نحن المايويين الأقدر على إحداث التغيير |
التيار |
لذنا بالصمت زمنا طويلاً بعد (انتكاسة) أبريل 1985، كنّا نعرف أنها انتكاسة لأن الذي سوف يخلفنا على سدّة الحكم مجموعة أحزاب يرتكر مبناها على الدين، الطائفة، القبلية، العرق، أو الجهوية، تفتقر جميعها إلى الفكر والمنهجية، حريّ بأي واحد منها أن تبذر بذور الشقاق والفتنة بين أبناء الشعب الواحد وتسهم في تفتيت العضد وتقطيع البلد. في النصف الثاني من الثمانينيات كان الاتحاد الاشتراكي السوداني، التنظيم الحاكم، ضعيفاً ومهترئاً وذلك بسبب الصراعات داخل الحزب وافتقاره العناصر القوية الصلبة بعد أن أقصى رئيسه رفاقه الذين فجروا معه الثورة (أبو القاسم محمد إبراهيم، خالد حسن عباس، مأمون عرض أبو زيد، زين العابدين محمد أحمد، عبد القادر) وبعض من معاونيه الآخرين الذين عرفوا برجاحة الفكر والثبات على المبدأ على رأسهم السيد بدر الدين سليمان الذي آثر الصمت والتزم السكون. استبدل السيد الرئيس القائد هؤلاء النفر بعناصر ضعيفة باهتة المواقف فشلت بسبب الطبيعة الرخوة أن تصمد في نهاية المطاف أمام المؤامرات والدسائس التي كانت تحكيها قوى الظلام والتي ما كان لها أن تحدث أثراً ذا بال لو كان رأس النظام موجوداً داخل البلاد أو إذا ما كان رفاقه ومعاونوه الذين مشوا معه درب النضال خطى بخطى في موقع القرار والحسم. كان الموقف في بداية أبريل 1985 عصيباً، الهتافات الغوغائية تملأ الشوارع في الخرطوم وأم درمان وبحري. الكبار المخدوعون كانوا يرددون "لن ترتاح ياسفاح" دون أن يعلموا من هو المسفوح وصبية الأزقة يرددن "يا بثينة حمارك عينة" دون أن يعرفوا من هي بثينة. كان المغفلون النافعون من الكبار والصبية مطية لأناس آخرين ظلوا قابعين وراء الكواليس والجدران في انتظار ما تسفر عنه تلك الغواغائيات، فإن هي أصابت نجاحاً لبسوا عباءاتهم وخرجوا للأضواء وإن هي أخفقت فلا أثر لهم في مسرح الأحداث. انتاب الخوف حتى بعضاً من الانتهازيين النفعيين الذين كانوا محسوبين على النظام وكتبوا ما كتبوا على الصحف وهم يدركون جيداً أن ما كتبوا ما هو إلا (صكّ غفران) يقدمونه إلى القادمين الجدد. وجد الجنوبيون متنفساً لهم في تلك الأحداث فالتحقت جموعهم بالمتظاهرين الآخرين بدافع ما لحق بهم من غبن كان سببه القرار الجمهوري رقم السنة 1983 الذي ألغى اتفاقية أديس أبابا العام 1972 وقسم الإقليم الجنوبي مرة أخرى إلى ثلاثة أقاليم وفرض اللغة العربية لغة وحيدة في البلاد بدلاً عن اللهجات المحلية واللغة الإنجليزية. لم يقتصر الوهن والضعف على الاتحاد الاشتراكي وحده، بل تعداه إلى روافده من تنظيمات الشباب والنساء. كان اتحاد شباب السودان الأقوى صوتاً في رفض مصالحة الأحزاب واعتبروها ردّة وانقلاباً على مبادئ الثورة والرجوع بالبلاد مجدداً إلى الطائفية والجهوية والانقسام الديني والتشرذم العرقي. وجدت القوى الإمبرالية العالمية ضالتها في ذلك الزخم الفوضوي وبدأت تزكّي أوار الصراع وعناصر الضعف وتصبّ الزيت على النار؛ لعل ذلك يكون نهاية الدولة الذي أسس لها النظام الحاكم بأسلمة القوانين في سبتمبر 1983. خافت القوى الإمبريالية ومن ورائها المؤسسات الكنيسية الأوروبية أن يستفيد (إمام المسلمين) من البترول المكتشف في جنوب غرب البلاد ويتجه بالبلاد ومعها دول وسط وشرق إفريقيا في مسار ديني ربما ينجح ويؤتي أكله بالتفاعل مع المكتسبات من المدارس الفكرية اللبيرالية الاشتراكية الحديثة. اختارت القوى الإمبريالية الحركة الشعبية لتحرير السودان لتصبح رأس الرمح لإسقاط النظام المايوي وتدفق المال والسلاح إلى العمق الإفريقي، ووجدت الأحزاب نفسها مجبرة أن تقتفي خطى التآمر.بعد سقوط مايو كنّا ندرك جيداً أن مجرد وصول الأحزاب إلى سدّة الحكم سوف يستبين الشعب حقيقة المآل ويتجرع كأس المرِّ؛ لذلك لم يكن لنا خيار سوى أن نلوذ بالصمت في وهدة الليل حتى يبزغ الفجر وتسطع الشمس في فترة صمتنا، تخبطت الأحزاب والحكومة الانتقالية في قيادة البلاد، لم نلجأ إلى الأسلوب الذي لجأ إليه الإسلاميون إبان فترة حكمنا بإغراق السوق بالأوراق المالية المزيفة وشراء الدولار والريال في قارعة الطريق وردم النيل بالقمح لخلخلة الاقتصاد وتجويع الناس. لم تنجح الحكومة ولا الأحزاب في إدارة الحوار مع الحركة الشعبية ووجد التجمع الوطني للنقابات نفسه مطراً ليحلّ محل الحكومة في التفاوض. وافق رئيس الحكومة الانتقالية على الشروط التي فرضتها الحركة الشعبية لقيام المؤتمر الدستوري وكان من أهم تلك الشروط مناقشة الحكم في كل السودان وليس مناقشة مشكلة الجنوب وحدها وتجميد الشريعة الإسلامية وإلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك مع مصر وليبيا. خرج المايويون من صمتهم حينما استفحل الأمر وكاد أن يبلغ السيل الزبي. انبرت الكثير من الأقلام المايوية تكتب في الصحف معترضة على الشروط التي اقترحتها الحركة الشعبية لقيام المؤتمر الدستوري. خاف رئيس حزب الأمة على موقفه التفاوضي وأبدى موقفاً متشدداً تجاه المايويين وطالب جمهورية مصر بتسليمه جعفر نميري بإرسال وفد ترأسه النائب العام وبدأ في الحال تنفيذ برنامج أطلق عليه (كنس آثار مايو) انشغل رئيس الحكومة الانتقالية بقضايا انصرافية أراد أن يلهي بها المواطن السوداني ويصرفه عن مسائل تُعنى بمصير البلاد. تريث رئيس الحكومة قليلاً في تنفيذ برنامجه (الكنسي) بعد أن انتقدته بشدة شعبة التاريخ بجامعة الخرطوم باعبتاره برنامجاً لمحو التاريخ وتوقف عنه تماماً حينما عرف أن هنالك محاولات لانقلاب عسكري يقوده ضباط أبناء الجنوب والنوبة. سلسلة من الأحداث السياسية تعاقبت أكدت سلامة فكر المايويين في رفضهم لأشكال الحكم التقليدي القديم. بدأ التناصر الحزبي يأخذ شكلاً ماثلاً للعيان ظهر جلياً حينما رفضت الجبهة الإسلامية الاشتراك في المؤتمر الذي عقده التجمع الوطني في ود مدني في ديسمبر ؛1985 وبذلك لم توقع الجبهة الإسلامية على ميثاق حماية الديمقراطية وهي كانت أول إشارة للإسلاميين تسفر عن نيتهم الانقضاض على الديمقراطية عسكرياً. من جانبه رفض الحزب الاتحادي الديمقراطي مناقشة القوانين الشرعية خوفاً من غضبة الشارع، وطالب بإرجاء الملف إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري.كان واضحاً أن كل حزب من الأحزاب المجتمعة وغير المجتمعة إنما كان يخدم أجندته الحزبية الخاصة به، ويكيد للآخرين للوصول إلى السلطة بأي أسلوب مهما كانت التكلفة.بدأ المواطن السوداني يراقب أداء الأحزاب مقارنة بالأداء السياسي والإداري أيام الحكم المايوي ولأول مرة أصبحت هنالك مرجعية في ذهن المواطنين لإدراك طهر الحكم. أول حزب فقد البوصلة السياسية كان الحزب الاتحادي، فبعد أن رفض مناقشة قوانين الشريعة في مؤتمر ود مدني نكص رئيسه على عقبيه ووافق على مقررات كوكادام وأهم ما ورد فيها إلغاء القوانين الشرعية.في لقائه بدكتور قرنق في 16 نوفمبر 1988 وقّع السيد محمد عثمان الميرغني على "المبادرة السودانية" لتجميد الشريعة وتكوين لجنة للإعداد للمؤتمر الدستوري الذي تقرر أن يعقد في 13/12/1988 في الحال رفض حزب الأمة والجبهة الإسلامية المبادرة ورفض السيد الصادق المهدي إيداع ملف المبادرة لدى البرلمان للنظر فيه. في زخم هذا الانشقاق صدحت الإذاعة السودانية بالمارشات العسكرية في اليوم الأخير من يونيو 1989 وأعلن العميد البشير انقلابه العسكري الذي أنتجته وأخرجته الجبهة الإسلامية. ظناً منه أن الانقلاب انقلاب وطني قومي بارك الرئيس النميري الانقلاب من بعد وطلب من الرئيس المصري الترويج له في الدول العربية. استبشر المايويون في الداخل بهذا الانقلاب واعتبروه امتداداً فكرياً لمايو وإن اختلف في الشكل خاصة بعد إطلاق الزبير محمد صالح من السجن وتعيينه نائباً للرئيس، وقد سبق أن قاد انقلاباً فاشلاً للمايويين سبق انقلاب يونيو 1989 بفترة وجيزة.وجد المايويون ضالتهم للثأر من القوى الرجعية التي عملت جاهدة لإقصاء رموز مايو حتى من العمل الوظيفي، وانضم بعضهم عن طواعية واقتناع لدعم أركان الانقلاب، ووقف بعضهم متحفظاً حتى يفصح الانقلاب عن هويته السياسية.لقد سبق أن تنبأ الرشيد الطاهر بكر وهو في المعتقل عن انقلاب عسكري تخطط له الجبهة الإسلامية الأمر الذي جعل بعض القيادات المايوية أن تعزف عن المشاركة على رأسهم دكتور يوسف بشارة وآمال عباس العجب. كلا الفريقين المؤيدين والمعارضين بالرغم من اختلافهما في تقييم هوية الانقلاب إلا أنهما كانا على اتقاف تام أن قوى المعارضة سوف تحشد مؤيديها ومناصريها غرباً وشرقاً لوأد المولود الجديد لدفع عجلة التاريخ إلى الوراء؛ لذلك وقف الطرفان على بعد واحد من المعارضة بالداخل والخارج، لم يشترك أي منهم فيما عرف بالتجمع الوطني في قلب السودان أو في تخومه على الحدود مع دول الجوار، لم يسجلوا أي حضور في أي حوارات أو مؤتمرات أو ندوات، ولم يحملوا سلاحاً في وجه القوات السودانية المسلحة. كانت نبرتهم أكثر حدة وشراسة في انتقادهم لمقررات مؤتمر أسمرا الذي عقد في 1995 الذي شاركت فيه كل الأحزاب السودانية ومنظمات المجتمع المدني، كانت مقررات المؤتمر ستظل وصمة عار في جبين القوى الرجعية حيث طرح ولأول مرة تحت تأثير الحركة الشعبية والقوى الإمبريالية العالمية حق تقرير المصير لجنوب السودان وكانت الخطوة الأولى لفصل الجنوب والبذرة التي رعتها وسقتها أخطاء النظام الجديد.في وقت وجيز بدأت خطوات المايويين تبتعد عن النظام الحاكم الذي ألبس الحرب الأهلية لباساً دينياً جهادياً، ودعا الرئيس البشير الرئيس الأمريكي جيمي كارتر لتلعب الحكومة الأمريكية دوراً هاماً في حلّ مشكلة الجنوب في 1990.بالنسبة للمايويين كان ذلك بداية تدويل مشكلة الجنوب وفتح شهية دول الاستكبار للتدخل في شؤون البلاد، فهم مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية هيرمان كوهين (اليهودي الأصل)، إن الحكومة السودانية بدعوتها تلك إنما ترغب في فصل الجنوب عزز ذلك رئيس وفد الحكومة السودانية في المفاوضات السيد محمد الأمين خليفة بإشارات من طرف خفي تارة وصريح تارة إلى الإدارة الأمريكية أن تنحى هذا المنحى. اتسع ماعون التدويل بمبادرة الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا ومبادرة دول الإيقاد والمباردة المصرية الليبية المشتركة ومنظمات مدنية في أمريكا ودول الغرب لم تلقَ كل تلك المباردات أي نجاح يذكر فقد ظلت القوى الحزبية المعارضة تحشد العصا في كل دواليب المبادرات حتى ضاقت الحكومة ذرعاً وأصبحت من جانبها تسوق وتروّج مقترح تقرير المصير. في كثير من المذكرات والمقالات تناول بعض الكُتّاب المايويين مقررات مؤتمر القضايا المصيرية مذكرين بخطورة الوضع في حال انفصال الجنوب وكيف أن الشمال سيفقد كثيراً من موارده الزارعية والرعوية والنفطية وستخضع اتفاقية مياه النيل وأمن البلاد كله للمساومات الإفريقية والدولية. كعادتها لم تُعر الحكومة اهتماماً وواصلت مشيها في الاتجاه المحفوف بالمخاطر مدعومة بصحافة محسوبة للنظام إلى أن انفصل الجنوب وراح معه الأمن والاستقرار. نحن المايويين لازلنا في موقفنا الثابت الرافض لكل مظاهر وأشكال الطائفية والعرقية والجهوية يقيناً منا أن ذلك سوف يؤدي إلى مزيد من التمزق والتفتت، ولقد صدقت الحرب التي امتدت إلى كرفان والنيل الازرق يقيننا. إن القوى المايوية مطلوب منها الآن أكثر من أي وقت مضى أن توحد صفوفها وتنسق خطاها وتنفض عنها غبار السكون لتقف بقوة وصلابة ضد الأخطار التي تهدد وحدة الأرض وأمن المواطنين. لقد فشلت الأحزاب الطائفية والعرقية في تحريك الشارع السوداني وإحداث التغيير بالرغم من أن النظام الحالي في أضعف حالاته.لم يبقَ هنالك خيار سوى أن يتصدى المايويون مجدداً للعمل العام وقيادة الشارع وإحداث التغيير بإرادة الله وتصميم وعزم الشعب. بقلم الطيب الصاوي |
الأحد، 29 يناير 2012
نحن المايويين الأقدر على إحداث التغيير
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق