اتكاءة محارب:الفريق الركن ابراهيم الرشيد
سقوط أنظمة الحكم في العالم أصبحت حالات تدرس في الجامعات ومراكز الدراسات الاستراتيجية وفي مجال الدراسات العليا، ويخرج الناس منها بدروس وعبر لمن يعتبر ويتبين ويفتكر من الأنظمة وأهل الحكم والسلطان. في عهد حكم الرئيس نميري وفي آخر سنتين له في الحكم، كنت من ضمن موظفي رئاسة الجمهورية ملحوقاً من القيادة العامة مديراً لمكتب الرئيس بالقصر، وضابط ارتباط بين القيادة والقصر. وهكذا كنت شاهداً على العصر قريباً من مركز القرار ومراقباً لكثير من الأحداث التي تجري في دهاليز الحكم، وشاهداً على الصراع الذي يجري داخل المنظومة السياسية بين العناصر المكونة والمشاركة والمؤثرة في نظام الحكم. وكان واضحاً لكل من يراقب عن قرب، سرعة إيقاع الصراع بين الإسلاميين المشاركين في الحكم بثقل كبير وتنظيم دقيق وانتشار واسع، ومجموعة القصر محدودة الانتشار ضعيفة التنظيم، ولكنها مسنودة بالاتحاد الاشتراكي المايوي، وجهاز أمن مقتدر واسع الإمكانات ويتميز بمهنية أمنية عالية. كانت بداية الصراع بعد إعلان القوانين الإسلامية والعمل بها وتطبيق الحدود بواسطة محاكم خاصة، الشيء الذي أدى إلى شعور كبير لدى الإسلاميين بالحصول على مكاسب سياسية كبيرة، والقرب من تحقيق أعلى غاياتهم. وبدأ الحديث عن قربهم من السيطرة الكاملة على مقاليد الحكم، وبداية الحديث همساً عن نهاية عهد الإمام القائد وبداية عهد الإمام العالم، خاصة بعد المسيرة المليونية التي نظمها وحركها التنظيم الإسلامي. وكان كل ذلك من أسباب احتدام الصراع بين الإسلاميين ومجموعة القصر. وفي الحقيقة أن مجموعة القصر هى التي حركت الصراع ورتبت السيناريو وأعدت العدة له، بعد أن تأكدت من الدعم الخارجي لها، ووقوف الإدارة الأمريكية معها ومساندتها لهم ترتيباً وإخراجاً، بل مشاركة فعلية في إخراج السيناريو. كانت مجموعة القصر محدودة النظر، تسعى لهدف واحد هو إخراج التنظيم الإسلامي من سدة الحكم وأجهزته. ولكن لم يفكروا في أبعاد تحقيق هذا الهدف. وفي المقابل كانت الإدارة الأمريكية تخطط لهدف آخر يتمثل في ضرب الطرفين والتخلص منهما، فأرسلت نائب الرئيس الأمريكي بوش الأب وقتها ليرتب الأمور وتحريكها ودعمها مع مجموعة القصر ظاهرياً سنداً لهم، وفي باطنهم تحقيقاً للهدف الأمريكي بضرب المجموعتين في وقت واحد، وهم يعلمون أن الإسلاميين هم سند حكم مايو، وبضربهم يصبح النظام نفسه ضعيفاً فيسقط، وبذلك يفسح المجال لعودة الحكم المدني الديمقراطي. وفي نهاية الأمر رُتب لضرب الإسلاميين، وأصبح في ليلة واحدة سبعة وسبعون منهم داخل السجن، وأصبح بذلك النظام كاشفاً، فتحرك الشارع وسقطت مايو، وكسبت الإدارة الأمريكية. هذه المقدمة الطويلة أكتبها لأقول للقارئ إن قناعاتي وقتها أن الصراع داخل نظام الحكم هو الذي يؤدي إلى سقوطه، خاصة إذا وقفت أهم مؤسسات الدولة على الحياد «القوات المسلحة»، ففي عهد مايو لم يكن هناك فساد بحجم ما يتحدث عنه الناس بعد سقوط النظام في تونس ومصر، ولم تكن بطانة الحكم والمسؤولون يفعلون ما يشاءون كما نرى الآن في تونس ومصر، ولم تكن الضائقة المعيشية قد وصلت إلى الحد الذي وصلت إليه حالة الشعوب في العالم العربي اليوم من بؤس ومسغبة. إذن ليس بالصراع وحده تسقط الأنظمة، فالصراع داخل نظام الحكم المصري لم يكن بالحجم الذي يؤدي إلى سقوطه، على الأقل ما هو ظاهر منه، وكذلك الأمر في تونس. ومن هنا نجد أن هنالك أسباباً كثيرة أصبحت أقوى لتحريك الأمور في اتجاه سقوط النظام، مهما كان ذلك النظام متماسكاً وله مؤسسات قوية راسخة تقبض بيد من حديد على مؤسسات الدولة السيادية والسياسية والتنفيذية والقضائية والأمنية.. فالناظر لنظام الحكم في مصر وكذلك في تونس، لا يتخيل من قريب أو بعيد، أن تلك الأنظمة يمكن أن تسقط بواسطة الشعب.. إذن ما هى تلك الأسباب؟ من خلال مجريات الأحداث في مصر وتونس ودول عربية أخرى، بدأ الشارع يتحرك فيها. ومن الدروس المستفادة المستخرجة من الواقع وما وصلت إليه الأحوال في مصر وتونس وإيقاع حركة الشارع والتجاوب السريع مع الثوار، يمكن تلخيص الأسباب التي أدت إلى سقوط تلك الأنظمة في الآتي: أولاً: الفساد الواسع المستشري بين بطانة الحاكم والحاكم نفسه والمسؤولين في كل المستويات في سدة الحكم والمحسوبين عليه وعليهم. ثانياً: إطلاق يد بطانة الحاكم والمسؤولين في التصرف كسباً للمال والجاه دون حسيب أو رقيب. ثالثاً: التستر على الفساد تبادلاً للمصالح. رابعاً: السيطرة المركزية على مقاليد الحكم والحصول عليه بأية صورة من الصور دون إفساح المجال للآخرين للمشاركة. خامساً: الحرمان من حرية الرأي والتعبير والمطالبة بالحقوق. سادساً: الخطاب المتعالي المستفز من أركان الحكم قولاً وفعلاً. سابعاً: قمع أجهزة الأمن لكل من يتحدث أو يكتب أو يعارض. ثامناً: تفشي البطالة بين الخريجين والشباب. تاسعاً: عدم توفر الخدمات الضرورية. عاشراً: ارتفاع الضرائب والرسوم وغلاء الأسعار وملاحقة الناس في سبل معيشتهم. وبنظرة فاحصة نجد أن جميع هذه الأسباب قد توفرت في الحالتين المصرية والتونسية، ومتى ما توفرت كلها أو جزء منها لدى أي نظام حكم آخر يمكن أن تؤدي إلى سقوطه. وإذا وضع كل نظام حكم هذه الأسباب بالإضافة إلى دروس أخرى خرجت من ثورتي مصر وتونس وبدأ العمل الجاد في معالجتها وإشراك كل فئات الشعب في علاجها، وليس ذلك بعسير ولا مستحيل تطبيقه، فلا شك أن النتيجة ستكون استقراراً للحكم ورضاءً لدى جميع فئات الشعب، وانطلاقاً لبناء دولة عظيمة. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق