تجاوز عمر الصحافة السودانية المائة عام، وبعد هذا العمر المديد كان ينبغي أن تكون قد شبت عن الطوق وأصبحت مرموقة إقليمياً ودولياً، ولكن للأسف الشديد فالصحافة السودانية اليوم في وضع لا تحسد عليه، ولعل هذا التردي في تقديري يعزى لأسباب كثيرة أهمها أن الصحافة لم تصدر خلال هذه الأعوام بصورة متواصلة، إذ إن البيان رقم (1) في الانقلابات العسكرية المتكررة في السودان كان يحتوي على إغلاق ومصادرة الصحف مما يجعل الصحفيين يهاجرون للعمل في المهاجر وخاصة في الخليج العربي، بل وفي الصحف العربية التي تصدر من لندن وباريس، وبذلك لم يكن هنالك تواصل أجيال وهو مهم جداً في الإرث الصحافي وفي نقل الخبرات من جيل إلى جيل. ولعل كرة القدم السودانية عانت من هذا الداء بعد ما يسمى "الرياضة الجماهيرية" في عهد الرئيس نميري والتي تم فيها حل كل الفرق الرياضية، وأدت كذلك لهجرة اللاعبين والإداريين لخارج البلاد.. والسبب الآخر أن الكثير من الكوادر التي تعمل في الصحف اليوم تفتقر إلى الكثير من المهارات وأهمها الفهم والاستيعاب، فنجد كثيراً من الصحفيين يستمعون للخبر ثم ينقلون نقيضه في صحفهم، ومن تلك المهارات كذلك اللغة العربية، فنجد بعض الصحفيين يخطئون كثيرًا في قواعد النحو والإملاء، وهذا التردي الذي نشير إليه ليس قاصراً على الإعلاميين فقط بل هو جزء من منظومة تمثل مخرجات الجامعات الكثيرة التي تم إنشاؤها مطلع التسعينات بقرارات سياسية، ولكن دون توفير الإمكانات التي تضمن جودة التعليم.. * حدثني خبير إعلامي أن معظم الراسبين في امتحان القيد الصحفي هم من خريجي كليات الإعلام، وإسهاماً من جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا لمعالجة هذا الخلل أنشأت الجامعة كلية للإعلام تأمل أن ترفد سوق الإعلام بخريجين بنفس التميز المعروف لخريجي الجامعة في كلياتها المختلفة. وهذا الحديث عن الصحافة والصحفيين لا يعني التعميم، إذ إن هنالك بعض الصحف وبعض الصحفيين الذين يعملون بصورة جيدة وبمهنية عالية. الحريات كما أسلفت شرط لازم لازدهار الصحافة وتطورها، بل هي الهواء الذي تتنفسه والذي بدونه تذبل وتموت أو تصبح نشرة أخبارية رسمية باهتة، ولكن الحرية يجب أن تكون مقرونة بالمسؤولية وحرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، ويجب ألا تُستغل هذه الحرية للتجني على الآخرين ويجب ألا تستغل هذه الحرية في الابتزاز، ويجب أن لا تستغل هذه الحرية في استهداف أشخاص لأسباب شخصية، ويجب أن يكون النقد هادفاً يراعى فيه التجرد والموضوعية وينأى عن الإثارة وفحش القول ويهدف للإصلاح والتقويم.. ظلت جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا ومؤسسها هدفاً لهجوم جائر وغير مبرر صبرت عليه كثيراً، ولكن عندما فاض الكيل لجأت للقضاء العادل ومازالت تنتظر كلمة القضاء في مرحلته الأخيرة.. لم تتنازل جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا عن هذه القضايا كما فعل آخرون غيرها رغم كل الوساطات والأجاويد، وذلك ليس رغبة في الانتقام بل لإرساء مبدأ وهو "لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، فجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا هي مؤسسة تربوية قبل أن تكون تعليمية ونهجها مع طلابها أنه إذا تجاوز الطالب أو الطالبة في أمر يتعلق بالخلق والسلوك القويم تتم محاسبته ومعاقبته حسب اللوائح، وذلك تاديباً له وليكون مثلاً رادعاً للآخرين، وتمت معاقبة الكثير من أبنائنا الطلاب وتم فصل بعضهم من الجامعة رغم الوساطات التي نقدرها ولكننا لا نستجيب لها.. نشرت إحدى الصحف عنواناً رئيساً وباللون الأحمر (مامون حميدة يسرق الكهرباء)، وهذا الخبر فيه الكثير من التجاوزات والخروج عن المهنية، وذلك أن الصحيفة دمغت بروفسير مأمون بالسرقة استناداً على خطابات متبادلة بينه وبين المهندس مكاوي مدير الهيئة القومية للكهرباء، واتضح أن هذه المستندات مسروقة من جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا والتي بادرت بفتح بلاغ بالسرقة في القسم الشرقي برقم 699/2012 ومازال التحري مستمراً.. والملاحظة المهمة أن ما فعلته الصحيفة يعتبر جريمة قذف في الشريعة الإسلامية لأنه لم يثبت أن البروفسير مأمون قام بتلك الجريمة النكراء وهو يربأ عن ذلك، والصحيفة استندت في ذلك الخبر على أن خطاب المهندس مكاوي ذكر فيه أن هنالك تلاعباً في عداد الكهرباء بالجامعة.. وبعد التحقيق اتضح أن هنالك خطأً فنياً وتمت تسوية القضية بالتراضي بين الطرفين، وهذه الحادثة تمت قبل سبع سنوات، أي في العام 2005 ولم تشر الصحيفة لهذا التاريخ متعمدة والجامعة شخصية اعتبارية لها صفة قانونية منفصلة لا يمكن أن تختزل في شخص رئيسها ومؤسسها والخبر لم يراع مكانة الرجل العلمية والأدبية. أما الآراء التي وردت في خطاب بروفسير مأمون فلا نجد حرجاً في نشرها، وبروفسير مأمون رغم أنه إسلامي وكان من أشواقه أن يتحقق حكم الشريعة في السودان لا يتردد فى إسداء النصح وفي تقويم المسيرة، بل هو أول من جاهر بمعارضة سياسة حكومة الإنقاذ في مجال التعليم العالي عندما كان مديراً لجامعة الخرطوم، فاعترض على قبول الطلاب العائدين من جامعات شرق أوروبا، وذلك لعدم استيفائهم لشروط القبول بجامعة الخرطوم، واعترض كذلك على سياسة التعريب على عكس ما يتم الترويج له بأنه طبق سياسة التعريب في جامعة الخرطوم لتحطيمها ونأى عن التعريب في جامعته الخاصة، وهو لا يعترض على التعريب من حيث المبدأ، إذ إن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، ولن يتم استقلال الأمة إلا بأن تكون لغتها هي لغة التعليم، ولكن تطبيق التعريب دون الاستعداد له بالترجمة والتأليف وتقوية المستوى في اللغة العربية والإنجليزية، فمثل هذا التسرع في تطبيق التعريب مضر ويؤدي لنتائج كارثية، وقد صدقت نبوءة بروفسير مأمون، إذ إن كلية الطب جامعة الخرطوم عادت للتدريس مرة أخرى باللغة الإنجليزية، ولبروفسير مأمون مقالات مشهورة في نقد سياسة التعليم العالي التي تم نشرها في عام 1994م في صحيفة الإنقاذ الوطني وفي ذلك الوقت لم يكن أحد يجرؤ في نقد الإنقاذ، والشكر موصول للأستاذ سيد الخطيب رئيس تحرير تلك الصحيفة في جرأته وشجاعته في موافقته على نشر تلك المقالات.. أعاب بعض الصحفيين على أن بروفسير مأمون لديه انتقادات حادة لأجهزة الدولة، ونسوا أن التشكيل الجديد للحكومة ضم من حمل السلاح ضد الحكومة ومنهم من كان مطلوباً للقبض عليه بالإنتربول وبعضهم من خاطب الإنقاذ بجملة شهيرة "سلم تسلم"، ولم نعلم أن كل أولئك قد تخلوا عن قناعاتهم وحلوا أحزابهم واندمجوا مع الحزب الحاكم. بروفسير مأمون لم يسعَ للمنصب الوزاري بل رفضه بادئ ذي بدء وله قناعات وخطط لتطوير القطاع الصحي معلنة ومعروفة، وبوصفي متابع لبرنامجه التلفزيوني الأشهر "صحتك" خلصت إلى أن بعض الخطط التي يسعى لتنفيذها هي: (1) اهتمامه بالرعاية الصحية الأولية وذلك يتمثل في توفير الخدمة الطبية بالأحياء وقريباً من سكن المواطنين، وذلك بتطوير ماهو موجود من مراكز صحية وإنشاء أخرى وتزويدها بالكوادر الطبية والأجهزة المتقدمة. (2) الاهتمام بصحة الأم والطفل والعمل على تخفيض نسبة الوفيات لحديثي الولادة والحوامل. (3) الاهتمام بعلاج الأمراض الشائعة والمستوطنة والتي تحصد الكثير من الأرواح مثل الملاريا والبلهارسيا وغيرها، علماً بأن ذلك لا يكلف الكثير مقارنةً بتكلفة أمراض الفشل الكلوي والغسيل وعمليات الزراعة والتي سيستمر الاهتمام بها والإنفاق عليها. (4) الاهتمام بالوقاية وهي خير من العلاج والتوعية الصحية عبر الأجهزة الإعلامية. (5) محاربة التدخين وذلك بسن قوانين لمحاربته مثل تحريم التدخين في الأماكن العامة وفي دور العلم والمستشفيات وإلزام الشركات بالتحذير المنفر على علبة السجائر نفسها كما تفعل الكثير من الدول، والعمل على إقناع الدولة بزيادة الضرائب على السجائر للحد من استعماله. (6) العمل على تنفيذ شعار توطين العلاج بالداخل وذلك بالمراجعة الشاملة للأجهزة التي تم استيرادها وظلت رهينة الصناديق لعدة سنوات وتوفير الكوادر الطبية والكوادر المساعدة. (7) الاهتمام بالكوادر الطبية المساعدة مثل التمريض والتخدير وفنيي الأشعة ومهندسي الأجهزة الطبية. (8) العمل على تطوير المستشفيات في الولاية وتطبيق الانضباط والعمل على إصحاح البيئة والعمل على إنصاف العاملين من أطباء وكوادر طبية أخرى. جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا والعاملون فيها؛ وبحكم عملهم في تربية الشباب وتعليمه لا يمكن أن تجاري الإسفاف والسباب وفحش القول بالألسنة الحداد، فهنالك كوابح ذاتية تمنعها من هذه الممارسة، قال تعالى: (وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَ". إبراهيم (26)، وستلجأ دائماً للخيار الحضاري وهو القضاء والذي نتمنى أن يكون ناجزاً مثلما هو عادل، فالمثل الإنجليزي يقول: ".Justice delayed is Justice denied " إن إلقاء الاتهامات بدون دليل ودمغ الناس بجرائم بدون تقديم الدليل، بحجة مكافحة الفساد يضر بقضية مكافحة الفساد، إذ يجعل الناس ينصرفون عن سائر ما يكتب عن الفساد وبعضه للأسف حقيقي. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)النور (19). (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ). النور (11). وقديماً قال الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أناح لها لسان حسود د. حافظ محمد علي حميدة نائب رئيس جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق