الإسلاميون والمسألة الاجتماعية «2»/ د. أمين حسن عمر
تحدثنا في المقال السابق عن تركيز الحركة الإسلامية في السودان على التغيير السياسي والقانوني وضعف تركيزها على التغيير الاجتماعي والثقافي.. ولا يعني ذلك أن جهوداً لم تُبذل في هذين الصعيدين، ولكن تلكالجهود قصرت عن المأمول ولم تتموضع على رأس أولويات الحركة الإسلامية. فقد كان تنظيم شعيرة الزكاة خطوة واسعة باتجاه معالجة قضية الفقر.. ولكنها مهما اتسعت فإن مشوار مكافحة الفقر يمتد طويلاً علىالطريق. كذلك فإن الجهود التي بُذلت لتعميم التعليم الأساس وتوسيع التعليم العالي جميعها خطوات في تعزيز قدرة الفرد على الكدح وكسب العيش.. وإن كان التعليم نفسه سبباً في سحب قطاعات واسعة من حقولالانتاج الريفي إلى المدن التي تضيق فيها فرص العمل كثيراً. وكان توسيع الخدمات الطبية والسعي لتعميم التأمين الصحي لإعانة الفقراء على تكاليف العلاج خطوات أخرى مهمة. ولا شك أن مقارنة ما أنجزته الإنقاذإلى جهود من سبقها يضعها في المقدمة ولكن مقارنة ذلك بما كان بالإمكان إنجازه يجعل الكسب مهما امتلأت به الأعين ضئيلاً ضئيلاً.
الإسلاميون وشعار العدالة الاجتماعية
كان شعار العدالة الاجتماعية أعظم شعارات الحركة الإسلامية. لأنه أكثر تلك الشعارات التي رفعتها الحركة الإسلامية تجاوباً مع احتياجات الإنسان. ولئن كانت الحركة الاجتماعية الأوربيةSocialist movement قد رفعت أعظم الأفكار التي انتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين.. وكان لها أثارها المشهودة في كافة أنحاء العالم فإن تلك الفكرة العظيمة قد ذكرت الإسلاميين بماضي المسلمين التليد في التضامن والتكافلالاجتماعي. عبر وسائل ومؤسسات ظلت فاعلة في المجمعات الإسلامية قروناً طويلة مثل مؤسسات الزكاة والوقف والعاقلة كما أثارت في النفوس القيم الراسخة في العقيدة الإسلامية مثل قيم وصل الرحم والاستيصاء بالجار وإكرام الضيف وابن السبيل. وعندما رفع الاشتراكيون العرب شعار الاشتراكية ناهضهم سيد قطب والسباعي وبابكر كرار بشعارات العدالة الإجتماعية.. بل لم يستنكف البعض مثل السباعي وكرار من استخدام مصطلح اشتراكية لوصف منهج العدالة الاجتماعية في الإسلام.. ولكنهم نزهوه عن الالحاد والعلمانية والفلسفة المادية.. واليوم ما أشد حاجتنا إلى إحياء شعار العدالة الاجتماعية بقوة، شعاراً نرفعه في وجه الفقروالمسغبة.. وبخاصة ونحن نشهد ارتحالاً هائلاً من الريف إلى المدن. وضيقاً في فرص العمل في الحضر والمدائن التي يتدفق إليها المهاجرون الريفيون مما يعني اتساعاً في دائرة الفقر الحضري.
ولاشك أن دائرة الفقر الحقيقي تضيق بإحراز نسب عالية من النمو. والأرقام تقول إنه قبل انفصال جنوب السودان كانت دائرة الفقر المطلق في السودان 40% وهي نسبة عالية بالمقاييس العالمية. ولكن الفقر الحضري قد تفوق نسبته هذه النسبة. لأن الناس يرتحلون من الريف حيث فرص كسب العيش إلى المدينة حيث تضيق تلك الفرص. وتتسع التطلعات التي لا تطولها أيادي المعدمين الفقراء.
نحو إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر
لئن كان الفقر هو أخطر مهددات الاستقرار الاجتماعي وأكبر معوقات النمو الاقتصادي فلابد من إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. وقد التفتت الحكومة مؤخراً إلى أهمية توسيع دائرة الائتمان ليشمل الفقراء الذين لا يكادون يجدون نصيباً من التمويل البنكي للاستثمار أو الاستهلاك بينما يفوز أغنى الأغنياء بالتمويل حتى لرحلاتهم الخارجية.
واهتمام الحكومة بالتمويل الأصغر جاء خطوة موفقة بذلك الاتجاه. بيد أن التمويل الأصغر لا يزال يواجه عقبات كثيرة لا بد من أن تزال عن طريقه. كما أن الجهاز المصرفي يتطلب إصلاحاً جذرياً ليتلاءم مع مقتضيات التوجه الجديد نحو إدخال الفقراء إلى مظلة الائتمان والتمويل المصرفي. ومهما يكن التوجه نحو التمويل الأصغر موفقاً فإنه لن يؤتي أكله إلا في إطار إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. ولذلك فإن الحاجة ماسة إلى التشاور والتفاكر ثم التوافق حول الإستراتيجية الشاملة لمكافحة الفقر. ولا شك أن في تجارب العالم مندوحة عن التنظير المجرد أو الاجتهادات المتخيَّلة. فهنالك تجارب في العالم لم يصادفها التوفيق الكبير علينا أن نعتبر بها. وهنالك تجارب ناجحة صادفت توفيقاً مذهلاً علينا أن نطّلع عليها وان نتأسّى بها.
التجربة البرازيلية في مواجهة الفقر
والتجربة البرازيلية في مواجهة الفقر أدهشت العالم وأجبرت المتشككين جميعاً على الاعتراف بانجازاتها المذهلة. ففي الفترة بين 2003 ــ 2009م نما دخل من يصنفون فقراء في البرازيل سبعة أضعاف نمو دخل من يصنفون أغنياء في ذلك البلد. وفي هذه الفترة «ست سنوات فقط» انخفضت نسبة الفقر في البرازيل من 22% إلى 7%. ويتوقع الخبراء ان تكون قد انخفضت الآن «2012» إلى نسبة 4% وهي نسبة الفقر في أوربا. هذا الإنجاز الهائل وراءه إيمان رجل نشأ في وسط أفقر أحياء ريودي جانيرو وأدرك بأن الفقر هو العدو الأكبر هو الشيطان الأكبر. ذلك الرجل هو لولا دي سيلفا والذي شهدت فترة حكومته «2003 ــ 2011م» هذه الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى. ولم يكن نجاح سياسات مكافحة الفقر في البرازيل نجاحاً اجتماعياً فحسب بل إنه كان السبب الرئيس في إدخال غالبية البرازيليين في دائرة الإنتاج الفاعل. مما تمظهرت آثاره على الاقتصاد الوطني لتكون البرازيل أكبر تجربة للنجاح الاقتصادي فى العقود الأخيرة. فقد تحولت من أكبر مدين في العالم إلى أسرع الأقطار نمواً في العالم. ولذلك فإن ثمرة البرنامج الاجتماعي الناجع والناجح ليس التراضي الاجتماعي فحسب، بل والنهضة الاقتصادية الشاملة. وللبرازيل تجارب يمكن ان تهديها لجميع العالم في هذا الصدد وعلى رأسها البرنامج الذي يسمى «بولسا فاميلا» «منحة العائلة». وهي منحة مجانية توفر مواردها من ضرائب على حزمة من السلع الكمالية التي يستخدمها الأغنياء لتذهب منحاً للأسر الفقيرة. وهي منحة مشروطة بشروط المقصود منها تعزيز التنمية الاجتماعية مثل شرط تعليم الأبناء والمراجعة الصحية الدورية. والأسرة التي تثبت أنها ترسل الأبناء إلى المدارس وتحرص على التحصين الصحي والمراجعة الدورية الصحية تستحق المنحة. وهذه المنحة غير المستردة إلى جانب مشروع التمويل الأصغر هما اللذان أخرجا ملايين الأسر من دائرة الفقر ونقلاهم من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى المنتجة. ومشروع التمويل الأصغر البرازيلي هو الآخر من المشروعات الناجحة وهو يسمى Credi Amigo « الرفيق الدائن» أو نحو ذلك. وهذا الرفيق يسعى للفقراء ليقدم لهم التمويل وليعينهم على دراسة المشروعات الصغيرة الناجحة. وهو إذ يقدم التمويل لا يطلب ضمانة مالية أو عينية إنما جماعة من المستفيدين متضامنين يضمن بعضهم بعضاً. وقد أنبأني محافظ بنك السودان المركزي أنهم قد نقلوا بالفعل هذه التجربة لتطبيقها في السودان. وهي أشبه بنظام العاقلة أو الكافلة. وهي جماعة أو قبيلة أو فئة تتضامن لدفع الدية «في حالة الديات» أو لمساعدة مريض أو دفع غرامة في حالة التأمين التكافلي. والفكرة هي نقل فكرة التكافل لتصبح ضماناً لاسترداد التمويل في عمليات التمويل الأصغر. وهذه الفكرة أحرزت نجاحاً فائقاً عند تطبيقها في التمويل الأصغر في البرازيل. والمشروع الثالث كبير النجاح هو مشروع التأمين الصحي ، والذي أحرز نجاحاً باهراً في البرازيل لأنها جعلته مشروعاً مختلطاً. فهنالك تأمين صحي تشرف عليه الدولة وغالب هذا يؤهب للفقراء. وتأمين صحي يشرف عليه القطاع الخاص والمؤسسات الاقتصادية ويعمل على أسس اقتصادية وهو في الغالب لتأمين الأغنياء والطبقة الوسطى والعليا. والدولة تتدخل لدعم المؤسسات العلاجية من حيث البنيات التحتية ولكن التأمين الصحي يتكفل بسائر عمليات التسيير لتلك المؤسسات. كما يضمن توفير العلاج والدواء للعملاء من الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء.
لاشك أن في السودان مشروعات قد بدأت في كل هذه المجالات ولكننا نحتاج إلى إرادة سياسية أكبر للانحياز أكثر للفقراء. ولإعادة بناء إستراتيجية التنمية الاقتصادية في البلاد لتتواءم مع الإستراتيجية الكبرى لمكافحة الفقر حتى نضطره إلى أضيق الطريق. ولو أمكننا ان نقتله لقتلناه. فقد قال عمر رضي الله عنه لو كان الفقر رجلاً لقتلته. غير أن الفقر ليس رجلاً ولكنه ناتج من عواقب أفعال الرجال. ولو أنا قتلنا الشح والأنانية لكان لنا على الفقر نصرٌ مبين «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق