الثلاثاء، 15 مارس 2011

ظاهرة سيف الإسلام القذافي




رأي-مريم عبد الرحمن تكس
رأي

مقالات سابقة

الأرشيف


free counters
رأي
أمام طوفان عارم من وسائل الاعلام العالمية وبالعين المجردة نراقب انتصار الشعوب للحرية والمبادئ الاخلاقية للعقل الجمعي والوجدان المشترك. على الهواء مباشرة ينبذ الشعب من تخلوا عن قيم المجتمع وضميره انها ليست ثورة من أجل الخبز وليست كذلك من أجل السلطة إنها ثورة من أجل البحث عن قائد يُعرب عن قيم المجتمع وأصالته. إن الشعب لا يخرج لنصرة قائده ويهتف باسمه الا اذا كان هذا القائد يصون ماضيه العريق ويحترم حاضره الراهن ويجعله يطمئن على مستقبل أجياله الواعد. وعلى العكس تماماً عندما يفقد أي شعب الاحساس بالاطمئنان على قيمه وثقافته ويرى بام عينه الاستهتار بموروثاته وقيمه وينعدم احترام كرامته وتطلعاته حينها لا يوجد سبب واحد يجعل هذا الشعب يصبر على قائده. تصبر الشعوب على الجوع وتصبر على حروب الاعداء وتقف خلف قائدها مهما كلفها من ثمن طالما كان هذا القائد أمينا على قيمها محترماً لتطلعاتها. لذلك عندما ينحرف القائد عن مسار القيم المجتمعية ويحتقر شعبه ويتجاهل تطلعاته فان هذا القائد يكون تلقائياً وبديهياً قد عزل نفسه عن حراك الشعب فيصبح لا يرى الا تضخم ذاته ويعمى تماماً عن رؤية الوعي والادراك الذي تكون لدى شعبه تماماً كما نرى ذلك في ظاهرة سيف الاسلام القذافي الذي عزل نفسه قبل ان يعزله شعبه وظاهرة سيف الاسلام تحتاج الى بحوث ودراسات وتقصي من علماء التاريخ والاجتماع والنفس والسياسة وهي ظاهرة تكررت كثيراً في التاريخ الغابر لكنها جديرة بالاهتمام في العقد الثاني من الالفية الثالثة. ان حالة سيف الاسلام القذافي تختلف عن حالة والده ذلك ان القذافي يرى في نفسه المعطوبة قائداً فذاً أوجد الجماهيرية من العدم كما يرى في نفسه قائداً اممياً وكما يقول اخوتنا في الشام «يطلع له» أي يحق له ان يرى في نفسه قائداً أممياً طالما زعماء يعتبرون في بلادهم علماء وقادة موهوبين يذبحون كرامة شعبهم أمام خيمته يستجدونه لينافسوا خصومهم السياسيين بعد ان اهملوا قواعدهم المؤمنة الصادقة النبيلة فانهارت تنظيماتهم الفوقية وتفككت شبكة العلاقات الانسانية الثقافية التي تماسكت بها تلك القواعد وما لهم وذلك العمل التنظيمي الشاق في بلاد شاسعة ووعرة وقرى نائية ومتباعدة فذاك طريق وعر سار فيه مهاتير محمد رجل ماليزيا ،ما لهم ووعورته واموال البترول سهلة ميسورة فاتورتها لا تتطلب سوى الثناء على القائد الأممي وشتم الخصوم السياسيين الذين تجمعهم بهم المواطنة والمصير المشترك لذلك لم يجد القائد الاممي حرجاً من التدخل في شؤون السودان سراً وعلناً وقد رددت عليه مرة عندما اباح لنفسه التحدث عن خصائص السودانيين في معرض حديث له عن الجنوب فقلت حينها وأنا ممتلئة بالايمان القاطع بقيمة الشعب السوداني وتاريخه وقدراته الكامنة قلت له بالحرف في مقال بصحيفة «الصحافة» «والله لو أقسمنا على الله لأبرنا» أيها القذافي ونحن نقولها ثانية وبذات الايمان الذي نستمده من اصالة آبائنا واصرار ابنائنا والله لو أقسمنا على الله لأبرنا بان هذه الارض لن تقبل الا من يؤمن بقيمة شعبه وكرامته إذاً القذافي طاغية بطبيعته وزاد طغياناً بتهافت زعمائنا على خيمته وطال الامد على القذافي ولم يفهم أكثر من اربعين عاماً وظل السؤال العبقري:
متى تفهم؟ متى يا أيها المتخم؟ متى تفهم؟
أيا من فرّخ الاقطاع في ذرات ذراتك
ويا من تخجل الصحراء حتى من مناداتك
متى تفهم؟؟؟
لكن اذا لم يفهم القذافي فما بال سيف الاسلام؟ الاجابة بسيطة وهي ان سيف الاسلام لم يعرف المجتمع الليبي ولم يعرف القيم والاخلاق والمبادئ التي عاش بها وطوّرها الشعب الليبي منذ مئات السنين في المدن في الواحات وفي الصحراء ،سيف الاسلام القذافي يرى في الشعب الليبي أمراً واحداً وهو أنهم «رعاياه» وانشغل مترفاً لاهياً غافلاً بحلفائه واصدقائه من كل بلد وجنس انعزل عن قيم مجتمعه عاش هاشا فارغاً يجعل من ينظر اليه يشعر بالحياء من كونه عربياً مسلماً وهو اقرب ما يكون الى «امير» ميكافيلي الاقطاعي، ان سيف الاسلام استطاع ان ينقل المفاهيم التي اطلقها ميكافيلي في القرون الوسطى في «داعي المصلحة العليا» الى الميدان العملي برغم انف تطور القانون الدولي والانساني والامم المتحدة وفوقهم جميعا القيم الاسلامية التي يتسمى زوراً وبهتانا بها. ولم يكتف بالاساليب اللا اخلاقية للحكم والسيطرة ولا المعرفة السطحية لقيادة الدولة بل تعداها الى المجاهرة والاستفزاز للانسانية كافة. إن سيف الاسلام القذافي ليس ضحية للاموال السايبة والترف والبذخ لكنه ضحية لانفصاله النفسي والعقلي عن قيم شعبه.
إن ظاهرة سيف الاسلام تجدها بدرجات متفاوتة وفي ظروف مختلفة متفشية بين الذين ينشأون وفي اعتقادهم انهم سادة وان الاقدار وضعتهم فوق مجتمعاتهم ويحصرون أنفسهم ويؤهلونها ويتفرغون تماماً لتدبير امر «رعاياهم» وللاسف يهملون مواهبهم الانسانية الاخرى فالقيادة ليست وراثة.. وهم ينظرون لهؤلاء «الرعايا» كأنهم صم بكم عمى وأنهم مكلفون بقيادة هؤلاء «الرعايا» ومن فرط توهمهم يظنون وأمام محراب الوطن وحقوق المواطنة ان لا سقف لهم بينما لبقية «الرعايا» سقف يجب ان لا يتجاوزوه جيلاً وراء جيل متناسين ان هناك ظروفا موضوعية جعلت من آبائهم أو أجدادهم قادة أو زعماء وليس بالضرورة ان تنطبق عليهم هذه الظروف.
ومن المفارقات ان هؤلاء «الامراء» ظلوا وحدهم حبيسي مفهوم «الرعايا» والامارة الموروثة، بينما طوّر «الرعايا» أي المواطنين مفاهيم الحرية والحقوق وظلوا متمسكين بقيمهم وارثهم الثقافي ومرجعياتهم الآيديولوجية. من ناحية أخرى لم يدرك «الامراء» أن الشعوب عندما التفت حول اجدادهم أو آبائهم إنما سارعت ايمانا منها بالمبادئ والقيم التي تؤمن بها وليس من أجل الاشخاص في حد ذاتهم فاي رزالة انسانية تلك التي تجعل من هؤلاء مستثمرين سياسيين يبيعون ويشترون باسم أمجاد آبائهم هؤلاء فوق الاشمئزاز يثيرون الشفقة فلا هم تحلوا برزانة شعوبهم وحكمتها ولا هم حازوا حنكة سياسية تحكموا بها على انفسهم قبل ان يتطلعوا بهذه الحنكة الى حكم الآخرين.
إن ظاهرة سيف الاسلام القذافي مليئة بالعبر والدروس وهي منتشرة في العالم الثالث وخاصة عالمنا العربي وهي ليست حكراً على أبناء الملوك او السلاطين أو الامراء أو رؤساء الجمهوريات أو أبناء القادة بل نجدها حتى داخل التنظيمات السياسية بدرجات متفاوتة وسيجد الباحث المتأمل هذه الظاهرة حتى في كوادر الاحزاب الممسكة بالسلطة وغير الممسكة بها اذ تعمد الكوادر العليا الى فرض قيادات قاعدية في الوحدات الادارية والمعتمديات والولايات وتفرضها على هذه المجتمعات وعادة لا تكون هذه القواعد مشبعة لا بمنفستو ومبادئ الحزب ولا بفضائل وقيم المجتمع القاعدي بل يكون مؤهلها الاساسي هو طاعتها لمن يليها في القيادة ومؤهل أمني يزيده المال وحماية القانون سطوة وقوة وهكذا وبفضل هذه الشخصية ينعزل النظام الحاكم او الحزب عن قيم وفضائل قاعدته وكلما زادت شخصية الكادر الحزبي مكراً ودهاءً وفساداً كلما ازدادت كرامة وقوة المجتمعات توثباً لمناهظة النظام والنفور منه طال الزمن ام قصر.
إنني اندهش للمسؤول السياسي في الحزب الذي يطمئن الى كوادر مفصولة عن قواعدها ويكون اطمئنانه مبنياً فقط على قدرة الكادر الحزبي على الفهلوة والمكر والكيد هذه الكوادر القاعدية ومن يقف وراءها يتجاهلون تماماً أهمية رضا وقناعة المجتمعات بمن يمثلها. إن من الغفلة بمكان أن يتجاهل الذين يريدون ان يتحكموا في شعوب ذات قيم واصالة وروح ان يتجاهلوا في معادلات حكمهم معادلة مهمة مثل «الارادة العامة» أو «الروح العامة» التي اهتم بها رجال الدولة وفقهاؤها منذ ايام روسو ومنتسكيو وفوقهم فقهاء الفكر السياسي الاسلامي حيث تحدثوا منذ قرون عن «الاجماع العام». وحتى ميكافيلي في نصائحه الموجهة للامير ركز كثيراً على ضرورة الاهتمام بما يتفاعل داخل الجماعة كأساس للتعامل معها، فكيف لعاقل يتصدى لتدبير امور الامة يتناسى امر «الروح العامة» او «الارادة العامة» ان هذا الاهمال لهذه الارادة هو الذي يجعل هذه الارادة المكبوتة تصنع ثورات تنتقم فيها من مَنْ اهملوا ارادتها وفرضوا عليها مسؤولين منفصلين عن ارثهم وثقافتهم اذا اردتم الاستقرار للمجتمع ولانفسكم راجعوا لجانكم الشعبية والممثلين الذين فرضتموهم منذ عقدين على مجتمعات لا تثق فيهم ولا يمثلون تطلعاتها ولا فضائلها وبهذا لن تتصالحوا مع مجتمعاتكم فحسب بل ستجففون شرايين وأوردة الفساد في المجتمع. إن الحس الامني والفهلوة وحده لن يشبع مجتمعات قائمة على الفضيلة والزهد والورع والتكافل. إن هذه المجتمعات تريد أن ترى فضائلها وقيمها مجسدة في قادتها سواء أكانوا في المجتمعات المحلية أو الادارات العليا.
ظاهرة سيف الاسلام القذافي تتمثل في عنصرين الأول عنصر «ابستمولوجي» «معرفي» وهو كيف يستطيع ان يبرر معتقداته واحكامه وأفعاله حتى لو كانت مرجعيته «الغاية تبرر الوسيلة» ما هي غايته؟ إنه مأزق المتفلتين عن قيم مجتمعاتهم. العنصر الثاني في ظاهرة سيف الدين القذافي هي افتقاده تماماً الى الخيال الاخلاقي. إن الخيال الاخلاقي كما يقول علماء الفلسفة الاخلاقية: «عندنا ملكة تمكننا من ان نضع انفسنا مكان الآخر وأن نحس ما يحس به وأن نفهم موقفاً بكل ما فيه من عمق حينها نتمكن من تصور وجهات نظر مختلفة متعددة الفلسفة الاخلاقية، روفين ادجيان ترجمة جورج زيناتي ص س86» إنني هنا لا اندهش لعدم تعاطفه مع ارادة شعبه ولا ادعوه لذلك لكني اندهش لانعدام الخيال الاخلاقي الذي يُفقد صاحبه حتى امكانية التماسك المنطقي الذي يمكنه حتى من تبرير ما يقوم به من بطش وقتل وخراب بل وحتى من سفاهة واستهتار.
تجنبوا حالة سيف الاسلام القذافي فهي حالة مرضية تتفاوت درجاتها وتنتج عن محاولة فرض قيادات غير مؤهلة أخلاقياً لقيادة مجتمعات تتمتع بالقيم والعزة والكرامة والشجاعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق