الاثنين، 19 مارس 2012

مصلحة الوطن أم مصالح الإسلاميين؟«1»


إنه، لأمر مؤسف ومقلق وخطير، وينذر بأيام شؤم قادمات، أن ينبري نفر من قادة نظام الإنقاذ، ولفيف من إعلامييه وأركان منابره المحرّضة، لإظهار مدى براعتهم في قرع طبول الحرب مع دولة الجنوب، في الوقت الذي لا يزال فيه الوطن ينزف، والشعب يموت، والأرض تحترق، من جراء الحرب الأهلية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور، وفي الوقت الذي لم تندمل فيه بعد جراحات الوطن وأحزانه، من جراء معارك أحراش الجنوب التي شبهها بعض من جنود الدفاع الشعبي بسقر، وما أدراك ما سقر!، والتي لم تنطفئ نيرانها إلا بمساعدة من مشارق الأرض ومغاربها، ورغم ذلك تبقّى وميض تحت رمادها. هيستريا الحرب تسيطر على كل شيء: رفع تمام قوات الدفاع الشعبي، دعوة التجييش وتخوين المعترض، إعادة برمجة ساحات الفداء، اصطباغ الإعلام بألوان ورائحة الاقتتال.. كل ذلك، وكأنما أرض السودان لم ترتو من دماء أبنائه. ولا أعتقد أنها مجرد صدفة أن تتزامن صيحات الحرب مع الدعوة لفرض الدستور الإسلامي، ومع إشهار سلاح التكفير والاستئصال. فالجماعة التي تحتكر السلطة تظن أنها تحتكر الدين أيضاً. فهي الفئة الوحيدة الناجية، وهي الفئة الوحيدة الصائبة، ومن ينادي بغير ذلك، أو يجادل، فهو خارج عن الملة، ومن يخرج عن الملة وجب قتاله!. إنها نفس طريقة التفكيرالعقيمة التي أفضت إلى الكارثة في البلاد ومزقتها إلى بلدين، ومن الممكن أن تؤدي إلى مزيدٍ من كوارث تفتتها وتمزقها. صحيح، ربما يتساءل البعض: ولكن لماذا الحرب؟! والإجابة، في نظرنا هي، أن نظام الإنقاذ، القائم على الدفاع عن المصالح الضيقة لشريحة طبقية بعينها، شريحة الطفيلية، وينفذ ذلك تحت ستار الدين، الحرب هي مخرجه الوحيد من أي مأزق، بل هي المبرر الطبيعي لوجوده وبقائه. ومن جانبنا، نحن سنمضي قدماً في الدعوة لوقف الحرب الأهلية الدائرة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والدعوة لاتخاذ كل التدابير العاجلة لفتح طرق آمنة لمساعدة مواطني المنطقتين حتى يتم توصيل الغذاء والدواء إليهم. ونحن لن نتوقف عن الدعوة الرافضة للتصعيد والمواجهة مع دولة جنوب السودان، وعن ضرورة العمل الحازم لمنع اندلاع الحرب التي ستأتي وبالاً على الشعب الواحد في الدولتين. ونحن لن نتوقف عن الدعوة للتمسك بمنهج الحوار والتفاوض بديلاً للحرب والاقتتال في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وبين دولتي الشمال والجنوب. ونحن، لا نقبل أن توصم دعوتنا هذه بالضعف أو بالخيانة والعمالة، لأن الخائن والعميل، في نظرنا، هو من يصر على مواصلة السير في طريق الحرب والموت، غير عابئ بالحريق الذي يلتهم الشعب والوطن، في حين تتوفر له إمكانية اختيار طريق السلام والحوار والتفاوض. ومن زاوية أخرى، نحن ندرك، بل ونحس بوجود رابط ملموس بين ثالوث الحرب وجبهة الدستور الإسلامي ودعاوى التكفير، من جهة، وبين محاولات التشبث بالسلطة، من جهة أخرى. وفي نظرنا، التكفير جريمة تستوجب المحاسبة، إذ من يحق له من بني البشر أن يفتش ويستهدف ضمير الآخر؟ وما التكفير، في النهاية إلا ممارسة سياسية، وتاكتيك هجومي شرس، ومخالب قط لسياسات الخصومة والقمع ضد المعارضين والمخالفين في الرأي.
يصرخ الحالمون بديمومة الملك والسلطان، إما الدستور الإسلامي أو التكفير والحرب! وفي الحقيقة، جوهر المسألة هو الحرب والتكفير وفرض الدستور الإسلامي، وفق تصوراتهم، حتى يستوي الحكم. وهكذا، بلغ الصراع والتناقض بين مصالح «المكنكشين» في السلطة المحتمين بدعاة الهوس الديني ومصلحة الوطن درجة من الحدة، ليجد الشعب نفسه من جديد في مصيدة هذه المجموعات التي تتغذى وتتعيش على جرثومة العنف. ولكن الحقيقة تظل ساطعة وباقية: إذا كانت الحرب هي شرط وجود لهذا النظام، فليعلم أنه ذاهب إلى حتفه.
وإذا كان دعاة الدستور الإسلامي ينطلقون من فكرة إن دعوتهم هي الدعوة الأصل التي لا يجرؤ أحد على اعتراض طريقها، فإننا نقول لهم، إنكم لا تحملون أية صفات أو سمات قدسية، بل أنتم مجرد تنظيمات أو أحزاب سياسية، سعيتم لتحويل مخرجات الدين، حسب تفسيراتكم لها، إلى آيديولوجيا، من حق الجميع استجوابها. فالفصل بين التنظيم أو الحزب الذي يطرح أيديولوجيته باعتبارها ذات مرجعية إسلامية، وبين الدين الإسلامي، هو فصل حقيقي وأساسي وجوهري. لذلك، نحن عندما نجادل ونناقش ونستجوب دعاة الدستور الإسلامي، نفصل تماماً بين الدين الإسلامي بوصفه رسالة وديناً لغالبية أهل السودان بحدوده الجديدة وبوصفه مكوناً أساسياً في وجدان الشعب السوداني والثقافة السودانية، وبين آيدولوجية ودعوة تلك التنظيمات والمجموعات لتطبيق الدستور الإسلامي وفق رؤاهم المحددة المنطلقة من تلك الآيديولوجيا. أي إن إلحاق صفة «إسلامي» بهذه الجماعة أو تلك، بهذا الحزب أو ذاك، لا يعني تنزيه الجماعة أو الحزب عن المساءلة والاستجواب، وقبل كل ذلك، لا يعني تنزيههم عن الخطأ. فقداسة الدين شيء، وقداسة الأفكار والآيديولوجيا والأفراد شيء آخر مختلف تماماً. أما أن ترفع أسلحة القرون الوسطى وأحكام الكهنوت، من تكفير وردة وتخوين، في وجه أي نقاش ونقد للممارسات التي تتم باسم الإسلام، وفي وجه المردود الشعبي الناقد للقوانين المحددة التي يصفها من وضعها بالإسلامية، فهي محاولة مرفوضة تماماً ولا تخيف أحداً.
نحن نفهم تماماً، ونقرُّ بأنه من حق أي حزب أن يحدد منطلقاته الآيديولوجية، ويدافع عن تصوراته حول كيف يريد أن يحكم السودان. وبالتالي، من حق أحزاب الخيار الإسلامي أن ترفع شعار الإسلام وتدافع عن خيارها هذا. ونحن من جانبنا لا نطالبها بالتخلي عن هذا الخيار، كما إننا، وكما ذكرنا من قبل عدة مرات، لا نسعى إلى رميهم في البحر. لكنا، في هذا السياق، نود فقط إلإشارة إلى نقطتين أوليتين:
النقطة الأولى: لا نعتقد أن هنالك أنموذجاً واحداً ثابتاً للخيار الإسلامي. فمنذ دولة المدينة وحتى اليوم، ظهرت عدة نماذج مختلفة لكيفية المواءمة بين المنطلقات الإسلامية وإدارة الدولة، مع الاحتفاظ بالطابع المدني للدولة. وحتى في السودان، فإن أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي مثلاً، لها خياراتها المرتبطة بالمنطلقات أو المرجعيات الإسلامية، ولكنها تتمايز فيما بينها، ولا تتبنى أنموذجاً واحداً، بل تختلف مع كثير من أطروحات المجموعات التي تطلق على نفسها صفة الإسلامية.
النقطة الثانية: من حق الشعب السوداني أن يسمع إجابات واضحة على أسئلة كثيرة تتعلق بما تم من ممارسات باسم فرض أنموذج الإنقاذ الإسلامي طيلة الفترة الممتدة منذ 30 يونيو 1989م من هذه الأسئلة:
1ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بفساد غير مسبوق، يصعب إنكاره أو تجاهله؟ ولماذا لا يحاسب المفسدون، وبدلا من ذلك تتم حمايتهم؟ ولماذا انتشرت جرائم الاعتداء على المال العام التي أيضا تمر بدون مساءلة؟
2ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بشظف العيش وتدهور مريع في الخدمات الضرورية لحياة المواطن، ونزع اراضي المواطنين بالقوة، وانتشار الجوع والفقر والعطالة، بينما القلة تحتكر السلطة والثروة؟
3ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بإرهاب وقمع غير مسبوقين، حيث غاب العدل، وكممت الأفواه، وسخرت بيوت الأشباح لتعذيب الناس؟
4ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بجرائم اغتصاب الأطفال وجرائم القتل وتفشي المخدرات والانحلال الأخلاقي؟
5ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بظاهرة استخدام أجهزة الدولة للعنف المفرط، والتعامل بقسوة غير مبررة مع المواطن، تصل حد إطلاق الرصاص حتى القتل، ولأبسط الأسباب؟
6ــ لماذا اتسمت هذه الفترة بعلو نبرة العنصرية والجهوية والقبلية، مما أدى إلى نسف النسيج الاجتماعي في البلد؟
7ــ وأخيراً، لماذا تبرأ، ويتبرأ، الكثير من الإسلاميين السودانيين من هذه التجربة؟ بل إن التيارات الإسلامية في العديد من البلدان الأخرى، وخاصة في مصر وتونس، ظلت تشير في صدر برامجها ودعايتها الانتخابية، إنها ستتجنب تجربة الإنقاذ في السودان؟
هذه الأسئلة، وعشرات غيرها، أعتقد، من الضروري، بل من الواجب، الوقوف عندها قبل أي حديث أو دعوة جديدة لتحكيم الدستور الإسلامي، باعتبار أن هذه الأسئلة، تطرحها تجربة الإنقاذ في تطبيق أنموذجها الإسلامي، وباعتبار أن الدستور الإسلامي هو سلاح تشهره الإنقاذ في وجه خصومها السياسيين. وهو تارة يرفع في وجه دعاة الديمقراطية والتعددية والدولة المدنية، وتارة ينكس بسبب هدنة أو اتفاقية، ليعاود الصدور بأوجه جديدة.
في مقالنا القادم، سنتطرق بتفصيل حول هذا الموضوع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق