الاثنين، 19 مارس 2012

مصلحة الوطن أم مصالح الإسلاميين؟ «2»


 المشهد السياسي
في الجزء الأول من هذا المقال تناولنا عددا من النقاط والأسئلة، رأينا أنه من الضروري، بل من الواجب، الوقوف عندها قبل أي حديث أو دعوة جديدة لتحكيم الدستور الإسلامي، باعتبار أن هذه الأسئلة، طرحتها تجربة الإنقاذ في تطبيق نموذجها الإسلامي، وباعتبار إن الإنقاذ وسدنتها ظلوا يتعاملون مع الدستور الإسلامي بوصفه سلاحاً يشهر في وجه الخصوم السياسيين. فهو تارة يرفع في وجه دعاة الديمقراطية والتعددية والدولة المدنية، وتارة ينكس بسبب هدنة أو اتفاقية، ليعاود الصدور بأوجه جديدة. والمستخلص العام من تلك النقاط والتساؤلات، سطرناه في نقطتين، هما:
ــ العديد من القوى السياسية السودانية، كأحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي والمؤتمر الشعبي مثلاً، تتبنى أطروحات ذات مرجعيات إسلامية. لكن أطروحات هذه القوى تتمايز فيما بينها، ولا تتبنى أنموذجاً واحداً متطابقاً مع الخيار الإسلامي. بل وتختلف مع كثير من أطروحات المجموعات التي تطلق على نفسها صفة الإسلامية، كالمؤتمر الوطني وجبهة الدستور الإسلامي. ومن هنا، فإن الإصرار على احتكارية الأنموذج من فئة معينة وتحالفاتها، ونعني هنا جبهة الدستور الإسلامي، هو في الحقيقة محاولة لفرض التصور السياسي لهذه القوى، ومحاولة لحماية مصالحها الدنيوية. وما إطلاق صفة الإسلامي على هذا التصور إلا محاولة لاستغلال الدين بهدف قمع الآخر وإرهابه وإسكات صوته، من جهة، ولتبرير استمرار نظام الإنقاذ القائم، من جهة ثانية.
ــ الإنقاذ ظلت تحكم، لما يقرب من ربع قرن من الزمان، باسم مشروعها الحضاري المستمد من تعاليم الإسلام، كما ظل يردد قادتها. لكنها كانت تجربة شمولية حالكة منفرة، حصادها الحرب وتمزق البلاد والجوع والفساد وانهيار المجتمع، مقابل بروز طبقة طفيلية دنيئة ظلت تمتص دماء الوطن والشعب مستخدمة الإسلام «شفاطة» أو «مصاصة». وهي تجربة دفعت العديد من الاسلاميين، داخل وخارج السودان، إلى التبرؤ منها.
وباعتباره مدخلاً للجزء التالي من موضوع المقال، رأيت التوقف عند محطتين مهمتين، ولهما دلالات مباشرة بموضوع الدستور الإسلامي. المحطة الأولى هي حوار جريدة «الصحافة»، عدد السبت 17 مارس 2012م، مع الشيخ محمود عبد الجبار، وهو قيادي إسلامي بارز، وأحد المؤسسين والأمين العام لاتحاد قوى المسلمين، وهو أيضاً إمام وخطيب مسجد العمارات شارع «31»، ولقد شدني جداً أن حديث الشيخ عبد الجبار تضمن النقطتين أعلاه، وهو بالطبع تناولهما بطريقته الخاصة. لكن حديث القيادي الإسلامي تضمن أيضاً عدداً من الأفكار التي شدتني أيضا، والتي تستوجب الاحترام أولاً ثم المناقشة. وأورد أدناه ملخصاً لتلك الأفكار التي تشرح نفسها بنفسها، ومن جانبي تجد كل الاتفاق:
٭ بما أن غالبية الشعب السوداني، حوالى 97%، من المسلمين، فإننا لا نحناج لصياغة دستور نسميه إسلامي، بقدر ما نحتاج إلى عقد اجتماعي توافقي يجتمع حوله كل أهل السودان بمختلف مكوناتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، يحدد بوضوح واجبات ومسؤوليات السلطة ودور الأمة في اختيار السلطة ومراقبة ادائها ومحاسبتها. والدعوة للدستور الاسلامي هي دعوة الى فرقة اكثر منها دعوة الى جمع الشمل والمحافظة على ما تبقى من السودان.
٭ الصراع في السودان ليس على هذا مسلم وهذا غير مسلم.. إنما على كيفية ادارة البلاد وعلى عدم التراضي وعلى تحديد واجبات وحقوق كل انسان في البلاد، وتوزيع الثروة.. واذا لم يحدث تراضٍ، ولو كان الناس جميعهم مسلمين فسيكون الصراع والاحتراب قائمين.. فأزمتنا ليست في الهوية أو نحن مسلمون أو غير مسلمين.. بل كيف ندير البلد مع بعضنا البعض وكيف نزيل الاستبداد واقصاء الآخر.. وكيف نبعد هذه الحكومة التي أصبحت الآن واقعاً باسم الاسلام.
٭ المسودة التي طرحتها جبهة الدستور الإسلامي لا تصلح، لأسباب كثيرة، منها: إن الإسلاميين جميعاً لم يشاركوا في هذه المسودة ولم تتم استشارتهم فيها. والشيء الثاني القوى الوطنية، الاحزاب الموجودة، لم تشارك في هذه المسودة وفي نفس الوقت لم يحدث اجماع حولها.. أيضاً هناك أمر في غاية الاهمية.. نحن ولمدة 23 عاماً كنا تحت حكم الحركة الإسلامية فماذا كنا نفعل؟!! يعني «23» سنة «الحاكمية لله» فكيف نرجع اليوم من جديد لنبحث عن دستور إسلامي الآن؟! يجب أولاً أن نسقط هذا النظام الذي باسم الاسلام «23» عاماً فعل ما فعله بالبلاد. والمطلوب كما قلت توافق اهل السودان على وثيقة عقد اجتماعي لادارة شؤونهم بحرية ويجدون فيها حقوقهم.
٭ الإسلام بوصفه فكرة سياسية في كل انحاء العالم العربي الآن تتقدم، لكن في السودان تتراجع، والسبب هو تجربة الإنقاذ.. السودان كله الآن على شفا جرف هار.. كل البلد مهددة بالزوال، والغريبة حتى قادة الإنقاذ يذكرون أن هناك مخططات لتقسيم البلاد، ومع ذلك يتمسكون بالأحادية والسلطة، ويمنعون الآخرين إلا بوصفة وضعوها هم أنفسهم.. ومحاولة جبهة الدستور الآن لضخ دماء في جسد نظام فقد شرعيته.
أما المحطة الثانية، فنعني بها وثيقة الأزهر الشريف حول مستقبل مصر الصادرة في يونيو 2011م، إثر مبادرة كريمة من الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، اجتمعت على ضوئها مجموعة من المثقفين المصريين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والدينية مع عدد من كبار العلماء والمفكرين في الأزهر الشريف، وتدارسوا خلال اجتماعات عدة مقتضيات اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها مصر بعد ثورة 25 يناير وأهميتها في توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النبيلة وحقوق شعبها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية. وقد توافق المجتمعون على ضرورة تأسيس مسيرة الوطن على مجموعة من المبادئ الكلية والقواعد الشاملة. ونورد أدناه ملخصا لأهم ما جاء في تلك المبادئ:
أولاً: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب، بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل تركت للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية.
ثانياً: اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شؤون الدولة بالقانون ــ والقانون وحده ــ وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها.
ثالثاً: الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية فى المجتمع.
رابعاً: الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليهما في التعامل بين فئات الشعب المختلفة، دون أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.
خامساً: تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية، والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة، وما قدمه من نماذج فائقة في التعايش السلمي ونشدان الخير للإنسانية كلها.
سادساً: الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصيلة، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة.
سابعاً: اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر، وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا في هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كلّه لمحو الأمية، واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبرى.
ثامناً: إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية والثقافية والإعلامية، على أن يأتي ذلك على رأس الأولويات التي يتبناها شعبنا في نهضته الراهنة، مع اعتبار الرعاية الصحية الحقيقية والجادة واجب الدولة تجاه كل المواطنين جميعاً.
تاسعاً: بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، ومناصرة الحق الفلسطيني، والحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، واسترجاع الدور القيادي التاريخي على أساس التعاون على الخير المشترك وتحقيق مصلحة الشعوب في إطار من الندية والاستقلال التام، ومتابعة المشاركة في الجهد الانساني النبيل لتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وتحقيق السلام العادل بين الأمم.
ترى هل توقف دعاة الدستور الإسلامي عند هاتين المحطتين؟ وهما، من الواضح جداً، لا يقعان ضمن جغرافيا العلمانية، ولا يمكن المزايدة عليهما أو الإدعاء بوقوعهما تحت تأثير معاداة الخيار الإسلامي!!
«نواصل المناقشة في المقال القادم». 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق