الأحد، 29 يناير 2012

القضارف والمركز.. ذاكرة صومعة الغلال

القضارف والمركز.. ذاكرة صومعة الغلال
حسن محمد علي
أغمض المسؤول الأول بالولاية عينيه بصعوبة قبل أن يزيح الستارة الفاخرة من على مكتبه القابع ببناية الحكومة الفخمة للإنهاء مشهد مأساوي كان يتردد عليه كلما خلا مكتبه من ضجيج الزيارات واللقاءات اليومية، الوالي غفل راجعًا لمقعده الوثير واستعان ببعض جرعات المياه من القارورة التي كانت ملقاة على سطح منضدته مع قرارات سرية للغاية، تنهيدة والي القضارف كرم الله عباس الشيخ أعقبها تناوله لقلم وورقة من جهاز الفاكس المتعطل، الوالي يصدر قرارًا فجائيًا بتحويل مبنى أمانة حكومته لمستشفى، قبل أن ينادي الوالي على مدير مكتبه، كانت الحاجة بتول التي يلاصق منزلها المهترئ أمانة الحكومة قد دعت على أطفالها العائدين من المدارس، أغرقت الحاجة صحنًا كبيرًا توسط الأبناء الخمسة من بليلة ذرة (فتريتة)، حين تمت إذاعة خبر تحويل مبنى أمانة الحكومة السابق كان مشهد المرأة وصبيتها يتراءى أمام ناظري الوالي، بناية أمانة حكومة القضارف التي كلفت قرابة التسعة مليارات جنيه وتم تأثيثها عبر عطاء شهير من دولة الصين لم تعبر عن حالة الولاية التي كان يقتلها الإعسار والظمأ، أمانة المواطن أودعت في جبال أسمنتية تتوسط الأحياء الأكثر فقرًا في ولاية القضارف بحيث تبدو وكأنها تبرهن على مدى ابتعاد السلطة عن المواطن، واختيارها للقصور العاجية للبعد والنأي قدر الإمكان، مبنى الحكومة كان يعبّر عن تمدد الحكومة وانحسار المجتمع، فليس من المنطقي أن يجلس الوالي فقط على مبنى يكلف المليارات الكثيرة تلك ومشفى ولايته يغرق في مياه الصرف الصحي، كانت تلك أكبر الأخطاء التي من أجلها عجّلت الحكومة في اتخاذ قرارها ولم يعد ممكنًا أبدًا في ظل تدهور الأوضاع أن يرضى المواطن صاحب الحق دعك من المسؤول الذي تقع الأمانة على رأسه بهذا الواقع الغارق في التباين. الصمت لا يجدي: أراد والي القضارف وهو يجيب عن سؤال متنازع في وسط الرأي العام تتجدد أشكال ظهوره على السطح وتختفى تارة أخرى، أراد أن يتحصن بأكبر أفق له في الدبلوماسية في حوار مع الزميلة (الوطن) السؤال يتحدث عن انفلاته من سلطة المركز وباعتباره من الولاة الذين يتطلعون لأدوار أكثر نفاذًا لسلطتهم المبتسرة، وأن ولايته لاتجد حظها من الدعم الاتحادي إجابة الوالي بدأها من حزبه حيث قال: (إن المؤتمر الوطني حزب مؤسسي ولا يتعامل بهذا الأسلوب وإنما يدير الدولة بصورة علمية وموضوعية وفقًا لاحتياجات وتطلعات المواطنين)، وأضاف (رؤيتنا كحزب لما نريد أن يصبح عليه السودان)، فالتنمية لا تمنح بالاستلطاف، ونحن لسنا طلابًا في جامعة لنعامل بالاستلطاف؛ فالدولة لديها عدالة في توزيع الموارد ولكننا نعي أن البلاد تمرّ بإشكاليات، فنجد أن هنالك عملًا تنمويًا كبيرًا في دافور وجنوب كردفان ويخصص لهما دعم بصورة كبيرة وأخذوا أكبر من استحقاقاتهم ولا اعتراض من جانبنا للدعم الذي يقدّم لتلك الولايات حتى لا نهزم القضية الكلية للوطن، فإذا كان ثمن السلام في دارفور أن يأخذوا أكثر من استحقاقاتنا في التنمية فنحن راضون عن ذلك للحفاظ على وحدة هذا الوطن، وقضية أنني لا أجد قبولًا من المركز هذه شائعة سوق لها البعض لأغراض معلومة بالنسبة لنا وهذا حديث كذّبه الواقع)، ذلك الحبر دلقه الوالي بمعايير رؤيته القومية لقضايا البلاد وتقديمه لنموذج عملي وقناعة راكزة بضرورة حلحلة القضايا القومية التي تؤرق مضاجع البلاد ومن ثم الالتفات إلى القضايا الأخرى مثل التنمية والخدمات، فرؤية الوالي تلك كانت تنبع من فهم ووعي عميق بحيثيات الواقعات في البلاد لتحسين فرص الاستئثار بغنيمة الإياب من خلال الإجابة غير الواقعية ساعتها وهو يجلس على كرسي الرجل الأول في الولاية لمدة لم تتجاوز العام بعد، لكن يبدو أن تكتيك الوالي بدحرجة كرة السبت ليجد الأحد لم تكن هي الأجدى، ومرّ ذلك الحديث مرور الكرام فلم يظفر بتعليق ولم تتداوله أحاديث المدينة، بل ربما حسبه الرأي العام من باب التدجين لولاة الولايات، الآن يعاود كرم الله الشيخ بهجوم على المالية الاتحادية التي يعتقد أنه قد مدّ لها حبال الصبر فعادت الهجمات مرتدة إليه، وعلى الرغم من أن معظم الحديث الذي ألقاه كرم الله يحمل عنصر المفاجأة في التصريحات التي تصدر من ولاة الولايات إلا أن الأدلة التي قال بها كانت كفيلة لتبرير هجومه المتأخر، فضلًا عن أن المركز الذي يشتكي منه كرم الله قد تجاوز في حق ولاية القضارف التي تعتبر من الولايات ذات الوضعية الاستراتيجية بحكم إنتاجيتها وإسهامها في الدخل القومي عبر الإنتاج الزراعي والحيواني الذي عرفت واشتهرت به، لكن أيضًا وجد حديث الوالي سيلًا من الهجمات المضادة التي تعتبر أنه قد بالغ في صراحته وأن حديثه هو مجرد اعتمال لجرح قديم له مع المركز. الانتباهة: الآن انتبهت ولاية القضارف وهي على حافة انهيار ممارسة امتدت منذ سني الإنقاذ الأولى تعرض فيها حكم الولاية للكثير من التشوهات أصبحت تطفح على السطح دائمًا، وعلى الرغم من أن الولاية التي تعتبر من أكثر ولايات البلاد تأهيلًا من الناحية الإثنية في ترابطها وانصهار مجتمعها إلا أن يد السياسة تدخلت كثيرًا، وينشغل معظم مواطني الولاية بالزراعة فيما تنحصر العملية السياسية في فئة قليلة، وهي خاصية استطاعت عبرها الولاية من تقديم نموذج إنتاجي لصالح الدخل العام كما ظلت في كثير من الأحيان مصدر إغاثة دائمة لمعظم الفجوات التي تحدث في أنحاء السودان المختلفة، بيد أن كل تلك المميزات لم تغفر للقضارف في ردّ حقوقها الأساسية التي تتمتع بها الولايات، الآن بات من الظاهر أن معايير قسمة الثروة لصالح الولايات لا يرضي قادة الحكم بالولاية، ويقول والي القضارف كرم الله عباس الشيخ: إن ولاية القضارف لم تتحصل منذ أعوام على نصيبها من التنمية على الرغم من المحفزات الكبيرة التي دفعت بها الولاية في سبيل إقناع المركز ومن ضمنها سياسة تقليل الصرف والإنفاق ومحاصرة الفساد واختيار حكومة متقشفة وقليلة العدد وتطبيقات حرفية لكل قوانين الصرف المالي والتزام قاطع بها، كما أن الولاية وطوال الفترة المنصرمة التي مارست فيها مهامها لقرابة العامين ظلّت تعمل بميزانية محكمة وموجهة نحو تنمية الريف في غالبها، ويرى والي القضارف أن الدعم لو تدفق لصالح ولايته كان من الممكن الآن الوصول إلى مشروعات ضخمة لإنعاش الريف بصورة أكبر مما تم فيه الآن بجانب عدد من المشروعات التي تمت بلا ضجيج، ويرى الوالي في أحاديثه الأخيرة لجماهير وشباب مدينة القضارف أن الولاية لن تسكت بعد الآن من الجهر بالمطالبة بحقوقها، بل أكد الوالي في حديثه مقاضاة وزارة المالية الاتحادية قبل أن يتهمها بتوزيع الموارد على أساس جهوي، وقدّر والي القضارف استحقاقات الولاية بحوالي (20) مليار سنويًا لم تقم بدفعها المالية الاتحادية معايير مختلة: ويقول الصحفي والمحلل السياسي محمد سلمان المبارك: إن والي القضارف كرم الله عباس الشيخ لم يكن سوى واحدًا من أهل القضارف يأكل طعامها ويشرب شرابها ويمشي في أسواقها ويشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، ويمضي أن بساطة الرجل تتبدى في مسلكه وهيئته، ويعتبره المبارك من أصحاب الشفافية المطلقة، ويرى الصحفي سلمان أن هنالك اختلالًا واضحًا يدركه المقربون من صنع القرار حيث إن الإيرادات العامة للدولة لا تتم عملية توزيعها في وزارة المالية بصورة عادلة، ويردف " ليس ولايات دارفور فقط هي التي تحوز على الجزء الأعظم من الإيرادات" ويقول صحيح: إن نصيبها هو الأكبر لكن أيضًا نجد أن معظم الولايات قد حازت على نصيبها من التنمية الاتحادية بشقيها المخصص وغير المخصص، ويعتقد المبارك أن بعض الولايات صاحبة الصوت العالي أصبحت الآن تبحث في قضايا أخرى كمتأخرات العاملين، فالحكومة الاتحادية قد دفعت المقدم لمشروع مياه البحر الأحمر البالغ (47) مليار جنيه في حين أنها تلكأت في مشروع مياه القضارف إلى أن تم تمويله عبر قرض بنكي وتدخل مباشر من رئيس الجمهورية، ويرى سلمان أن التجاهل المستمر لوزارة المالية الاتحادية ليس له مبرر، فوزير المالية الاتحادي عزا في تصريحات صحفية ضعف التنمية بجنوب دارفور للصرف البذخي على الدستوريين بالحكومة والبالغ عددهم (92) دستوريًا حسب التصريح الصحفي للوزير بجانب جيش جرار من الموظفين بلا مهام، ويمضي المبارك في حديثه بالقول: "لكن القضارف الولاية الوحيدة التي التزمت بتخفيض مخصصات الدستوريين وترشيد الإنفاق على المال العام وإحكام الرقابة عليه؛ "لكنه يؤكد مع كل ذلك أن المالية الاتحادية لم تلتزم رغم تطبيقات توجيهاتها، وفي النهاية يرى المبارك أن مطالب كرم الله مطالب عادلة ومشروعة وهي لا تخصّ الوالي في شخصه وإنما مرتبطة بقضايا عاجلة ومشروعات واجبة التنفيذ تخصّ أهل القضارف تلك الولاية المعطاءة وصومعة الغلال التي يلجأ إليها السودان في الملمات، ويختم المبارك حديثه "أن الحفاظ على عطاء هذه الصومعة هو حفاظ على الوجود التاريخي والإنساني للمنطقة ولعموم السودان" وهي ماتزال ولاية مؤهلة لتتبوأ الصدارة في الإنتاج الآن بشقيه الزراعي والحيواني ومعالجة الاختلالات الاقتصادية التي خلفها خروج البترول من الموازنة العامة. في الانتظار: وتتوقع الأوساط أن تنفرج الأزمة بين وزارة المالية وولاية القضارف حال ابتدرت الأولى وقامت بدفع أو جدولة استحقاقات الولاية، فيما يؤيد البعض خطوات الوالي التصعيدية للظفر بحقوق الولاية باتجاهه للقانون، ويقول الأستاذ شريف إسماعيل محمد أستاذ الاقتصاد بجامعة القضارف: إن مطالبات والي القضارف تأتي في إطار التحويلات المالية المركزية للولايات، ويضيف أن ولاية القضارف من الولايات التي تستحق وهي في الأصل حقوق باعتبار أن الحكومة المركزية تقوم باقتسام بعض الإيرادات الولائية مثل نسبة من القيمة المضافة (40%) وضرائب أرباح الأعمال وجزء من الضرائب المباشرة، وفيما يرى شريف أن هذه القسمة تحكمها ضوابط ومعايير متفق عليها مثل حجم السكان والبنى التحتية ومؤشرات التنمية البشرية مثل الصحة والتعليم، يؤكد أن ولاية القضارف مستحقة وفقًا لهذه المعايير، بل يؤكد أن الولاية تستحق تحويلات أكثر مما هي عليه الآن، وحول النزاع بين الولاية ووزارة المالية الاتحادية يوضح أستاذ الاقتصاد "يمكن الاحتكام إلى مفوضية تخصيص الإيرادات القومية ومراجعة هذه المعايير وبإعمال الشفافية حتى تعرف كل ولاية نصيبها وتأخذه بالقانون، ويشير إلى أن عدم التزام المالية الاتحادية بهذه التحويلات يؤثر تأثيرًا مباشرًا على جميع فصول الميزانية الولائية مثل تأخر الأجور وتأثر التنمية مما يقود إلى مشكلات سياسية مثل تذمر المواطنين، ويؤكد أن أهمية تلك التحويلات تكمن في عدم وجود مصادر دخل أخرى للولاية؛ لأن الحكومة الاتحادية تُقاسمها في الإيرادات الكبيرة وتترك الرسوم الصغيرة التي يعتبر أمر جبايتها من المشكلات مع صغار المنتجين، ودعا شريف لتكوين جهاز مستقل لديه التفويض للفصل بين النزاعات حتى لا تخضع المشكلات لجوانب الرضا والرفض، ويؤيد أستاذ شريف حديث الوالي بقوله "الواقع الذي تعيشه الولاية يؤيد ماذهب إليه الوالي وأعتقد أن الولاية تستحق أكثر بحكم المعايير المذكورة ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق