قرأت بصحيفة «الرأي العام» حوارا أجرى مع السيد رئيس الجمهورية، جاء فيه بعض التصريحات التي أدلى بها سيادته، رأيت من الضروري التعليق على بعضها، والاستفادة مما جاء فيها لأجل تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة لبعض الأمور، ومن بعد معالجتها قبل أن يستفحل داؤها ويستعصى على العلاج. فقد ذكر سيادته وفى إطار حديثه عن الحريات المتاحة لشعب السودان، أنه من حق الشعب أن يشتم الحكومة، وبالطبع لن نؤيد اى نوع من الشتم مهما كانت دوافعه ولأنه ليس من الأدب في شيء، كان الشتم صادرا من الشعب لحكومته، أو من الحكومة لشعبها. هذا مع العلم بأن الشعب لا ولم ولن يستطيع أن يجرؤ على شتم الحكومة، لأن أجهزة أمنها لا ولم ولن تسمح له بمجرد التفكير في ذلك، بينما نشاهد ونستمع لبعض من قيادات الحكومة وقد سمحت لها ذات أجهزة الأمن، بأن تشبع الشعب شتماً، كان ذلك عبر شتم أحزابه المعارضة، أو توجيه الشتم إليه رأساً، لذلك نخشى أن تستغل تلك القيادات التي تخصصت في الشتم، تصريح السيد الرئيس، فتجعل منه سنداً رئاسياً يدفعها لتوسيع رقعة شتمها وزيادة حدته مع الاستمرار فيه. فالشتم ما كان يوماً علاجاً لمشكلة بقدرما هو دافع لزيادة الاحتقان والغبن الجماهيري خاصة من تم شتمها.. وأتمنى إلا ينظر إلى نقد الحكومة وكأنه شتما، وبذلك يفتح المجال لمترجمي آراء الغير وقراءة ما فى الصدور، الذين بقراءة ما بين وتحت السطور، حتى يجدوا ضالتهم التي تمكنهم من إدانة صاحبها، لممارسة هوايتهم.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هنالك مساحة واسعة من حرية التعبير يتم التمتع بها اليوم قياسا بما كان عليه الحال سابقا، ولكنها اى مساحة الحرية، لا زالت ناقصة، إذ تكبلها بعض الخطوط الحمراء التي تضعها الأجهزة الأمنية بين الحين والآخر، فيؤدى ذلك إلى تشويه صورة المساحة المتاحة، حيث تعكس تلك الخطوط مدى ضيق السلطة بالتعبير، خاصة عندما يقترب من المناطق التي لا ترغب في كشف غطائها، والحديث عنها أو حولها. فالشعب من حقه تماماً أن ينتقد الحكومة، وأن يشير إلى أخطائها، ويكشف عن خطاياها، متى ما امتلك الدليل على كل ذلك. فيصبح من حق الحكومة ان أحست بتعد على حقوقها، ألا تخرس صوت الفاعل بمصادرة كلماته وحجبها قبل أن تراها أعين الجمهور، ولكن من حقها أن تقتص لنفسها منه، شريطة ان يتم ذلك فقط عن الطريقة القانونية والقضاء الذى لا يظلم أحداً. فحجب المعلومة عن الجمهور، بجانب انه يزيد من حنق الجمهور على الحكومة، فإنه يقدح في مصداقيتها وحديثها عن توفير الحريات ومن بينها حرية التعبير.
لكن ومن المؤسف أن تصدر تلك التصريحات المبشرة من جانب سيادة الرئيس، تجاه حرية التعبير، في ذات الوقت الذى تعتقل فيه أجهزة الأمن بعض الصحف وتمنعها من الصدور، وبسبب نقد الحكومة، ولا أقول شتمها. ويحدث ذلك الاعتقال للكلمة وفي ذات الوقت أيضا، الذى خلص فيه سيادة الرئيس إلى حقيقة أن الشعب إذا منع من الكلام سينفجر، فلم لا تؤخذ تلك الحقيقة في الاعتبار كلما فكرت أجهزة الأمن في كتم أصوات المواطنين بسبب ملامستها لما سمتها الخطوط الحمراء، تجنباً لمثل ذلك الانفجار ومشكلاته التي قد تستحيل السيطرة عليها متى خرج من قمقمه. كما ان الكلمة التي تحرص أجهزة الأمن على حجبها عن الجمهور عبر حجب الصحف التي تحملها ومنعها من الصدور، حالما تجد ذات الكلمة طريقها معبدا وسالكا لعرضها بالصحف الالكترونية، التي ستزيد من دائرة قرائها وعلى مستوى العالم. فهل تقتنع السلطة بأنه ما عاد ممكنا أن يتم حجب أية معلومة أو حدث عن أعين المواطنين، لأن هنالك أكثر من مجال يمكن المواطن من الوصول إلى ما تم حجبه عنه وبأدق التفاصيل. فلم خلق المشكلات باستعداء المواطنين على النظام وفى أمر لا يخدم غرضه؟
وما أكثر المشكلات التي تخلقها السلطة خلقاً، ومن بعد يتكفل المواطن بمقابلة نفقات معالجاتها. فمن الملاحظ ان هذا النظام اتصف ببعض الصفات التي انفرد بها دون ما سبقه وربما ما سيلحق به. أولاً عدم اعتبار أي رأى لا يصدر من داخل أجهزته ومن جانب كوادره، ومهما كانت أهمية وقيمة ذلك الرأى، ولكنه قد يرجع إلى ذات الرأي، ولكن بعد ان يستفحل الداء فيكلف الوطن والمواطنين أغلى الأثمان لمعالجته. لعلكم تذكرون الآراء التي طرحت حول كيفية التعامل مع الواقع الجديد بعد انفصال الجنوب. حيث دعا الكثيرون إلى ضرورة أن يتجه الهم والجهد نحو كيفية ضمان التعايش السلمي وتبادل المنافع بين الدولتين ومن أجل منفعة الشعبين. لكن الحكومة في ذلك الوقت وهى تشكو من فقدان ثروة النفط التي أقعدت اقتصادها، ما كانت لتعير أهمية حسن الجوار أدنى اعتبار، بل نظر البعض إلى الدعوة للتعايش السلمي مع حكومة الجنوب على أنه نوع من العمالة لها والخيانة للوطن وشهدائه، وكأنما الجنوب لم يفقد مواطنا واحدا في تلك الحرب اللعينة. وكما أسلفنا فإن الحكومة لا تسمع إلا إلى الأصوات من داخلها أو من الجماعات التي أصبح بعضها اليوم يهددها باقتلاعها من سدة الحكم ان أغفلت صوتها. فجبهة الدستور الاسلامى طالبتها بأن تلتزم بتطبيق الدستور الذى أعدته وحدها، وإلا فعليها أن تبحث عن شعب آخر لتحكمه، واليوم تنبري لها جماعات أخرى إضافة إلى سابقتها، ترفض اى اتفاق مع حكومة الجنوب مهما كانت أهميته وضرورته لجماهير الشمال قبل الجنوب، فقط كرها في الجنوب وشعبه ولأسباب خاصة بهم، ومن ثم أصبحوا هم أيضا يهددوها بالزوال ان لم تغلق اى باب تعاون مع الجنوب. ونخشى أن تنساق الحكومة مع هؤلاء فتفتح أكثر من باب للفتنة، لا بين الجنوب والشمال، ولكن بين جماهير الشمال وحدهم من يؤيد منهم ما ذهبت إليه الحكومة من اتفاقات إطارية كانت أو نهائية مع حكومة الجيوب، وبين معارضي تلك الاتفاقات.
ولأول مرة يصابح أعين الشعب السوداني خبر يفتح له أبواب الأمل في مستقبل أفضل، بعد أن ظل سنين عددا يصبح ويمسى على نزر الحرب وأخبار اتساع رقعتها. فقد وصلت مفاوضات وفد حكومة السودان مع وفد حكومة جنوب السودان أخيراً إلى اتفاق اطارى، نحمد الله أن تم التوقيع عليه ولو بالأحرف الأولى من الجانبين، ونتمنى من الله أن يتم التوفيق في السير به حتى يكمل مشوار التفاوض حوله، ومن بعد الشروع في خطوات تطبيقه. دون إبطاء أو عراقيل شرع البعض في وضعها في طريقه قبل أن يجف مداد الحبر الذى اختط به. وكنا نظن انه لا يمكن لعاقل واحد أن يقف في وجه ذلك الأمل، الذى اقل ما يوصف به أنه ابتعد بالشعبين بالشمال وبالجنوب، من حافة الهاوية التي وصلا إليها بسبب عناد حكومتيهما، ومن ثم سيمكن ذلك الاتفاق متى بلغ مداه، من إغلاق باب الحرب، الذى ظل مشرعاً منذ أن بدأت مناقشات الوفدين بأديس. كما انه سيعمل على وقف سيل الاتهامات التي ظل يتبادلها الطرفان، طيلة عمر المفاوضات فتزيد من عمق عدم الثقة بينهما. فالاتفاق الاطارى هذا أعاد العقول إلى صوابها لتعلم بأنه لا مجال لمعالجة مختلف المشكلات العالقة بين الدولتين، إلا عبر التفاوض ولا شيء غيره.
فقد تميز ذلك الاتفاق بقبوله النظر في أمر تطبيق الحريات الأربع على شعبي الشمال والجنوب، والتي تمنحهما حق التنقل والإقامة والعمل والتملك لمن يرغب طبعا وبالدولتين. ولا نرى ضررا في ذلك ما دام سيتمتع به الشمالي والجنوبي على حد سواء. كما ولا أرى ضررا ان تم النظر في أمر المواطنة وحق الجنسية المزدوجة، التي يمكن ان يحملها من يرغب أيضا من مواطني الدولتين، تماماً كما يتمتع بمثلها العديد من السودانيين اليوم، ومن بين قيادات الدولة، كما جاء بالصحف، حيث يتمتع جميعهم بحمل الجنسية السودانية إضافة إلى جنسيات دول أخرى، المدهش أن غالبية السودانيين من ذوى الجنسيات المزدوجة، كان اختيارهم للجنسية الأخرى من إحدى دول الاستكبار، وعلى رأسها شيختهم، أمريكا، فما المانع أن يحمل من يرغب من مواطني دولتي الشمال والجنوب جنسية الدولة الأخرى بجانب جنسيته؟
ومشكلة أخرى يتصف بها هذا النظام وينفرد بها أيضا، تتمثل في الحديث بأكثر من لسان، فكل مسؤول بالحكومة، حكومة قائمة بحد ذاتها، يستطيع أن يتحدث ويفتى في كل صغيرة وكبيرة وباسم النظام، وفى أية قضية بصرف النظر إن كانت في دائرة اختصاصه أم اختصاص غيره، ويحدث كل ذلك في وجود ناطق رسمي باسم الحكومة، كثيراً ما تصبح مهمته تقويم ما إعوج بسبب ما نطق به غيره، ولكنه لا يستطيع أن يمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم الخاصة، ففي أثناء إجراء عملية الاستفتاء وإرهاصات اتجاه نتائجه نحو الانفصال، كثرت التصريحات من قيادات المؤتمر الوطني وغالبيتها تهدد من تسول له نفسه من مواطني الجنوب بالشمال، بالتصويت للانفصال، وتبشره بما سيتعرض له جراء ذلك من مشكلات، اقلها ألا يحصل على حقنة في مستشفى، وأقصاها تجريده من حق المواطنة فور إعلان نتائج الاستفتاء، وما أثارته تلك التصريحات من ذعر بين مواطني الجنوب بالشمال، جعل البعض يحزم أمتعته قبل إعلان النتائج هربا مما سيواجهه بعد إعلانها.. هذه التصريحات تركت أثرها على مواطني الجنوب، وعززت من فقدان الثقة بين الشعبين، ولعل تعنت المفاوضين من أبناء الجنوب تجاه ما يطرحه رصفاؤهم من الشمال، وخاصة قضية النفط والتطاول في أمر حسمها، قد يكون نوعاً من إذاقة الشمال بعضا مما أذاقه لهم عندما كان القلم بيده. والمؤسف ان بعض قيادات المؤتمر الوطني لا زالت تسير في ذات الطريق بإرسال تصريحاتها ومنها ما تجبر الآخرين على نفيها أو تعديلها حتى لا تزيد النار اشتعالا. والسيد نائب الرئيس د. الحاج ادم قد صرح، ومن الملاحظ كثرة تصريحاته هذه الأيام، بأن الثامن من أبريل من هذا العام طبعاً، سيكون آخر موعد لوجود الجنوبيين بالشمال، وأنهم سيعملون على طرد كل من لم يكن مرغوبا في بقائه بالشمال. كما وأضاف سيادته أنه لن يسمح لأي جنوبي بعد ذلك التاريخ، أن تطأ قدمه أرض الشمال بلا فيزا. فاضطر رئيس الوفد المفاوض مع قيادات الجنوب بأديس، ان يسارع بنفي ذلك التصريح، وتوضيحه بأن ذلك التاريخ هو لتوفيق أوضاع الجنوبيين وليست لإنهاء إقامتهم بالشمال.
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الحكومة كثيراً بل وغالباً، ما تركب رأسها في اتخاذ بعض القرارات التي قد ترى في الاستجابة لها وهى صادرة من خارجها، ما يقلل من شأنها. فالاتفاق الاطارى الذى وقعه د. نافع مع عقار بذات أديس أبابا من قبل، قد تم رفضه وبصورة قاطعة، رغم أن المفاوض في ذلك اللقاء كان من بين أهم قياداتها، وربما رأت السلطة في هذه المرة، ان الاستجابة لتلك الاتفاقية قد تعنى انكسارا للحركة الشعبية، فكان ذلك الرفض الذى حارت البرية فيه. وقطعا لو ان ذلك الاتفاق قد قبل حينها، لكفى البلاد شر القتال الدائر اليوم، وكفاها الكثير من المصائب المحيطة بها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فالسيد الرئيس أعلن في حضرة الاحتفال بالدفاع الشعبي، بأنهم قد ضحوا من قبل بثمانية عشر ألفا من الشهداء، وهم على استعداد للتضحية بمثل ذات الرقم الآن، من أجل دحر الخونة والعملاء والمتمردين وغير ذلك. ورغم أن الخونة والعملاء لا يستحقون شهيداً واحداً من أجل دحرهم، فقط نخشى من التضحية بمزيد من شباب السودان الذى تضاءلت نسبته بسبب محرقة الجنوب التي حصدت الآلاف من أرواحهم الغالية والعزيزة، ومن بعد تعود الحكومة للجلوس مع المتمردين الذين لن يجدوا مخرجاً من ورطتهم الحالية، إلا بإلقاء السلاح والاتجاه نحو التفاوض، ولكن بعد خراب مالطة. فكم مرة تمرد البعض وحمل السلاح، وبعد أن قتلوا ونهبوا وخربوا عادوا لطاولة المفاوضات للحصول على مكافأتهم على ما فعلوا، فدخلوا بموجب ذلك القصر وفى أعلى مواقعه، فلم لا تستجيب السلطة لنداء ودعوة السلام قبل أن يقع الفأس على الرأس أكثر مما هو واقع الآن؟
والآن والاتفاقية الجديدة التي تم التوصل لها بعد لاى، ولم تكتمل خطواتها، والتي أعطت المواطنين بعض الأمل في الوصول إلى معالجة مختلف القضايا الشائكة بين الدولتين وفى مقدمتها القضايا الأمنية، تتحرك اليوم بعض الجماعات التي تحمل غبنا دفينا وكرها للجنوب وشعبه، من أجل وأد ذلك الاتفاق في مهده، وتعلن على رؤوس الأشهاد نيتها تعبئة وحشد الجماهير ضدها، بل وستخرج بتلك الجماهير إلى الشارع تعبيراً عن رفضها وتحذيراً للسلطة من مغبة السير فى طريق التصالح أو التسامح مع الجنوب. ويصبح السؤال عن إن كانت السلطة ستسمح لهم بتنفيذ مخططاتهم رغم أنف الآخرين؟ وهل سيسمح لهم بالخروج للشارع الذى حرمته على غيرهم من الجماعات الأخرى؟ سنرى وإن غداً لناظره قريب.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هنالك مساحة واسعة من حرية التعبير يتم التمتع بها اليوم قياسا بما كان عليه الحال سابقا، ولكنها اى مساحة الحرية، لا زالت ناقصة، إذ تكبلها بعض الخطوط الحمراء التي تضعها الأجهزة الأمنية بين الحين والآخر، فيؤدى ذلك إلى تشويه صورة المساحة المتاحة، حيث تعكس تلك الخطوط مدى ضيق السلطة بالتعبير، خاصة عندما يقترب من المناطق التي لا ترغب في كشف غطائها، والحديث عنها أو حولها. فالشعب من حقه تماماً أن ينتقد الحكومة، وأن يشير إلى أخطائها، ويكشف عن خطاياها، متى ما امتلك الدليل على كل ذلك. فيصبح من حق الحكومة ان أحست بتعد على حقوقها، ألا تخرس صوت الفاعل بمصادرة كلماته وحجبها قبل أن تراها أعين الجمهور، ولكن من حقها أن تقتص لنفسها منه، شريطة ان يتم ذلك فقط عن الطريقة القانونية والقضاء الذى لا يظلم أحداً. فحجب المعلومة عن الجمهور، بجانب انه يزيد من حنق الجمهور على الحكومة، فإنه يقدح في مصداقيتها وحديثها عن توفير الحريات ومن بينها حرية التعبير.
لكن ومن المؤسف أن تصدر تلك التصريحات المبشرة من جانب سيادة الرئيس، تجاه حرية التعبير، في ذات الوقت الذى تعتقل فيه أجهزة الأمن بعض الصحف وتمنعها من الصدور، وبسبب نقد الحكومة، ولا أقول شتمها. ويحدث ذلك الاعتقال للكلمة وفي ذات الوقت أيضا، الذى خلص فيه سيادة الرئيس إلى حقيقة أن الشعب إذا منع من الكلام سينفجر، فلم لا تؤخذ تلك الحقيقة في الاعتبار كلما فكرت أجهزة الأمن في كتم أصوات المواطنين بسبب ملامستها لما سمتها الخطوط الحمراء، تجنباً لمثل ذلك الانفجار ومشكلاته التي قد تستحيل السيطرة عليها متى خرج من قمقمه. كما ان الكلمة التي تحرص أجهزة الأمن على حجبها عن الجمهور عبر حجب الصحف التي تحملها ومنعها من الصدور، حالما تجد ذات الكلمة طريقها معبدا وسالكا لعرضها بالصحف الالكترونية، التي ستزيد من دائرة قرائها وعلى مستوى العالم. فهل تقتنع السلطة بأنه ما عاد ممكنا أن يتم حجب أية معلومة أو حدث عن أعين المواطنين، لأن هنالك أكثر من مجال يمكن المواطن من الوصول إلى ما تم حجبه عنه وبأدق التفاصيل. فلم خلق المشكلات باستعداء المواطنين على النظام وفى أمر لا يخدم غرضه؟
وما أكثر المشكلات التي تخلقها السلطة خلقاً، ومن بعد يتكفل المواطن بمقابلة نفقات معالجاتها. فمن الملاحظ ان هذا النظام اتصف ببعض الصفات التي انفرد بها دون ما سبقه وربما ما سيلحق به. أولاً عدم اعتبار أي رأى لا يصدر من داخل أجهزته ومن جانب كوادره، ومهما كانت أهمية وقيمة ذلك الرأى، ولكنه قد يرجع إلى ذات الرأي، ولكن بعد ان يستفحل الداء فيكلف الوطن والمواطنين أغلى الأثمان لمعالجته. لعلكم تذكرون الآراء التي طرحت حول كيفية التعامل مع الواقع الجديد بعد انفصال الجنوب. حيث دعا الكثيرون إلى ضرورة أن يتجه الهم والجهد نحو كيفية ضمان التعايش السلمي وتبادل المنافع بين الدولتين ومن أجل منفعة الشعبين. لكن الحكومة في ذلك الوقت وهى تشكو من فقدان ثروة النفط التي أقعدت اقتصادها، ما كانت لتعير أهمية حسن الجوار أدنى اعتبار، بل نظر البعض إلى الدعوة للتعايش السلمي مع حكومة الجنوب على أنه نوع من العمالة لها والخيانة للوطن وشهدائه، وكأنما الجنوب لم يفقد مواطنا واحدا في تلك الحرب اللعينة. وكما أسلفنا فإن الحكومة لا تسمع إلا إلى الأصوات من داخلها أو من الجماعات التي أصبح بعضها اليوم يهددها باقتلاعها من سدة الحكم ان أغفلت صوتها. فجبهة الدستور الاسلامى طالبتها بأن تلتزم بتطبيق الدستور الذى أعدته وحدها، وإلا فعليها أن تبحث عن شعب آخر لتحكمه، واليوم تنبري لها جماعات أخرى إضافة إلى سابقتها، ترفض اى اتفاق مع حكومة الجنوب مهما كانت أهميته وضرورته لجماهير الشمال قبل الجنوب، فقط كرها في الجنوب وشعبه ولأسباب خاصة بهم، ومن ثم أصبحوا هم أيضا يهددوها بالزوال ان لم تغلق اى باب تعاون مع الجنوب. ونخشى أن تنساق الحكومة مع هؤلاء فتفتح أكثر من باب للفتنة، لا بين الجنوب والشمال، ولكن بين جماهير الشمال وحدهم من يؤيد منهم ما ذهبت إليه الحكومة من اتفاقات إطارية كانت أو نهائية مع حكومة الجيوب، وبين معارضي تلك الاتفاقات.
ولأول مرة يصابح أعين الشعب السوداني خبر يفتح له أبواب الأمل في مستقبل أفضل، بعد أن ظل سنين عددا يصبح ويمسى على نزر الحرب وأخبار اتساع رقعتها. فقد وصلت مفاوضات وفد حكومة السودان مع وفد حكومة جنوب السودان أخيراً إلى اتفاق اطارى، نحمد الله أن تم التوقيع عليه ولو بالأحرف الأولى من الجانبين، ونتمنى من الله أن يتم التوفيق في السير به حتى يكمل مشوار التفاوض حوله، ومن بعد الشروع في خطوات تطبيقه. دون إبطاء أو عراقيل شرع البعض في وضعها في طريقه قبل أن يجف مداد الحبر الذى اختط به. وكنا نظن انه لا يمكن لعاقل واحد أن يقف في وجه ذلك الأمل، الذى اقل ما يوصف به أنه ابتعد بالشعبين بالشمال وبالجنوب، من حافة الهاوية التي وصلا إليها بسبب عناد حكومتيهما، ومن ثم سيمكن ذلك الاتفاق متى بلغ مداه، من إغلاق باب الحرب، الذى ظل مشرعاً منذ أن بدأت مناقشات الوفدين بأديس. كما انه سيعمل على وقف سيل الاتهامات التي ظل يتبادلها الطرفان، طيلة عمر المفاوضات فتزيد من عمق عدم الثقة بينهما. فالاتفاق الاطارى هذا أعاد العقول إلى صوابها لتعلم بأنه لا مجال لمعالجة مختلف المشكلات العالقة بين الدولتين، إلا عبر التفاوض ولا شيء غيره.
فقد تميز ذلك الاتفاق بقبوله النظر في أمر تطبيق الحريات الأربع على شعبي الشمال والجنوب، والتي تمنحهما حق التنقل والإقامة والعمل والتملك لمن يرغب طبعا وبالدولتين. ولا نرى ضررا في ذلك ما دام سيتمتع به الشمالي والجنوبي على حد سواء. كما ولا أرى ضررا ان تم النظر في أمر المواطنة وحق الجنسية المزدوجة، التي يمكن ان يحملها من يرغب أيضا من مواطني الدولتين، تماماً كما يتمتع بمثلها العديد من السودانيين اليوم، ومن بين قيادات الدولة، كما جاء بالصحف، حيث يتمتع جميعهم بحمل الجنسية السودانية إضافة إلى جنسيات دول أخرى، المدهش أن غالبية السودانيين من ذوى الجنسيات المزدوجة، كان اختيارهم للجنسية الأخرى من إحدى دول الاستكبار، وعلى رأسها شيختهم، أمريكا، فما المانع أن يحمل من يرغب من مواطني دولتي الشمال والجنوب جنسية الدولة الأخرى بجانب جنسيته؟
ومشكلة أخرى يتصف بها هذا النظام وينفرد بها أيضا، تتمثل في الحديث بأكثر من لسان، فكل مسؤول بالحكومة، حكومة قائمة بحد ذاتها، يستطيع أن يتحدث ويفتى في كل صغيرة وكبيرة وباسم النظام، وفى أية قضية بصرف النظر إن كانت في دائرة اختصاصه أم اختصاص غيره، ويحدث كل ذلك في وجود ناطق رسمي باسم الحكومة، كثيراً ما تصبح مهمته تقويم ما إعوج بسبب ما نطق به غيره، ولكنه لا يستطيع أن يمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم الخاصة، ففي أثناء إجراء عملية الاستفتاء وإرهاصات اتجاه نتائجه نحو الانفصال، كثرت التصريحات من قيادات المؤتمر الوطني وغالبيتها تهدد من تسول له نفسه من مواطني الجنوب بالشمال، بالتصويت للانفصال، وتبشره بما سيتعرض له جراء ذلك من مشكلات، اقلها ألا يحصل على حقنة في مستشفى، وأقصاها تجريده من حق المواطنة فور إعلان نتائج الاستفتاء، وما أثارته تلك التصريحات من ذعر بين مواطني الجنوب بالشمال، جعل البعض يحزم أمتعته قبل إعلان النتائج هربا مما سيواجهه بعد إعلانها.. هذه التصريحات تركت أثرها على مواطني الجنوب، وعززت من فقدان الثقة بين الشعبين، ولعل تعنت المفاوضين من أبناء الجنوب تجاه ما يطرحه رصفاؤهم من الشمال، وخاصة قضية النفط والتطاول في أمر حسمها، قد يكون نوعاً من إذاقة الشمال بعضا مما أذاقه لهم عندما كان القلم بيده. والمؤسف ان بعض قيادات المؤتمر الوطني لا زالت تسير في ذات الطريق بإرسال تصريحاتها ومنها ما تجبر الآخرين على نفيها أو تعديلها حتى لا تزيد النار اشتعالا. والسيد نائب الرئيس د. الحاج ادم قد صرح، ومن الملاحظ كثرة تصريحاته هذه الأيام، بأن الثامن من أبريل من هذا العام طبعاً، سيكون آخر موعد لوجود الجنوبيين بالشمال، وأنهم سيعملون على طرد كل من لم يكن مرغوبا في بقائه بالشمال. كما وأضاف سيادته أنه لن يسمح لأي جنوبي بعد ذلك التاريخ، أن تطأ قدمه أرض الشمال بلا فيزا. فاضطر رئيس الوفد المفاوض مع قيادات الجنوب بأديس، ان يسارع بنفي ذلك التصريح، وتوضيحه بأن ذلك التاريخ هو لتوفيق أوضاع الجنوبيين وليست لإنهاء إقامتهم بالشمال.
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الحكومة كثيراً بل وغالباً، ما تركب رأسها في اتخاذ بعض القرارات التي قد ترى في الاستجابة لها وهى صادرة من خارجها، ما يقلل من شأنها. فالاتفاق الاطارى الذى وقعه د. نافع مع عقار بذات أديس أبابا من قبل، قد تم رفضه وبصورة قاطعة، رغم أن المفاوض في ذلك اللقاء كان من بين أهم قياداتها، وربما رأت السلطة في هذه المرة، ان الاستجابة لتلك الاتفاقية قد تعنى انكسارا للحركة الشعبية، فكان ذلك الرفض الذى حارت البرية فيه. وقطعا لو ان ذلك الاتفاق قد قبل حينها، لكفى البلاد شر القتال الدائر اليوم، وكفاها الكثير من المصائب المحيطة بها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فالسيد الرئيس أعلن في حضرة الاحتفال بالدفاع الشعبي، بأنهم قد ضحوا من قبل بثمانية عشر ألفا من الشهداء، وهم على استعداد للتضحية بمثل ذات الرقم الآن، من أجل دحر الخونة والعملاء والمتمردين وغير ذلك. ورغم أن الخونة والعملاء لا يستحقون شهيداً واحداً من أجل دحرهم، فقط نخشى من التضحية بمزيد من شباب السودان الذى تضاءلت نسبته بسبب محرقة الجنوب التي حصدت الآلاف من أرواحهم الغالية والعزيزة، ومن بعد تعود الحكومة للجلوس مع المتمردين الذين لن يجدوا مخرجاً من ورطتهم الحالية، إلا بإلقاء السلاح والاتجاه نحو التفاوض، ولكن بعد خراب مالطة. فكم مرة تمرد البعض وحمل السلاح، وبعد أن قتلوا ونهبوا وخربوا عادوا لطاولة المفاوضات للحصول على مكافأتهم على ما فعلوا، فدخلوا بموجب ذلك القصر وفى أعلى مواقعه، فلم لا تستجيب السلطة لنداء ودعوة السلام قبل أن يقع الفأس على الرأس أكثر مما هو واقع الآن؟
والآن والاتفاقية الجديدة التي تم التوصل لها بعد لاى، ولم تكتمل خطواتها، والتي أعطت المواطنين بعض الأمل في الوصول إلى معالجة مختلف القضايا الشائكة بين الدولتين وفى مقدمتها القضايا الأمنية، تتحرك اليوم بعض الجماعات التي تحمل غبنا دفينا وكرها للجنوب وشعبه، من أجل وأد ذلك الاتفاق في مهده، وتعلن على رؤوس الأشهاد نيتها تعبئة وحشد الجماهير ضدها، بل وستخرج بتلك الجماهير إلى الشارع تعبيراً عن رفضها وتحذيراً للسلطة من مغبة السير فى طريق التصالح أو التسامح مع الجنوب. ويصبح السؤال عن إن كانت السلطة ستسمح لهم بتنفيذ مخططاتهم رغم أنف الآخرين؟ وهل سيسمح لهم بالخروج للشارع الذى حرمته على غيرهم من الجماعات الأخرى؟ سنرى وإن غداً لناظره قريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق