الأحد، 29 يناير 2012

حماقة نظامين


لم أر نظامين أحمقين يُوردان شعبيهما موارد التهلكة، مثل نظامى الإنقاذ فى شمال السودان والحركة الشعبية فى جنوب السودان، ولعل الوصف الملائم لهما هو أنهما قد فقدا البوصلة وأدمنا التوهان وفشلا فى إدارة الملفات العالقة بينهما التى يكمن أمر تجاوزها بعد الانفصال في الاستبشار بسلامٍ ينعم فى ظلاله الشعبان اللذان ذاقا مرارة الحرب وقسوتها على مدى نصف قرنٍ من الزمان، التقلبات السياسية وتباين المواقف هى سنة كونية فى حياة البشرية قاطبة، فلماذا نُحيلها إلى عداء سرمدي يدفع ثمنه أُناس أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم وقعوا أسرى لدى أنظمة حكم قابضة ومهيمنة تتفنن في ابتكار الأزمات وخلق الفتن وإشاعة الكراهية، والآن ليست هناك قضية سياسية بين الشمال والجنوب، فالقضية المنطقية التى اندلعت بسببها الحرب وتحمل السودانيون أوضارها فى صبرٍ وجلد قد انتهت بانفصال الجنوب واستئثاره بحكم دولته، فماذا بعد؟ وأي حربٍ أُخرى ستندلع لا تخرج عن كونها مجرد عته وغباء سياسى لا أكثر ولا أقل.
إن ما يدور هذه الأيام من صراع حول النفط غير مبرر وفيه إصرار على اختلاق الأعذار من أجل شن حربٍ جديدة قد لا تُبقي ولا تذر، ويشير إلى أن القضايا العالقة بين الدولتين المنفصلتين ستهدد الحياة فى السودان بأسره من جديد، شماله القديم وجنوبه المنفصل، وأن الأمل فى سلام واستقرارٍ كان يلوح فى الأفق أصبح مجرد أضغاث أحلام لشعب ملَّ الحروب وتاق إلى الانعتاق من أسرها والتشوُّف لمستقبلٍ زاهر بعد طول عناء وكثير مكابدة، لقد عصف الطرفان الباغيان بكل شيءٍ جميل، فبدلاً من أن يزرعا الأمل ويقودا شعبيهما إلى مرافئ الرفاهية، أضحيا عقبةً كؤوداً فى سبيل تحقيق ذلك الهدف الذى طال انتظارهما له.
ونتيجة لحرب الحماقة هذه، أصر النظام في الخرطوم على انتزاع تكلفة إيجار عبور نفط الجنوب باحتجاز جزءٍ منه ليجيء رد حكومة الجنوب قاضياً بايقاف تصدير النفط عبر الشمال، ليتطور الأمر إلى إيقاف كافة أشكال الأنشطة التجارية بين الجنوب والشمال ليتضرر مواطنو الطرفين الذين يعتمدون على أسواق الجنوب والشمال، وتُهدر فرص اقتصادية كبيرة تُقدر بمليارات من الدولارات فى كافة القطاعات المنتجة، وتقل موارد الطرفين من العوائد الجمركية، وتتناقص الفرص الاستثمارية ويزيد الإحباط فى المناطق الحدودية، وبذا ستتولد بيئة صالحة للحرب والتهريب والأعمال الإجرامية والانتقامية، وهو محصول يلائم غرس أكثر نظامين متهورين أحمقين ابتلى الله بهما السودان الكبير.
كل الأمراض تجد العلاج إلا الحماقة أعيت من يداويها، وكل الأزمات يمكن حلها إلا الأزمات التى تصدر عن صدورٍ مغلولة وأحقاد مختبئة فى الأفئدة، فالحرب الاقتصادية الناشبة الآن بين الغريمين اللدودين لا علاقة لها من بعيد أو قريب بقضايا النفط، وإنما النفط هو المجال الذى يُنفِّسان فيه أحقادهما الدفينة وكرههما المتبادل الذى يصدر عن مقتٍ مشتركٍ لا علاقة له بمصالح الشعبين المغلوب على أمرهما.
لماذا لا يتعلم النظامان من تجارب الآخرين التي هي مبذولة لمن يرغب فى الاستزادة والتعلم وأخذ العبر؟ لماذا يقع شعبان ضحية لأحقاد شخصية بين حكامه الذين حتى الأمس القريب كانوا يحكمونه من سدة حكومةٍ واحدة؟ وما العسير فى تهيئة قطاع النفط وتعزيز مبدأ التعاون الاقتصادى بينهما حتى تعم الفائدة والمنفعة ومن ثم الرفاهية فى البلدين؟ هناك تجارب كثيرة فى هذا العالم لدول وحكومات تصطرع وتختلف ولكن لا توقف المفاوضات بينها وتتلمس مواطن الحلول لما ظلت تختلف حوله، بل ولا تستغني عن بعضها فى التعامل الاقتصادي، ودوننا الحرب الإسرائيلية ــ الفلسطينية، ففى الوقت الذى يعيش فيه الطرفان عداءً سرمديا، اقتضت الحاجة والضرورة أن يدخل العمال الفلسطينيون إلى داخل إسرائيل للعمل فى المصانع الإسرائيلية رغم العنت الذي يلاقونه يومياً فى بوابات العبور للدخول والخروج إلى ومن إسرائيل، فإسرائيل تحتاج إلى العمالة الفلسطينية لتدور عجلة المصانع بها، والفلسطينيون يحتاجون إلى العمل لسد احتياجاتهم الحياتية.. بل لم يقف التفاوض بين الطرفين حتى فى أشد ساعات صراعهما احتداماً، ففي حرب غزة الأخيرة التى كانت إسرائيل تُمطر فيها القطاع بالقنابل الفسفورية والمحرمة دولياً وتقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كانت المفاوضات تدور بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني في القاهرة.
لقد علق أحد الصحافيين الأجانب وهو يحدثني قبل انفصال الجنوب، قائلاً لى السودانيون منشغلون يتنازعون في تبعية منطقة أبيي والآخرون يسرقون نفطهم، وهى ملاحظة ساخرة تؤكد حقيقة فداحة خسارتنا في حكامنا الذين يتهيأون الآن إلى شن حرب بسوسٍ أُخرى فى الألفية الجديدة، ويشيعون الإحباط فى النفوس، ويقتلون أى أمل فى تحقيق الاستقرار والسلام بين شطري البلاد وتبادل المنافع والمصالح، بدلاً من إثارة الكراهية والحروب، كأنهم لم يتعلموا من تجربة الحرب المريرة التى دارت رحاها لأكثر من خمسين عاماً.
ووضح بما لا يدع مجالاً للشك أن السودانين «الشمالي والجنوبي» سوف لن ينعما بأية فرص للحياة الآمنة والمستقرة والمتطورة طالما بقي هذان النظامان في سدة الحكم فى الشمال والجنوب، ونجزم أن النظام الذى تصاغر وأدمن إثارة المعارك فى غير معترك لن يتخلى عن عادته هذه، ولا يستطيع أن يحكم إلا في مثل هذه الأجواء التى تسود فيها البغضاء والكراهية الشخصية، والحل يكمن فى ذهاب النظامين أحدهما أو كلاهما لتستقر الأوضاع ويستمر تدفق وتبادل المصالح بسلاسة بين شعبين كانا فى الأصل شعباً واحداً، أما في حال بقائهما فإن الأوضاع ستزداد تعقيداً غير مسبوق خاصةً فى ظل وجود قضايا أُخرى عالقة شديدة التعقيد غير النفط، بل هى أخطر منه مثل قضية أبيي المعقدة بشقيها «المسيرى والدينكاوي» والتى يزخر باطن أرضها بالنفط الذي يدعيان اليوم أنهما يصطرعان حوله.
نسأل الله أن يُقيل عثرة الشعب السوداني بذهابهما معاً وإلى غير رجعة، وينعم عليه بنظامين آخرين يخلوان من الأمراض السياسية النفسية، نظامين يفرقان بين الشأن العام والمزاج الشخصي، يُغلِّبان مصلحة شعبيهما على أمزجتهما الشخصية، وهذا لن يحدث إلا بافتراع نظام للحكم تُفرزه ممارسة ديمقراطية حقيقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق