مُناظرة مع الطاغية الليبي في ذمّة التاريخ | |||||
د. سعد الدين ابراهيم |
تاريخ نشر الخبر: | الجمعة 11/03/2011 |
مع تساقط الطُغاة في بُلدان الوطن العربي، الواحد بعد الآخر، يظل أكثرهم دموية وتخلفاً، العقيد الليبي مُعمّر القذافي، حالة فريدة، لا يُماثلها في الجنون، إلا الإمبراطور الروماني نيرون، الذي أحرق روما، وهو يعزف على قيثارته، مُستمتعاً بمُشاهدة ألسنة النيران من شُرفة قصره على أحد تلال روما السبعة. ففي مُقابلة مع الإعلامية الشهيرة "كريستيان أمانبور" للقناة التلفزيونية (ABC)، منذ أيام (27-2-2011)، وبعد أسبوعين من اشتعال الثورة في كل أرجاء ليبيا، أكد القذافي أنه ما يزال المحبوب الأول والفريد للشعب الليبي، ولكل إفريقيا، وأن ما يحدث من "شغب في ليبيا، هو مُجرد سلوك صِبياني، من تدبير مُشترك بين أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة في كهوف تورا بورا على الحدود الأفغانية ـ الباكستانية من ناحية، والرئيس الأمريكي باراك أوباما، في البيت الأبيض بالعاصمة واشنطن من ناحية أخرى!". وسواء يعتقد القذافي ذلك فعلاً في قرارة نفسه، أو يُحاول كسب تعاطف شعبه والرأي العام الدولي، فإن الرجل ظهر لكل من رأى أو سمع هذا اللقاء التلفزيوني، شخصاً مأساوياً من فرط انفصاله عن الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وكأنه مُخدّر تماماً، أو كمن يعيش على كوكب آخر، غير أرضنا الكروية!. ومأساة القذافي، مثل كل من سبقوه من طُغاة، أنه أحاط نفسه بدائرة من المُنافقين، الذين ضلّلوه، على امتداد اثنين وأربعين عاماً على قمة السُلطة في ليبيا. فقد أتى إلى كُرسي الحُكم أول شهر سبتمبر عام 1969، من خلال انقلاب عسكري، قام به مع مجموعة من الضُبّاط الشبان، ضد ملك ليبيا، إدريس السنوسي. وخلال الأعوام الثلاثة التالية، كان قد تخلص من زُملائه الانقلابيين، الواحد تلو الآخر. ثم حينما شبّت الاحتجاجات الطُلابية على مُمارساته الاستبدادية، نُصبت المشانق وسط الحرم الجامعي في طرابلس، وأعدم عشرات الطُلاب، بعد مُحاكمات صورية سريعة. أما الطلبة الليبيون الذين كانوا يدرسون في الخارج، فقد أرسل لهم عدة فرق من أعوانه لاغتيالهم. أكثر من ذلك، داعبت خيال هذا الطاغية، أنه مُفكر عظيم، لا يقل عن "كارل ماركس"، صاحب كتابي "رأس المال" و"المنشور الشيوعي"، ولا يقل عن الزعيم الصيني "ماوتسي دونج"، صاحب "الكتاب الأحمر". فألف القذافي كتاباً سمّاه "الكتاب الأخضر"، عرض فيه ما أسماه "النظرية الثالثة" ـ أي المُقابل العربي ـ الإفريقي ـ الإسلامي، لكل من آدم سميث، صاحب النظرية الرأسمالية، وكارل ماركس، صاحب النظرية الشيوعية. وأصدر القذافي من "كتابه الأخضر" هذا، مئات الألوف من النُسخ، بالعربية، وترجمات له بكل اللغات الأجنبية. ووجد القذافي من المُنافقين العرب والأجانب، ممن أجزل لهم العطاء، فنافقوه، وعقدوا مؤتمرات وندوات لمُناقشة مضمون الكتاب الأخضر والترويج له. وصدّق القذافي أنه فريد عصره، وأن ليبيا بلد صغير (مليون ورُبع كيلو متر مُربع وخمسة ملايين نسمة) لا يتناسب مع قيادته العملاقة. لذلك حاول الاتحاد مع مصر، ثم مع تونس، ثم مع السودان، ثم مع الجزائر، ثم مع المغرب. ثم حاول أن يوحّد كل إفريقيا، وأن يكون رئيساً لها، دون أن يأخذه أحد مأخذ الجد. وعند هذه المرحلة الإفريقية في شطحات القذافي، أعلن على الملأ في مؤتمر صحفي كبير أنه "سيرحل هو وليبيا، من العروبة والعالم العربي، وسيتوجه شطر إفريقيا جنوب الصحراء"!. وصدّقه بعض المُثقفين العرب من دُعاة القومية العربية والوحدة العربية. فسارعت وفود منهم، من مشارق الوطن العربي ومغاربه، تناشد الأخ العقيد مُعمرّ القذافي، أن يُراجع قراره، وأن يعود إلى العروبة والوطن العربي!! وتحدّاهم القذافي، وقال في تصريح له، إنه مُستعد لمُناظرة علنية مع أي مُثقف أو سياسي عربي لإقناعه بصواب ما فعل. وأخذت "قناة الجزيرة" الأمر محمل الجِد. وظلّت تبحث لعدة شهور عن مُثقف أو مُفكر عربي لمُساجلة الأخ العقيد. ولم تكن الصعوبة في نُدرة من يستطيع مُناظرة الرجل، ولكن التوجس من أن يُصيبهم سوء على يديه أو على يد أعوانه. ففي تلك الأثناء كان الزعيم الشيعي اللبناني "الإمام موسى الصدر"، قد ذهب إلى ليبيا تلبية لدعوة من القذافي، ثم اختفى من الوجود. كذلك حدث نفس الشيء لأحد وزراء الخارجية الليبيين السابقين المُعارضين، وهو السيد منصور الكخيا. وأخيراً أقنعني الدكتور فيصل القاسم، صاحب برنامج "الاتجاه المُعاكس" على قناة الجزيرة الفضائية بُمناظرة القذافي. ولكني اشترطت أن تكون المُناظرة على "أرض مُحايدة"، أو بالأقمار الصناعية (فيديو كونفرانس) كل في موطنه. وهو ما حدث بالفعل. وفي هذه المُساجلة الفريدة بين مُثقف عربي ورئيس دولة، كرر القذافي ادعاءه "بإفريقية" ولا "عروبية" ليبيا، وكان ردي عليه من شقين. الأول، هو أنه لا تعارض بين "الإفريقية" التي هي "جُغرافياً"، و "العروبة" والتي هي لُغة ولسان وثقافة. ثم أن مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، تقع في إفريقيا وتعتز بإفريقيتها، وبعضويتها في مُنظمة الوحدة الإفريقية. قال العقيد، ماذا يفعل لي العرب، وأنا أواجه الإمبريالية الغربية، والهيمنة الأمريكية؟ فسألته بدوري، وماذا فعلت أنت للعرب؟ هل حاربت أيا في مواجهاتهم مع أعدائهم وخصومهم غير العرب ـ سواء كانت إسرائيل أو إيران أو أثيوبيا أو أمريكا؟ هل قمت ببناء جامعة أو مدرسة، أو مستشفى أو مصنع، أو طريق، في أي بلد عربي خارج ليبيا؟ حينما لم يكن العقيد القذافي قادراً على الردّ، كان يظل ينظر إلى سقف الخيمة، التي أصرّ أن يبقى فيها أثناء المُناظرة. وأخيراً، سألت الرجل إن كان قد استفتى الشعب الليبي في قرار الرحيل عن الوطن العربي والخروج من الجامعة العربية؟ وظلّ الرجل يسأل ماذا تقصد باستفتاء الشعب الليبي... أنا أعرف الشعب الليبي... والشعب الليبي يعرفني، ويُحبني، ويتبعني، حيثما أذهب به!! قلت له إذا كنت فعلاً تعتقد ذلك، فلماذا لا تستفتي الشعب الليبي في وجود مُراقبين عرب ودوليين، حتى يتأكد الجميع من الإرادة المُستقلة لأغلبية أبناء الشعب الليبي؟ وظل العقيد يُردد أن الشعب الليبي وهو وليبيا، شيء واحد. والغريب أنني سمعته يُردد نفس "الوهم" على أنه حقيقة إلى اليوم. وهذا ما كان يعتقده نيرون في روما قديماً... وهو نفس ما صدّقه نيكولا شاوسيسكو، جلاّد رومانيا حديثاً، حتى أعدمه شعبه في 25 ديسمبر 1989 فهل سيكون مصير القذافي مثل شاوسيسكو؟ والله أعلم.. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق