمالة فى منطقة ذات كثافة سكانية ضعيفة ومناطق غير إنتاجية فى معظمها ( انظر الأحداث22/8/2011 حول استزراع مشاريع لاستيعاب أكثر من مليون شاب مصري). أهل الشمال مواطنون يستحقون الخدمات مثلهم مثل كل المواطنين لكن الظلم بالمساواة عدل فاين الجدوى وأين الاستقامة وأين الحساسية السياسية – أم هي خيارات المتعلمين والأفندية لقضاء عطلة العيد مع خالاتهم وحبوباتهم .
أكدنا فى فقرة سابقة ان الأرجح فى عدم معالجة التفاوت التنموي والاستئثار بوظائف الدولة العليا فيما بعد الاستقلال - دون مراعاة لما قد يؤدى اليه ذلك لاحقا من غبن سياسي - قد يكون ذلك ناتجا عن أنانية الأفندية وضيق أفقهم القومي بالاعتناء فقط بالمؤهلات عند التعيين والترقي دون مراعاة تفضيل أبناء المناطق الأقل حظوة (تمييز ايجابي) - على الأقل اذا تساوت المؤهلات (حيث تتدخل شبكة علاقات المصاهرة والقرابة والجيرة لتحرم أبناء الهامش من المشاركة – الماعندو ضهر ينجلد على بطنو). ولكن فى عهد الإنقاذ اختلفت الأمور وكانت قاصدة فى كل ما اتخذته من خطوات بشان تنفيذ مشروع التمكين الكامل مهما كانت نتائجه ومهما كانت كارثية تبعاته.
فالتمكين ركيزة أساسية فى فقه الإنقاذ فى كيفية تثبيت دعائم حكمها ، اذ يقضى ذلك بالاستيلاء على "السلطة" أولا (بالانقضاض على النظام الديمقراطي بليل ) ثم الاستيلاء على "الدولة" بإحلال كوادر الجبهة وتمكينهم من اى منصب يرغبونه فى الخدمة المدنية والقوات النظامية والدبلوماسية – أي في أي منصب به رقشة مال اول سلطة قلم او اتخاذ قرار ، ثم القضاء على فئة التجار المرتبطة بالأحزاب التقليدية وغيرهم وإبدالهم بطبقة جديدة رأسمالية (من الحزبيين/الإسلاميين) . والأخيرة هذه هي فكرة علاقة التنظيم بالسوق الذي يقول التجانى عبد القادر انها خاطئة (من وجهة نظره) ولكنها فى تقدير براغماتية الحزب ومكافيليه (من مكيافيللي) نظرية صحيحة لان الحزب لا يكون قويا الا اذا صار غنيا ولا يكون غنيا بالصدفة وإنما بالفعل القاصد ، ان يصنع من أعضائه أغنياء من أموال الدولة وسلطانها – (أي أن يكون جيب الدولة هو جيب الحزب) - وذلك فى نظرهم من صحيح السياسة (وان لم يكن من صحيح الإسلام أخلاقا وممارسة – ويبدو أن ذلك لم يكن همهم ابتداءاً).حقيقة هل كان هدف الإنقاذ منذ قيامها إقامة "دولة المدينة" أم دولة الحزب؟ .
المشكلة هي أن التمكين بهذا الشكل المتوحش يصبح منفلتا فينحرف عن غرضه الأساسي (ان يكون الحزب غنيا) لينغمس فى المصالح الشخصية والاثنية (وهى اليد الخفية التي أشار إليها آدم سميث في أنها هي التي تنظم السوق وتعظم أرباح المشاركين فيه ) ويجعل من التنظيم وحكومته ومؤسساتها غطاءا وتأمينا لعمل المجموعات التى دخلت السوق.
والمشكلة هنا ان الإقصاء (والغبن التنموي عموما) الناتج عن عدم التساوي فى الفرص والدخول هو المحدد الرئيسي والسبب المباشر للنزاعات سواء كانت وسائلها سلمية او عسكرية . وهذه النزاعات تؤدى الى عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي وتزيد من وتيرة الفقر وفشل الدولة فى تلبية حاجات مواطنيها حتى لو أرادات . وحيث ان عدم الاستقرار الاقتصادي يؤدى إلى ضمور الاقتصاد وقطاع الصادر منه على وجه الخصوص فانه بالتالي يؤدى إلى الاعتماد على العون الأجنبي (المشروط) وهو مكروه . اما عدم الاستقرار السياسي بإقصاء الأخر فان نهايته المنطقية هو ان يؤدى الى الاستعانة بالأجنبي من قبل بعض مكونات القوى المعارضة اذا سدت فى وجهها كل الأبواب . وهو كما نعلم طريق سالك منذ أن تعاونت بعض قبائل الشمال النيلي مع حملة الفتح (كتشنر) لهزيمة المهدية مكونين جزءا معتبرا من الجيش الغازي.
ربما يرى الإنقاذيون – بمنظار مصالح السلطة والمال المكتسب – ان التمكين المنكفئ على أهل الولاء بالقبيلة وصلات الرحم هو الدرع الذي يحميهم من شعبهم خاصة بعد خروج الوسط (الجزيرة والنيل الأبيض وحتى ام درمان كما اشرنا ) من دائرة عين الرضا. وربما يكون هذا صحيحا لفترة ولكنه ليس كافيا (لان العدل هو سياج الحكم) بل ويسبب هذا السلوك بغضا للمجموعات القبلية المذكورة بكاملها ويأتي بنتائج كارثية لها فى المستقبل . ويرى كثيرون أن نظام الإنقاذ فى طريقه لان يصبح معكوس حكم الخليفة عبد الله والذي نقل قبائل الغرب بالإكراه لامدرمان لحمايته وحماية حكمه. لكن العيب والإفلاس السياسي ان تلجا الإنقاذ الى وسائل بالية عمرها اكثر من مائه عام ، فهى لم تجد لا فى كنانة الإسلام ولا فى جراب السياسة الحديثة من الوسائل والأساليب ما يعينها على المحافظة على الحكم الا التمكين والإقصاء وعنف الدولة . ولها فى القذافى عبره اذ لم تستطع ان تحميه من شعبه سراديب باب العزيزية ولا قبائل القذاذفة ولا الكتائب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق