الاثنين، 30 يناير 2012

الحركة الإسلامية بين مذكرتين مثار النقع فوق رؤوسنا

الحركة الإسلامية بين مذكرتين مثار النقع فوق رؤوسنا

أرسل إلى صديقطباعةPDF
تقييم المستخدم: / 0
ضعيفجيد

{ وُلد بشار بن برد الشاعر المعروف الذي عاش في العصر العباسي كفيف البصر لم يبصر الدنيا يوماً واحداً ولكنه نبغ في ميدان العربية آدابها ولغتها ونحوها وصرفها وبلاغتها وأشعارها ونقدها ورواياتها، حتى زعم بشار أن ذكاءه هذا السبب الأهم وراءه العمى ولذا أنشد يقول
وُلدتُ كفيفاً والذكاء من العمى
فجئتُ غريب الظّن للعلم مؤيلا
وأعتقد قد صدق الأعمى في وصف نفسه فقد غلبت بصيرته بصره ولهذا لم يرووا عنه أنه تمنى أن يبصر الدنيا يوماً واحداً ليرى ما فيها، خلافاً لشاعر «الطنبور» السوداني النعام آدم فقد حدثني من أصدقه أن النعام آدم سئل ذات يوم ماذا تتمنى؟ فقال أريد أن يعود إليّ بصري يوماً واحداً لأشاهد مدينة أم درمان وما فيها، لكن أبو معاذ بشار بن برد الذي وُلد في مدينة النحو العربي الأولى مدينة البصرة في جنوب العراق كان يرى أن عماه هو الذي خلّد ذكره في الأولين والآخرين.. وهو الذي أذاع صيته ورمى فجاج الأرض وآفاقها بشهرته، حتى سار بها الركبان والراجلة في حلهم وظعنهم.. وهو الذي أي: بشار وصف معركة من المعارك وصفاً دقيقاً مدهشًا عجز أن يجاريه فيه بصراء الشعر والآداب وذلك حين قال
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وبشار هذا من أصل فارسي أصابه داء الجدري وهو صغير فقبح منظره.. ونشأ نشأة جافى فيها الأدب والتربية السوية ومع حذاقته في فن الشعر والعربية وبلوغه ساحلاً بعيداً في الإبداع والخيال إلاّ أنه كان ماجناً فاسداً كثير الهجاء للناس بشعر خبيث ماجنة ألفاظه وفاسدة معانيه تحاشى فيه الأدب والحياء ولذا كان متهماً في دينه.
يُروى أن قوماً قدموا إلى برد والد بشار يشكون إليه بشار في شعره وألفاظه وهجائه إياهم فقال لهم برد:«ليس على الأعمى حرج» فخرج القوم من عنده وهم يقولون ويل لنا لفقه برد أشد علينا من هجاء بشار!!
طفق أهل الصحافة والإعلام ودعاة السياسة والنقاد وأرباب الفكر والرأي منذ الأسبوع المنصرم يكتبون ويحللون ما جاء في مذكرة «ألف أخ» هكذا سُمِّيت، كلٌّ يكتب ويقرأ ويحلل وفق ما تجود به قريحته وهو عمل عندي محترم ومقدّر ومعتبر، فحين ذهب بعضهم واصفاً المذكرة بالركيكة، وصفها آخرون بأنها ضعيفة الفكر والمضامين، وقال بعضهم إنها لم تأت بجديد.. ووصفها آخرون بأنها أخذت من توصيات مجلس شورى المؤتمر الوطني الأخير .. ووصفها آخرون بأنها مسرحية وُضع لها «سيناريو» من داخل المؤتمر الوطني أي بغرض صرف الرأي العام عمّا هو أهم.. وقال بعضهم عنها إنها خجولة وجبانة.. طبعاً في إشارة إلى عدم إسنادها إلى أسماء وتوقيعات، وقال عنها آخرون إنها الأمل والمخرج وهلم جرا.. وأياً كان وصفها من قبل دارسيها فلا مشاحة في الوصف فذاك جهد بشري والله خلق الناس مختلفين.
لكن الذي أقوله فيها أولاً إن ضبابيتها وتأخرها أشد علينا من فساد حكومة المؤتمر الوطني كما أن فقه برد أبي بشار كان أشد على القوم من هجاء بشار.. وبشار بعد أن كثر أذاه للناس مات مقتولاً بفعل فاعل جزاءً وفاقاً.. والحركة الإسلامية السودانية لم تقرأ ديوان الشريف الرضي الذي قال فيه
أجري ولا أعطي الهوى فضل مقودي
أهفو ولا يخفى عليّ صواب
قؤول ولو لم تبق مني بقية
فعول ولو أن السيوف جواب
هذا الأدب وهذا الفكر الرفيع تجاهلته الحركة الإسلامية ولم تكترث له طرفة عين فجرت وأعطت المؤتمر الوطني فضل مقودها فكانت نكسة الشقاق الأول في جدران الرابطة الإسلامية الذي حلق الدّين وبتر رابطة الوصل.. وأيقظ المجنونة التي انفرط وثاقها ـ القبلية والجهوية والمحسوبية ثم انقادت الحركة الإسلامية مرة أخرى وهي صامتة لم تقل شيئاً فبصمت وباركت خطيئة نيفاشا ولولا لطف الله ثم نباهة منبر السلام العادل لصار السودان فرنسا إفريقيا.. ثم صمتت الحركة الإسلامية ثالثاً في شأن أزمة دارفور وكعهدها لم تحرك ساكناً فكانت دارفور السّيوف جواب.. واليونميد المجرم «حبابو».. ثم ديست الشريعة التي لأجلها قام المشروع الحضاري فسكتت الحركة الإسلامية وتخلفت فطبع الله على قلبها.
ونحن اليوم بين يدي مذكرة العشرة ومذكرات أخرى هذي مذكرة «ألف أخ» كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا وأخوة الإيمان ليل تتهاوى كواكبه!!
لا أتفق مع الذين قالوا بركاكة المذكرة ولا بضعفها ولا بأنها لم تأت بجديد.. ولا بأنها ضعيفة المضامين.. لكني أقول نقصت كثيراً من المضامين والمعاني.. وأتفق مع من وصفها بالخجولة وأقول اتسمت أيضاً بالخوف من الرقيب لذلك لم تجد اعتباراً كبيراً وإن شغلت الرأي العام بعض الوقت.. وما مصيرها إلاّ النسيان والتمرد عليها من قبل الدولة والمؤتمر الوطني، الذي يعلم الآن أن الحركة الإسلامية اليوم بلا قواطع ولا أضراس لها ولا خراشات وفصل الدين عن الدولة قلّم أظافرها.. وفقدت فيتامين «أ» فأصابها العشى النهاري دع عنك العشى الليلي.
هنا ينبغى ألاّ يُتصور أننا حين نوجه هذه السّهام نحو حركة الإسلام نريد أن ننقص من قدرها وتضحياتها شيئاً كلا ثم كلا، كما أننا لا نريد أن نتعرض بالنقد لمنهجها في مبادئه العامة، وإنما نريد أن يتوجه هذا النقد إلى الذات ـ التجربة ـ الممارسة ـ القائم بالممارسة وفلسفة هذه الممارسة وحركتها وأدواتها وشخوصها ومواقيتها الأمر الذي يجعلنا ننقد التدين لا الدّين وفهم النص لا النص والظاهرة والمعالجة لا الأصل والجذور.
غير أني أريد أن أشير إلى ما لم يرد في المذكرة وكان ينبغي أن يرد وهو الدعوة الصريحة إلى مراجعة تجربة الأمانة الحالية للحركة الإسلامية بقيادة الأخ علي عثمان محمد طه بوصفه الأمين العام الحالي لها ومناقشة مدى استعداده من حيث العطاء والزمن والتفرغ لهذا الدور الأهم، ومع تقديرنا لجهود الشيخ علي وتضحياته الماضية نقول آن الأوان لفصل الحركة الإسلامية ومسارها عن دولاب الدولة اليومي والعام وهذا هو مكمن الخلل والعجز والداء.
لذلك الذين وقعوا على هذه المذكرة التصحيحية كان ينبغي أن يكونوا أكثر شجاعة وصراحة ووضوحاً حول أهمية تغيير الأمين الحالي وهذا لا ينقص من قدره بل يؤكد على تواصل المسيرة دون انقطاع وأزمات وتعارض وظائف، إن المذكرة غفلت جانب إلزام الرئيس نفسه برؤية الحركة الإسلامية في القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية لجهة أنه عضو فاعل فيها بل ممثلها الأول في الشأن العام والدولة.. كما أن المذكرة غفلت جانب أهمية التحالف، الإستراتيجي حول الثوابت الوطنية والدعوة مع قوى إسلامية ودعوية أخرى.
وغفلت المذكرة التأكيد بشدة على أهمية التربية في نواحي العقيدة والفكر والأخلاق وهو السبب الأول لعامل الفساد الذي أشارت إليه المذكرة كثيراً.
إن الاتجاه غير الصحيح الذي سلكه الترابي حين كان أميناً عاماً للحركة الإسلامية فيما يختص بمنهج التربية تزكية وتصفية للجماعة والذات في مجالي العقيدة والفكر وهو الذي هزم مشروع الحركة الإسلامية اليوم في قيم الأخلاق ولذا عم الفساد الأرض والبلاد والعباد وليس هناك شيء سواه، والحل مراجعة هذا الركن الأهم والأبرز ليتعافى المسار.
ومن القضايا التي جهلتها المذكرة على واقعيتها أن شباب الحركة الإسلامية وطلابها في الجامعات مشروع هزيمة قادمة ما لم يتدارك بشجاعة وقوة إيمان..!! فساد وخلل كبير في التربية والفكر والتصور والممارسة وعدم فهم الآخر وقلة الزاد في وسائل الحوار وقبول الآخر.. والأهم من ذلك تفكيك مراكز ضياعهم في الاتحادات والنقابات والأجسام الشبابية التي أُنشأت لهم فظنوها حدائق مخملية لا يدخلها عليهم داخل! وهذا أحدث قطيعة كبرى بين شباب الأمة والوطن الواحد. ولهذه الضبابية في مسيرة الحركة الإسلامية صار حالنا كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا والقيم تتهاوى في ليل بهيم.

إضافة تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق