المؤتمر الوطني.. «إيه أسباب غرورك»؟!/ أحمد يوسف التاي
الناظر إلى المسرح السياسي السوداني على صعيد دائرة الفعل التنفيذي يلاحظ بوضوح تام أن ثمة غروراً سياسياً بدا يأخذ بتلابيب بعض قيادات المؤتمر الوطني الحاكم.. هذا الغرور السياسي يبدو كأنه وصل ذروتهوبلغ منتهاه، ويظهر ذلك من خلال تصريحات بعض المسؤولين التي تتجاوز الاستهزاء والاستفزاز للخصوم السياسيين إلى استفزاز الشارع العريض، ولسنا هنا بحاجة إلى الاستدلال بتصريحات من شاكلة: «نحن لانخشي الشارع»، و«السياسي الناجح لا ينحني للعاصفة ولا رفض الشارع »، و «يجب عدم الركون لرفض الشارع»، والتي بلغت الميس بالتصريحات الأخيرة المثيرة للجدل التي اطلقها مسؤول كبير وألقى بها في وجهالمعارضة متحدياً خصومه السياسيين بأن يخرجوا مظاهرة واحدة !! وهي تصريحات يبدو أنها لامست «غدد» الغضب لدى زعيم حزب الأمة المعارض الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب في 86م، حيث التقطالمهدي قفاز التحدي من ذلك المسؤول وقال في الحال: «هناك عوامل كثيرة تدفع في اتجاه الانتفاضة، وإن الحكومة سهلت علينا مهمة إسقاط النظام وما عليكم إلا حشد«650» ألفاً من المواطنين حتى يقدمالمسؤولون استقالاتهم». هذا فضلاً عن التصريحات التي تقلل من شأن الخصوم وتدفعهم دفعاً للخروج للشارع مثل: «ان المعارضة لا تستطيع أن تدفع بعشرة أفراد للشارع»، وانتهاءً بلحس الكوع.. وهي تصريحاتمستفزة تعبر عن الغرور والاستهتار وعدم النضج السياسي، وتدفع الساحة السياسية إلى مزيدٍ من حدة الاستقطاب والتوتر وتفكيك اللحمة الوطنية وتصدع الجبهة الداخلية، خاصة في هذا التوقيت الذي بلغت فيه معاناة الشعب السوداني حداً لا يطاق جراء ارتفاع خرافي للأسعار، وفوضى عارمة في السوق، ومضاربات بين الحيتان الكبيرة والتماسيح العشارية التي تمارس نشاطاً طفيلياً تتكسب منه حراماً، وتمتص من خلاله دماء الغلابى من الأيتام والأرامل والمساكين.
أسباب الغرور
وبإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار معطيات الواقع الراهن، نستطيع الإشارة إلى جملة من الأسباب التي تدفع بعض قيادات المؤتمر الوطني إلى بلوغ هذه الحالة من الغرور، كما نشير إلى أسباب معاناة المواطن الحقيقية التي تعرفها الحكومة تماما وتغض الطرف عنها.. أما اسباب الغرور فتبدو على النحو التالي:
أولاً: كثرة الحديث عن أن الشعب لا يجد بديلاً للمؤتمر الوطني لأنه جرب الأحزاب وفشلت، فهذا الحديث بكثرة تكراره عمم جسد قيادات «الوطني» بالاسترخاء، فركنت له واستكانت، وتعاملت معه على أنه حقيقة مجردة لا زيغ فيها ولا زيف وما عداها هو الوهم المحض.
ثانيا: شعور المؤتمر الوطني المتنامي بضعف خصومه السياسيين، وهو شعور يعززه واقع بعض الأحزاب والقيادات المعارضة على المستويين الفردي والجماعي.
ثالثاً: انسلاخ بعض قيادات الأحزاب السياسية وانضمامها إلى «الوطني»، لأسباب مختلفة منها الانتهازية والسياسية والاقتصادية أو لأسباب ومصالح ذاتية نفعية لبعض القيادات.
رابعاً: سكون الشارع السوداني لفترات طويلة وإمساكه عن التظاهرات، رغم توفر أسباب ذلك من ضائقة معيشية ومعاناة وظلم ومظاهر فساد، الأمر الذي فسَّره البعض بعلامات الرضاء عن الحكومة، وكأن لسان حالها يقول: «الشارع مبسوط مني».
خامساً: تبني بعض القيادات المعارضة ذات الوزن الخفيف وتزعمها الشارع وسرقة شرعية الحديث باسمه، جعل الوطني يطمئن إلى درجة «الغرور» ويراهن على وعي الشارع الذي يستعصي على إشارات مثل هذه القيادات.
سادساً: بروز تنظيمات إسلامية فاعلة وقيادتها لقطار لثورات الربيع العربي، مع ترجيح احتمالات تسنم تلك التنظيمات الإسلامية السلطة في بلادها، عزز لدى الوطني الشعور بأنه في مأمن من الثورة الشعبية. وفي هذا يقول الدكتور أمين حسن عمر: «على الأقل نضمن حكومات لا تتآمر علينا».
سابعاً: قيادات الوطني تصوِر الثورات العربية التي حدثت في تلك البلدان على أنها ثورات شعبية تقودها تيارات إسلامية من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، ولذلك السودان في مأمن منها، لأنه يطبق شريعة نظيفة غير «مدغمسة»، وأن ربيع السودان بدأ منذ 30 يونيو 1998م ولا حاجة له في ربيع آخر.
ما بين الحقيقة والوهم
إذن تلك هي الأسباب التي تدفع بعض قيادات المؤتمر الوطني إلى الشعور بالغرورالسياسي واستبعاد أي خطر يأتي من تلقاء الشارع، لكن السؤال المهم للوطني أولاً وللمعارضة ثانياً: هل هذا الشعور حقيقي أم وهم، فإذا كانت المعارضة تعتبره مجرد أوهام في مخيلة «الوطني» فإن الحزب الحاكم يؤكد أن تلك هي الحقيقة التي لا يماري فيها أحد، غير أن الواقع الراهن بكل معطياته يشير إلى الحقائق الموضوعية الآتية:
«أ» ــ ضعف الخصوم السياسيين ومداهنتهم وانتهازية بعضهم، ولهث البعض خلف السلطة وسيل لعاب البعض الآخر للمال أغري «الوطني» وعزز لديه الشعور بالغرور.
«ب» ــ لكن عواصف التغيير وهبوب الربيع العربي هي ظاهرة شعبية قوامها ووقودها الشباب، ولا دور فيها للأحزاب المعارضة، ومن اهم دوافعها الفقر والعطالة والكبت ومظاهر الفساد والثراء السريع والفاحش على رموز النظام ومنتسبيه.. ومن أهم دوافعها أيضاً الظلم وغياب العدالة الاجتماعية والاستهانة بالإنسان وتحقيره واستفزازه.
«ج» ــ الحاجة إلى التغيير شعور فطري وسجية جُبل عليها الناس، وعلى ما يبدو تستكمل الآن حلقاتها وفقاً لظروف موضوعية بعيداً عن أماني المعارضة وخارج دائرة أوهام السلطة، وهي تقوم عادة على أسباب يتوافر كثير منها في حاضرنا.
الحقيقة العارية
«د» ــ والحقيقة التي تحب أن تمشي عارية دونما الحاجة إلى ثوب الرياء والكذب والنفاق السياسي، هي أن المساحة التي تفصل بين غمار الجماهير والأحزاب السياسية ــ حكومة ومعارضة ــ لم تعد هي تلك الأرضية المشتركة، فلا الأحزاب التقليدية عادت تعبر عن آمال وآلام المواطن البسيط ولم يعد الأخير يشعر بالانتماء الحقيقي لهذا الحزب أو ذاك، لأن مصابيح الوعي أضاءت البصيرة، فانكشف أمامه الزيف و«الحالة الزنكلونية» فلم يعد يشتري الأوهام والوعود الجوفاء وزبد البحر الذي يذهب جفاءً، وإنما يبحث عما يمكث في الأرض وينفع الناس.
«و» ــ حالة انتشار الوعي خلقت شعباً يريد حكومة خادمة له يأمرها بالأغلبية فتطيع وتنفذ رغباته ومصالحه وتلبي تطلعاته، لا تلك التي «تضبح تورا وتدي زولا»، وليتهم يذبحون ثورهم فقط، فهؤلاء ذبحوا الوطن بـ «قزازة» ولم يقبض الشعب إلا ركام الأحزان وتلال المعاناة.. الشعب يريد حكومة خادمة له لا تلك التي تفرض عليه قيادات فاسدة تتكالب على المال العام وتتداعى عليه كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
وختاماً:
الشعب لا يريد قيادات تنهب وتسرق مال الدولة تحت حماية القانون الذي يعجز عن أن يكبح جماح مسؤول يجمع ثرواته من مال الغلابى من دافعي الرسوم والدمغات والجبايات المتعددة والضرايب الباهظة عن طريق العضوية في عدد من مجالس الإدارات والمخصصات «المليونية» والحوافز الدولارية وتذاكر السفر والبدلات والعلاج بالخارج للمسؤولين وأسرهم.. إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن من أكبر الكوارث والأزمات والعبء الثقيل على اقتصاد الدولة وسبب معاناة الشعب والغلاء وهذا الضيق، هو هذا النهب باسم القانون.. نعم نهب محمي بالقانون، فهذا الصرف لأُناس بلا عطاء، والذين إذا أعطتهم الدولة إجازة طويلة لم يتأثر الأداء بغيابهم إلا نحو الأحسن.. إلى جانب ذلك هناك عجز الحكومة عن استرداد المال المنهوب وقصور القوانين التي تحمي مال الشعب وإطلاق العنان للمتضاربين «الكبار» في السوق، فهذه إذن الأسباب الحقيقية والأساسية لمعاناة المواطن السوداني.. فهل تستطيع الحكومة التي تتوهم أن الشعب «مبسوط منها» أن تضع يدها على الجرح؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق