الخميس، 17 مارس 2011

فوبيا الشارع


حفل الأسبوع المنصرم بثلاثة أحداث مهمة على صعيد الحراك السياسي بين حكومة حزب المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة، لها مدلولات كبيرة وتؤشر علامات في سبيل أية محاولة لاستقرار سيناريوهات المستقبل القريب في السودان.
الحدث الأول هو الندوة العامة التي نظمتها قوى الاجماع الوطني يوم الاثنين 7/3/1102م بدار الحركة الشعبية بالخرطوم «المقرن»، حول انتخابات ولاية جنوب كردفان. فقد انطرحت فكرة هذه الندوة بوصفها نوعاً من التهيئة للعملية الانتخابية لاحزاب الاجماع الوطني وجماهيرها في الولاية من جهة، ونوعاً من الضغط على الأطراف التي تنوي التلاعب بالعملية قبل أن تبدأ في المفوضية أو في الحكومة وحزبها، حتى يتم ضمان قيام انتخابات خالية من العيوب السابقة مثل تبديل الصناديق، وتزوير عملية الاقتراع، ومضايقة الخصوم أمنياً، والاستخدام السيء لأجهزة الدولة وامكاناتها الاعلامية واللوجستية وغير ذلك.
وعلى الرغم من أن فكرة الندوة والإعداد لها قد جاء في زمن ضيق جداً، إلا ان الحشد كان مفاجئاً حتى لمنظمي الندوة. فقد امتلأت الدار بالآلاف من الحضور بين جلوس ووقوف، وامتلأ الشارع بالذين لم يتمكنوا من دخول الدار بسبب الزحام. وتفاعل الحضور مع كل المتحدثين بصورة واضحة ولافتة للنظر والانتباه، بينما امتلأت المداخل المؤدية الى مكان الندوة بالسيارات المحملة برجال الشرطة و«البكاسي» التي لا يحمل بعضها لوحات وبها عشرات الأشخاص بزي مدني، وكلهم في حالة من التأهب الشديد. واتسمت الندوة بخطاب سياسي قوي وتفاعل من الجمهور، وسط حضور اغلب القيادات السياسية المعارضة، مثلما اتسمت بتنظيم دقيق وانضباط عالٍ من الجميع، جعلها تنتهي بصورة جيدة أرضت الجميع وقدمت لهم دفعاً معنوياً مهماً.
والعامل الأساسي في الزخم الذي وجدته ندوة قوى الاجماع بالمقرن، هو محاولة الدس التي قامت بها بعض الدوائر الإعلامية المحسوبة على المؤتمر الوطني، مثل وكالةSMC التي روّجت لوجود مخطط تخريبي يبدأ بندوة يوم الإثنين في دار الحركة الشعبية. وهو مستوى من الممارسة الاعلامية والسياسية يفتقر الى الأخلاق المهنية والقيم، ومجرد تدافع الحضور الكثيف لموقع الندوة كان رداً عملياً على هذا السلوك وفضح له.
الحدث الثاني هو الوقفة السلمية للنساء بميدان الأهلية بام درمان يوم الثلاثاء 8 مارس بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع المرأة. وهو نشاط يتم احياؤه في كل العالم، والمناسبة معروفة طبيعتها التضامنية مع قضية المرأة عموماً، ومعروف ايضاً طابعها السلمي بحسب الجهة المنظمة. ولكن ردة الفعل الرسمية جاءت متعسفة وقمعية، حيث طوقت الشرطة المداخل والمخارج المؤدية الى منزل الزعيم الازهري، واوقفت «84» من المشاركين والمشاركات في الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها مبادرة لا لقهر النساء. وتم فتح بلاغات ضد عدد منهم تحت مبرر عدم وجود تصديق بالخطوة.
اما الحدث الثالث فهو الوقفة التضامنية التي دعت لها أحزاب المعارضة لتحية شعبي مصر وتونس على نجاح ثورتيهما ومناصرة الشعب الليبي في ما يتعرض له من عنف وتقتيل وحرب من قبل نظام العقيد القذافي وأسرته وكتائبه، فعلى الرغم من قيام منظمي الوقفة التي حُدد لها يوم الاربعاء 9/3/1102م بميدان ابي جنزير وسط الخرطوم، باخطار الشرطة بها حسبما افاد الأستاذ فاروق ابو عيسي في المؤتمر الصحفي لقوى الاجماع، الا ان ردة الفعل جاءت بطريقة أسوأ من السابق، وبذات الحجة، أي عدم الحصول على تصديق من الشرطة.
فقد أوردت وسائل إعلامية عديدة تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم من اعتقالات استباقية واحتلال للميدان وسد للطرقات المؤدية له، وحتى ملاحقة الذين حضروا واقتيادهم الى اقسام الشرطة المختلفة. فقد تجمع ما يزيد عن الـ 005 من أفراد الشرطة والأمن في الشوارع المحيطة بالميدان، كما ارتكزت شرطة مكافحة «الشغب» على شاحنات كبيرة وصغيرة منذ الصباح داخل الميدان، بجانب «بكاسي» امتطها عناصر بزي مدني، وألقى القبض على العشرات، فيما طالت الاعتقالات قيادات حزبية في قوى الاجماع الوطني بينهم ابراهيم الشيخ، ميرغني عبد الرحمن، محمد ضياء الدين، جمال إدريس، طارق عبد المجيد وآخرين تم اقتيادهم جميعا من منازلهم. كما تعرض بعض الصحافيين للتوقيف أيضاً. وفي جامعة النيلين طوقت الشرطة الجامعة على خلفية محاولة بعض الطلاب التوجه لميدان ابو جنزير في الوقت الذي اعترضهم فيه منسوبو المؤتمر الوطني «وربما مليشياته» بالعصي والسيخ لمنعهم من الخروج من الجامعة.
والثلاث حالات مقروءة مع تصريحات وتسريبات قيادات نافذة من المؤتمر الوطني قبل وبعد هذه الانشطة، تؤشر بوضوح إلى حالة الرعب والخوف من فكرة خروج الناس الى الشارع بصورة تجعلهم لا يفرقون بين الندوة الجماهيرية والوقفة التضامنية والمناصرة، وبين المظاهرات الاحتجاجية. لذلك يأتي رد الفعل مشحوناً بالعداء السافر والتوتر والتشنج. فقبل هذه الأنشطة سادت نبرة تهديد من كل الجهات التي يسيطر عليها حزب المؤتمر الوطني، ومحاولات بتخويف الآخرين من الإقدام على أي فعل سياسي سلمي تضامني أو احتجاجي. وبعد القمع والاعتقالات والتوقيف والتشويش، لم يستح هؤلاء من محاولة السخرية من خصومهم الذين استخدموا كل ادوات السلطة والمكر ضدهم.
فقد خرج نافع بتصريح خجول بعد قمع وقفة النساء قائلاً إنها لم تتجاوز العشرين امرأة، مع أن المعتقلات أكثر من ضعف العدد، كما خرج نزار محجوب بعد يوم الاربعاء متهكماً على وقفة يوم الاربعاء بوصفه للمعارضة بـ «جمل وبغلتين» ولم يقل لنا الرجل هل أُدخل السجن في مصر يوماً ما؟ وماذا كان موقف الجمل والبغلتين إزاءه؟! قبل أن نعلق على هذا النوع الأخلاق.
ومن اكثر نماذج هذا السلوك سوءاً ما تم نسبته الى سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، الاستاذ محمد ابراهيم نقد من عبارة قيل انه كتبها عندما حضر الى الميدان ولم يجد أحداً، فكتب عبارة «حضرنا ولم نجدكم». وعلى الرغم من الاستاذ نقد قد نفى لصحيفة «الأخبار» هذا الخبر المدسوس، وعلى الرغم من نفي قيادات من الحزب الشيوعي كانوا الى جانبه ايضاً، الا أنني حرصت على الاتصال بالاستاذ نقد لسماع ذلك منه مباشرة، حيث ذكر لي في اتصال هاتفي به أن شيئاً مثل ذلك لم يحدث، وأنه اقتيد الى القسم قبل أن يفعل أي شيء. وقد حاولت آلة المؤتمر الوطني الاعلامية والامنية والسياسية استخدام هذا الخبر الذي لا يحتاج شخص الى اجتهاد لمعرفة من الذي قام بدسه، وحاولت توظيفه بشكل غير لائق، ولا يصدر عن مؤسسة حزبية او غير حزبية تحترم نفسها. فقد خرج على الناس الناطق الرسمي وأمين الإعلام بالمؤتمر الوطني فتحي شيلا موجهاً حديثه للاستاذ نقد «لا داعي للاحباط وتعال لنلتقي في حوار جاد...الخ». وقال أيضاً: «أجد نفسي مستغرباً للاخ نقد الذي جرب هذه الاحزاب في فترات مختلفة وفي هذه الفترة».
وقال أيضاً «نشارك الأخ نقد احباطه وشعوره باليأس من خذلان هذه الأحزاب»، وكذلك «نحن نعي ان التغيير قادم من خلال المؤتمر الوطني».
وبتقديرنا أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان يعيش حالة من فوبيا الشارع، ويرتعد كلما شاهد أخبار الانتفاضات المتفجرة في المنطقة العربية من الرباط وحتى بغداد، ولم تسلم منها أية ساحة عربية، اضافة الى ادراك هؤلاء أن أسباب الانتفاضات في الاقطار العربية الاخرى متوفرة في السودان أكثر من غيره، وبالتالي فيقينهم أن الدائرة سوف تدور عليهم عاجلاً أم آجلاً، لذلك فهم يتصرفون بسلوك المثل القائل «الحرامي على رأسه ريشة»، ويرتبكون في التعامل مع أي فعل جماعي مهما كانت بساطته، ويتصدون له مباشرة على أنه طوفان تسونامي القادم نحوهم.. مع أن التجربة قد دللت أن شرارة الانتفاضة لا يتم تصنيعها ولا افتعالها، مثلما لا يمكن المراوغة أمام حالة المد الثوري عندما تبدأ الشرارة في الانطلاق. ولكن يبدو أن هؤلاء سوف يتعلمون الدرس بعد فوات الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق