يقلقني جدًا اتجاه المعارك إلى ساحة (الدين) ووضعه كفيصل ما بين الاجتهاد والإنكار بين الإيمان والكفر البواح، فلجوء الجماعات في معاركها إلى الدين حتمًا سيخضع لقانون الغالب والمغلوب وليس للدين فيه مصلحة، فقط تبقى السيوف مشرعة بين الجماعات كل يدعي إلمامه بالدين وكل جماعة قد شحذت (ألسنتها) وعبأت (كنانتها) حتى تدخل تلك المعترك ولو بأبسط الإيمان تكفير (الذنديق) مع رافعي ذلك السلاح أو إزاحة التهمة ورميها في وجوه من أطلقوا دعوى (الكفر) من الجماعة الأخرى، فتضيع بذلك الحقيقة وتنتشر الفتنة التي بتنا نخشى منها ويحل الخلاف محل التسامح، والتراشق بمعاني (الكفر) محل الاجتهاد المحمود الذي في الإصابة به مضاعفة الأجر وفي أخطاء هدفه يبقى الأجر (الوحيد). بتنا نخشى على واقعنا الفتنة الدينية وانتشار ثقافة (التكفير) الذي تغيب معه الحكمة في إطلاقه وانتشاره، فتسود الفتنة وتمشي بين العوام بقدميها فترتفع أصوات (الكثرة) الجاهلة وربما يجرفهم التيار (الغالب) بدعوته، فيتجرأون على (المجني عليه) ويبقى المجال مجال تلفيق وتشويش واتهام لا يجدي معها للتفنيد سبيلاً، فقط تبقى إلصاق التهمة واجب (شرعي) يقتضي الإشهار والإعلان، وياليت تلك التهمة تقتصر على شخص (الذنديق) المتهم بل تتعداه إلى علمه ومجهود سنينه، وهنا جوهر الفتنة يطل برأسه خصوصًا إذا كان (للمتهم) جماعة فيحصل الهرج والمرج وتتبادل الاتهامات ويكثر الطعن والتشكيك، وقد يؤدي ذلك إلى التشابك والحراب كل يظن أنه ينصر في مبدأه، فتضيع الحكمة وتتمايز الصفوف التي في سبيل نصرة (منهجها) قد تخرج من سماحة الدين إلى عرصات العصبية البغيضة. معارك (التكفير) في واقعنا قديمة كان مقدور عليها؛ ولكنها اليوم طفحت فلم يعد لها من رادع وفي غياب سلطة الردع تسود سلطة (الفتنة) التي أن لم تستأصل شفتها فقد تؤدي بمجتمعنا المتسامح إلى فضاءات العصبيات والانتماءات الضيقة التي يحسب بعضها أنها في رفع سلاح التكفير أنما يكون زيادة لها في صلاحها وتقواها؛ ولكن يتضح العكس بعد ذلك، حيث تثور الجماعات ويتمسك كل طرف برأيه واجتهاده وضاعت الحقيقة وسلاح (التكفير) المرفوع لابد أن يبوء به أحدهما، ولكن مع استيقاظ جحافل التعصب والانتماء تصير التهم وكأنها أقرب للكيد منه لنصرة الدين بعد أن خرج الأمر من إطاره الضيق إلى ألسنة العوام الذين باتوا ينظرون للصراع الدائر بين الطوائف الدينية على أنه صراع البحث عن الغالب والمغلوب، فالمجال أضحى مجال اتهامات تجاوزت (المحدود) إلى الصقيع والهواء الطلق. والبلاد كما أقول دائمًا بها مجلس للعلماء من شأنه أن يختص بإصدار الفتاوى واستتابة كل من ثبت لديه إنكارًا من الدين بالضرورة، فيستتاب وإلا ألحقت به تهمة الكفر البواح والذندقة (الفعلية)، والتي تبيح العقوبة إما بحديث الآحاد أو بعزله من الناس فيطلق زوجه ويحرم ميراثه ولا يجوز الأكل والشرب معه. هي في مجملها عقوبات يختص بها السلطان بعيدًا عن رفع الطوائف الدينية لها التي في سبيل غضبتها قد تغيب الحكمة وتسود التمايز الخبيث وتنقلب الصورة من حماية العقيدة إلى أشياء أخرى تغلب عليها درء المفسدة على جلب المصلحة. ومبادرة وزارة الإرشاد والأوقاف وإن جاءت متأخرة بعض الشيء إلا أنها أفضل من أن لا تدلي بدلوها في تلك المعضلة الخطيرة التي أخذت حيِّزها بين العوام وصارت كلمة (التكفير) على كل لسان ونصّب الكل نفسه مفتيًا يدمغ هذا بالضلال البين وذاك بالصلاح الواقعي وذاك بالاعتدال الوسطي، وذلك مبعث الخطورة في جعل تلك الألفاظ متاحة مباحة يسهل إطلاقها وقت اختلاف الأراء واحتدام النقاش وانتفاء الخيارات، فيعمد البعض للآخر ما يعتقد أنه سيزيد صلاحًا بدمغ الآخر به. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق