الخميس، 10 مارس 2011

الثورات العربية وتفكيك النظام الأبوي


الثورات العربية وتفكيك النظام الأبوي
عبدالحليم غزالي
تاريخ نشر الخبر:الجمعة 11/03/2011
عندما توفي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في شهر سبتمبر عام 1970، كنت في السابعة من العمر لكنني مازلت أتذكر حجم الفاجعة التي ألمت بنا في قريتنا الصغيرة "نزالي الحرجات" في محافظة أسيوط، ولم يكن الأمر بسبب انتماء عبدالناصر لقرية قريبة هي "بني مر"، فقد انقطع عنها عبدالناصر تماما، وحرص على ألا تحصل على أي مظهر من مظاهر التميز، كما عامل أقرباءه بشكل من الحيادية ربما يصل إلى درجة الجفاء، لقد كانت قريتنا مثلها مثل قرى ومدن وبلدات مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كان هناك شعور يشبه فقدان "أبي الشعب" إن صح التعبير، وأظن أن هذا الشعور ساد معظم الدول العربية.
ومما أذكره أن أخا أكبر مني كان في المدرسة الإعدادية، وجد نفسه مع جموع غفيرة من أهل أسيوط مثل غيرها من المحافظات، يستقل القطار إلى القاهرة لأول مرة في حياته ليحضر جنازة عبدالناصر، أتذكر أن الأمر بدا أشبه بحالة من النزوح الجماعي في مواجهة كارثة كبرى، فالكل تحرك بشكل تلقائي وبسرعة وكأن هذه الجموع الغفيرة تبحث عن ملجأ من موت عبدالناصر، وكان من ضمن الهتافات التي رددتها الجماهير في الجنازة "القذافي يقول حسين عبدالناصر رايح فين"، وكأن هذه الجماهير من شدة تعلقها بالرجل لاتصدق أنه مات ورحل مثلما يحدث لكل البشر.
ومازلت أذكر نقاشا دار بعد وفاة عبدالناصر عمن سيخلفه، وكان أنور السادات النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك مجرد رجل في الظل، لايقارن بالزعيم الملقب بالملهم والخالد لاحقا، وطغى رأي في النقاش عن أن خالد عبدالناصر نجله الأكبر يجب ان يخلفه وليس السادات، مع أن خالد كان صغيرا نسبيا، وعبدالناصر كان قد نأى بأفراد أسرته عن السياسة والعمل العام.
وعندما أسترجع تلك الأحداث ومن خلال شعوري كطفل تربى على "ابنك يقولك يا بطل"، و"ناصر ياحرية يا وطنية يا روح الأمة العربية"، أدرك كم كانت أبوة عبدالناصر متغلغلة في نفوس المصريين بل وجل العرب، في تعبير شديد الوضوح عن النظام الأبوي البطريريكي في تاريخنا المعاصر كما تحدث عنه المرحوم الدكتور هشام شرابي الأكاديمي الفلسطيني البارز في مشروعه البحثي الكبير بهذا الشأن، فقد تربع عبدالناصر في نفوس المصريين والعرب، أبا للشعب وللأمة، وهذا يفسر غفران خطاياه الكبيرة ومنها هزيمة عام 1967 حيث وجدنا الجماهير تخرج للشوارع في 9 و10 يونيو بعد الهزيمة بيومين تخرج للشوارع لتطالبه بالبقاء في منصبه بعد تنحيه عن الرئاسة، لقد كان الأمر أشبه بشعور أسرة يقرر ربها التخلي عنها، وحتى الآن هناك أجيال بأكملها ترى أن عبدالناصر زعيم استثنائي في العالم العربي، وربما لاتدرك أن النظام الأبوي وراء هذا التوصيف البعيد عن الحيادية مع تقديرنا للرجل وإخلاصه في مشروعه القومي والتنموي.
وعندما جاء السادات إلى سدة الحكم بدا أقرب إلى الابن الذي يتبع خطى أبيه، ومازلت أذكر تبجيله لعبدالناصر في بداية حكمه وتقديمه لنفسه على أنه جاء ليكمل "مشوار" الزعيم الخالد كما كان يوصف في ذلك الوقت، لكن بمرور الزمن خرج السادات من عباءة عبدالناصر، بل وانقلب عليه مشكلا أبا جديدا للشعب كما أراد رغم أن السادات لم يكن يتمتع بالكاريزما التي كانت لعبدالناصر، وكان السادات يتحدث لشعبه باعتباره أبا الجميع بل وكان يكرر تعبير" كلكم أولادي"، ومن منطلق الأبوة والزعامة أقدم السادات على مشروعه التصالحي مع إسرائيل، ثم كانت نهايته بيد أحد أبنائه في القوات المسلحة وفقا لتعبير البعض!
وعندما جاء مبارك للسلطة كان يدرك أنه ليس في مكانة عبدالناصر ولا حتى السادات فتحدث في بداياته عن أنه لن يترشح لأكثر من فترتين رئاسيتين، وما حدث مع مبارك بعد ذلك أنه وجد من يحولونه إلى أب وزعيم بطريركي، وألصقت به الحكمة والشجاعة وغيرها من الصفات، بل وبدأ التمهيد لتوريث ابنه جمال، ولم يكن مبارك استثناء في العالم العربي، فمثله القذافي الذي أوغل في الأبوة السلطوية، وغيره من الزعماء وبينهم زين العابدين بن علي الذي حاول أن يرث "أبوة" بورقيبة للشعب التونسي.
ومع سقوط مبارك وبن علي واقتراب القذافي من السقوط نجد أنفسنا بصدد سؤال جوهري على الساحة السياسية العربية وهو: هل نحن بصدد تفكيك النظام الأبوي في العالم العربي، والأإجابة لاتبدو بسيطة لكن هناك فرصة كبيرة لذلك، وألأمر يتوقف على كسر دائرة توريث الشعوب العربية لزعيم ملهم من آخر ملهم والإلهام براء من هذا وذاك.
ومن الواضح أننا أمام خلخلة كبيرة للنظام الأبوي السلطوي الذي ساد على مدار قرون في العالمين العربي والإسلامي، وجعل الخلافة تتحول إلى ملكية وراثية، وكان لهذا النظام أسوأ النتائج على أحوال العرب والمسلمين، ومما يذكر في هذا الشأن أن هنري كيسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كلف شابا صغيرا في مكتبه عام 1973 بعد حرب اكتوبر بكتابة تقرير صغير عن كيفية التعامل مع الزعماء العرب، وكان كيسنجر يعتزم القدوم للشرق الأوسط في بداية مهمة قادت بشكل أو بآخر إلى اتفاقية كامب ديفيد فيما بعد، وكتب هاس الذي أصبح مساعدا لوزيرة الخارجية الأمريكية فيما بعد التقرير مطالبا كيسنجر بمراعاة مبدأين "الخيمة"، و"البازار"، أما الخيمة فقال عنها: ستدخل قصرا أو خيمة لايهم ستجد رجل الكل يهمس في أذنه وهو صاحب القرار.. ركز على هذا الرجل واحرص على تبجيله!، وأما البازار فستجد غلوا في المطالب في البداية لكن هذا الزعيم سيقدم التنازلات واحدا تلو الآخر بعد مساومة، وهذا بالضبط ما حدث من السادات في اتفاقي فك الاشتباك الأول والثاني ثم في عملية كامب ديفيد بعد ذلك!
وفي كل الأحوال فإن مصر كما كانت نموذجا للنظام الأبوي يمكن أن تكون نموذجا في تفكيكه أيضا ومن ورائها تونس وليبيا وغيرها من الدول العربية القادمة على خط الثورات، ولعل في تعديل الدستور المصري لجعل انتخاب رئيس الجمهورية لفترتين فقط ما قد يخلصنا من النظام الأبوي، واعتقد ان الحل الأمثل عندما يتم إعداد دستور جديد هو تحويل النظام السياسيي إلى برلماني بدلا من الرئاسي، وكفانا أبوة مدمرة!
< صفو الكلام: "كلكم لآدم وآدم من تراب".. حديث شريف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق