الثلاثاء، 31 يناير 2012

أدب الاختلاف في الإسلام


أدب الاختلاف في الإسلام
التيار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله القدوة الذي كان أنموذجاً يحتذى به في استيعاب الاختلاف وقبوله وحسن قيادته، وإدارته، وتحويله من ظاهرة فرقة إلى وسيلة قوة ووحدة وتكامل في الكسب. لقد عرف صلى الله عليه وسلم منازل صحابته رضوان الله عليهم وإمكاناتهم، فكانت المهمات التي يكلف بها متناسبة مع المواهب والمؤهلات، وكان من تعاليم النبوة إنزال الناس منازلهم. قَبِل بوجهات النظر المتعددة، وأقرها جميعاً مثل قوله لاصحابة لا يُصلّين أحدكم العصر إلاَّ في بني قريظة، فاختلفوا في فهمها وأقرهم جميعاً، طالما أنّها في إطار الفهم الصحيح، وحضهم على الاجتهاد، ورعى هذا الاجتهاد، ودرَّب عليه، بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه خاصة وأن ما أُنُزل عليه من القرآن الكريم حمَّال أوجه كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، ذلك أن هذه الأوجه سوف تثمر خلافاً وتنّوعاً، وفي ذلك إثراء للحياة العقلية وغنىٌ في الاجتهاد والنظر. والحقيقة أن اختلاف الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية ذلك لطبيعة نقص الإنسان وقصوره، فالاختلاف بين الأفراد أمر طبيعي بل إنه آية من آيات الله تعالى :" ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" وقال تعالى :" وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " وقال تعالى: " ولا يزالون مختلفين". ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الاختلاف بين أصحابه إلاَّ أنّه حذّرهم منه، لأنّه كان يُدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب التي التفت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه :"الخلاف شر". وعليه فإن سلف الأمة وجميع الأئمة لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضاً، وإنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق مقاصد الشرع، بما يتوصلون إليه من فهم الكتاب والسنة. وهذا ما أشار إليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين قال: " ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل يقول هذا ورجل يقول هذا كان في الأمر سعة"، وفي حالة وقوع الاختلاف بين السلف سارعوا إلى الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين، وكذلك كان التزامهم بآداب الإسلام: من انتقاء طيب الكَلِم، وتجنب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر. و الاختلاف الذي وقع بين السلف الصالح أفرز تلك الآداب،وهذا غيض من فيض من معالم أدب الاختلاف بين الصحابة في عهد الرسالة، ولنا أن نستنبط من اختلافهما آداباً تكون نبراساً في معالجة القضايا الخلافية. هنا تبرز القاعدة الأصولية " لا إنكار في مسائل الخلاف" والتي تعكس صورة من صور الانفتاح الفقهي المنضبط على آراء الآخرين واختلافاتهم، وتضبطها بالنصوص الشرعية والمقاصد العامة للتشريع، وتستوعبها ضمن الأخوة الإسلامية ووحدة جماعة المسلمين. وللإمام الشافعي رضي الله عنه في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الإخوة بحقوقها، أدب ونهج مستمد من نبع النبوة، ولذلك قال عنه تلميذه يونس الصوفي " ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال:" يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة " يا للعجب !!!، وقال أحد العلماء " ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة". ويقول الشاطبي رحمه الله " فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه المِلة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظَّار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول فلذلك لا يضرها هذا الاختلاف".وقال الزركشي: " اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلةً قاطعةً، بل جعلها ظنية قصداً للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصرون في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع". ولا شك أن الاختلاف في الفروع في حد ذاته لا ينتهض لإحداث الفرقة ما دام منضبطاً بميزان الشرع، وإنّما تتسبب الفرقة عند ضيق الصدر، واستحكام الهوى، والتعصب للرأي، ولنا الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في جداله مع المشركين قال تعالى: "... وإنّا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين". هذه غاية في النصفة والاعتدال والأدب في الجدال، أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: إن أحدنا لابد أن يكون على هدى، والآخر لابد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين على الإذعان والاستسلام، وأجدر بأن يثير التدبر الهادىء والاقتناع العميق، وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبّره من الدعاة. كما استوعب الفقة الإسلامي وجود الاختلاف، لأن كثيراً من النصوص " يحتمل التأويل ويُدْرَك قياساً" فذهاب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس اجتهادٌ يؤجر عليه ولو أخطأ، ما دام قد سلك سبيل الاجتهاد وإن خالفه فيه غيره. لذا يجب على المحاور أن يدرك أن العقل والمنطق، والواقع ينص على حتمية الاختلاف، وأن يدرك كذلك أن الغريب والمستجهن هو السعي لجعل النّاس صوراً متطابقةً لبعضهم بعضاً، والرغبة في صبهم ضمن منظومة فكرية واحدة، وثقافة آحادية، ومعتقد واحد، وهذا ما يتنافى مع السنن الإلهية لقوله تعالى :" ولو شاء ربك لجعل النّاس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين". وهذا ما يجعلنا نقرر: أن الاختلاف ظاهرة اجتماعية، وواقع لا مفر منه، لذا يجب تقبل وجوده، وعدم أخذه بعنف أو استفزاز، لأنه يدخل ضمن الحكمة الإلهية . وعليه فالقضية الأهم تبقى : كيف ندير الاختلاف، وكيف نتربى على قبوله، والإقرار بأنه حق إنساني، بل واجب إسلامي. كما أن أدب الاختلاف يعتبر من أرقى الآداب الإنسانية وأعلى مراتب الأخلاق، وأن الإنغلاق والتعصب مراهقة وطفولة بشرية. وإذا أحسنا إدارة الاختلاف، وتحلينا بأدابه، تحول إلى خلاف تنَّوع ، وتكامل، وتعاون، وأصبح علامة صحة وإثراء وإغناء للمسيرة، وإفادة من جميع العقول، لأن الحكمة ليست حكراً على شخص أو على أمة دون سواها، ولكنها ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، أما إذا فَشِلْنا في إدارة الخلاف، تحول إلى تضاد وتفرق، وأصبح خطراً ماحقاً على المسلمين. وفي الختام أقول:إن الإسلام وضع آداباً للاختلاف، والسلف الصالح تمسك بها حال وقوعهم فيه، مما أدى إلى وحدة الأمة ونهضتها وتطورها في كل المجالات،وإلى إشاعة القيم الفاضلة من حب، وإخاء، ومودة، واحترام. لذا يجب علينا جميعاً مذاهب وطوائف وأحزاباً أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ونحن في شهر مولده الكريم، وننبذ الاختلاف الضار الذي حذّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم لما يعلمه يقيناً بأنه سوف يؤدي إلى الفرقة ووهن الأمة وضعفها. وبالتالي يجب على العلماء في هذا الوقت العصيب، الانصراف عن القضايا الفرعية، لأن فقه الوقتيفرض علينا التوجه إلى معالجة أمات القضايا التي تهم المواطن، وكذلك الوطن الذي يتربص به أعداء العروبة والإسلام. ألا هل بلغت اللهم فاشهد. بقلم:الدكتور ابوعاقلة الترابي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق