التكفير – آفة الزمان (1): د. أمين حسن عمر
بيان الرابطة الشرعية وردود هيئة الأنصار وأمامها على البيان يثيران قضية مهمة للغاية لا ينبغي أن تضيع في مزدحم الأحداث. وهي قضية تكفير المسلم وضوابطها الشرعية والقانونية. ولعله ليس في صلب الموضوع المثار التحدث عن مخالفتنا لبعض ما ذهب إليه السيد الصادق المهدى أمام الأنصار. وبخاصة مسألة اصطفاف صفوف النساء بمحاذاة صفوف الرجال، فهذا الاجتهاد مخالف لصحيح وصريح النصوص المعلومة للكافة. وليس في اصطفاف النساء بموازاة صفوف الرجال أية ميزة للنساء. ولا اصطفاف الرجال أمامهن ميزة للرجال، وإنما هو أمر اقتضته الظروف العملية والأعراف المرعية. كما اقتضت هذه الظروف تقدم الإمام على الصفوف ليس لأنه أفضل ممن يقف خلفه. ولكنه أإنما تقدم ليُشاهد وليأتم به المأمومون. وتأخرت صفوف النساء كيلا يشاهدن فيشغلن ألباب ضعاف النفوس بمشهدهن عن الصلاة، وليس في هذا منقصة لكرامتهن بحال من الأحوال. ثم أن النساء لسن بملزمات بالصلاة في جماعة مع الرجال. وصلاتهن في بُيوتهن «لأسباب عملية أيضاً» مأجورة مثل صلاة الرجال حيث يُنادى بالصلاة، وإنما الأعمال بالنية الصالحة والموافقة للمراد الإلهي من التكليف.
بيد أن لب الموضوع هو مسألة ذهاب البعض لتكفير المسلم لخطأ في الاجتهاد أو ذنب صُغر أم كبُر. وقد ذهب السواد الأعظم من أهل العلم في الإسلام للقول بعدم جواز ذلك استناداً إلى نصوص صحيحة وصريحة لا يجوز لأحدٍ مخالفتها. فلئن أجاز بعض هؤلاء لأنفسهم تكفير من يرون أنه خالف الصحيح الصريح من المنقول، فإنهم بمخالفتهم لصريح وصحيح النصوص التي تنهى عن تكفير المسلم بالخطأ أو بالذنوب ولو كانت كبيرة فإنهم يقعون في المحظور. ويحيق بهم ذات الفقه الذي استحسنوه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قال المسلم لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما» أخرجه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته». وعلى هؤلاء المكفرين أن يقرأوا في القرآن «والذين يؤذون المؤمنين بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً» . وهل ثمة أذى أكثر من رمي المؤمن صحيح الإيمان بالكفر. وقد ورد في صحيح البخاري «من حلف بغير ملة الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عُذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله». فرمي المسلم بالكفر كقتله. ولأن التكفير تترتب عليه مآلات خطيرة أولها أنه يُفرق بينه وبين زوجه التي لا تحل له بالكفر. لأن المسلمة لا تحل للكافر، كذلك فإن قوامته على عياله وأولاده تنتفي لأنه لا يؤتمن عليهم. ويُخشى أن يؤثر عليهم بكفره. ولذلك إذا حكم على المسلم بالكفر انقطعت ولايته على أبنائه ودخلوا في ولاية أقرب ولي، وأخطر من ذلك كله أن المسلم الكافر يُعتبر مرتداً. ورأي الجمهور في المرتد الذكر أنه يقتل بعد استتابته إن لم يتب. وأنه إذا مات أو قُتل لن يُصلى عليه ولن يُدفن في مدافن المسلمين. فأي أذى وأي خطر وأي ظلم عظيم هذا الذي يحيق بالمبهوت بالكفر. وأي بهتان عظيم أكبر من البهتان بالتكفير.
التكفير حكم شرعي
والتكفير حكم شرعي لا تجب الاستهانة به. وهو يستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية. فينطلق من منطلقاتها وينضبط بقواعدها وضوابطها. ويهدف إلى تحقيق مقاصدها. وهو حق لله وحده وليس لأحدٍ من عباده له فيه حق. ولذلك فإن الحكم بالتكفير لا يجب أن يتأسس على الهوى أو السخط أو المخالفة. وإنما بالدليل الشرعي القطعي. والعلماء الراسخون لا يكفرون مخالفيهم لمجرد المخالفة. وإنما اذا اعتقدوا فيهم الخطأ أو المعصية اعتبروهم من أهل الوعيد الذين يدخلون في مشيئة الله، إن شاء حاسبهم يوم القيامة وإن شاء غفر لهم. يقول ابن تيمية في معرض حديثه عن الخوارج «وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفة التي اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى. وتستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعتهم أغلظ. والغالب أنهم جميعاً جهالُ بحقائق ما يختلفون فيه» «مجموع الفتاوي 151/152/ج3» ويقول ابن تيمية في معرض حديثه عن أهل الفرق الضالة من المسلمين «والوعيد الوارد فيهم كالوعيد الوارد في أهل الكبائر.. وهم إن لم يكونوا في نفس الأمر كفاراً لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين. فيُستغفر لهم ويتُرحم عليهم. وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الايمان إنما يقصد كل من سبقه من قرون هذه الأمة بالايمان. وإن أخطأ في تأويل تأوله مخالف السنة أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالايمان فيدخل في العموم. وإن كانوا من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون الوعيد كما استحقه عصاة المؤمنين. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته. ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته.
البرهان على الكفر
يقول الإمام الشوكاني «أعلم أن الحكم على المسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار». ثم أن هنالك فرقاً ما بين العقائد والأحكام العملية. وفي العقائد هنالك فرق بين أصول العقائد الثابتة بصريح القرآن وصحيح وصريح السنة، وبين الأخبار التي وردت في أحاديث الآحاد ولو كانت صحيحة. ذلك أن إنكار أركان الإسلام أو إنكار صريح وصحيح الأخبار التي جاء بها الكتاب أو جاءت بها السنة كفر صريح لا شك فيه. ومثال ذلك أن يقرر استحالة الألوهية أو ينكر نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو ينكر بالبعث والحساب، أو ينكر صحة النص الصحيح من القرآن. كما قال المنكر «لم يكلم الله موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً»، ولكن إذا كان متأولاً فيُعذر بتأويله، وإن ترجح الظن أنه يغطى بالتأويل على الكفر الصراح.
«نواصل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق