عندما يتذكر الكثيرون الأيام الأولى للإنقاذ مؤكد سيصابون بالدوار والرغبة في الاستفراغ فقد كانت أياماً عصيبة ما زالت في ذاكرة الجميع ، من ينسى أيام الحملات والكشات للقبض على الشباب المتخرجين والعاطلين عن العمل لأداء ما سميت بالخدمة الإلزامية بالقوة وما زالت تسمى بذلك رغم محاولة الحكومة تجميلها مؤخراً وتسميتها الخدمة الوطنية لم يستطع الناس نسيان الاسم فذاك الجرح لم يزل ينزف لقد تركت آثاراً لا يمحوها الزمان ، شردت المئات من الشباب منهم من تخرج من الجامعة ومنهم من جلس لتوه للشهادة السودانية ولم يعرف أناجح هو أم لا ترك شهادته للوزارة ورحل ومنهم من ترك المدرسة قبل أن يجلس للشهادة السودانية ومنهم من لم يجد فرصة التعليم أصلاً ورغم ذلك ألزموه ،منهم من لقي حتفه وآخرون هربوا بجلدهم إلى دول الجوار ومنها إلى دول أخرى وكانوا أوفر حظاً فالغربة في بلاد الغربة أفضل من الغربة في الوطن ، حتى من عاد أخيراً بعد أن تجاوز الأربعين أو هو يحبو إليها عاد وهو لا يعرف من أي نقطة يبدأ ليواصل حياته فالحلقة التي فقدت لم يستطع تركيبها مرة أخرى ، وبعض آخر لم يعد حتى الآن لأنه لم يعد يشعر بالودِّ لوطن شرده في شبابه اليانع ، من لا يذكر تلك الشعارات الإسلامية حتى ظننا أن الإسلام نزل لتوه لنجد اليوم أنفسنا في دولة الجاهلية الأولى ، من لا يذكر شعار نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع الذي ذهب اليوم أدراج الريح قبل أن يتحقق منه شيء وها هو السودان اليوم يموت جوعاً وكل الشعب يلبس ما هو مستورد ، من لا يذكر الحسم العسكري في الجنوب والنهب المسلح في دارفور والمعارضة في الشرق ، من لا يذكر أمريكا روسيا قد دنا عذابها ويا أمريكا لمي جدادك وها هي أمريكا اليوم تتسيّد علينا ونحن نلبّي لها ما تريد ونقدم لها فروض الولاء والطاعة ، والقائمة تطول لذلك ليس غريباً ما وصلت إليه البلاد الآن من ضيق وتعب ورهق وشتات هو نتيجة طبيعية لسياسة الإنانية وحب الذات والنفسيات ، ومع أن السودان قبل الإنقاذ لم يكن سعيداً لأن كل الحكومات التي سبقتها وإن كانت أقل حدة بدرجة كبيرة لكنها لم تفلح في إسعاده أيضاً ، فلم تكن الإنقاذ مخطئة لوحدها كلهم أخطأوا فلعبة الكراسي التي هواها الساسة السودانيون منذ خروج الإنجليز هي التي جاءت بالإنقاذ ، خمسة عقود ونصف منذ أن نال السودان استقلاله لم تكن كافية ليتعلم الساسة السياسة و تنتهي هذه اللعبة الغذرة في الدولة السودانية ،بل أصبحت أكثر متعة وتسلية للساسة السودانين في هذا العهد حيث تأصلت في العقدين الأخيرين وقد سمحت لها الإنقاذ بأن تستمر وهي من تتحكم فيها دون تغيير يطرأ على شكل اللعبة عدا إضافة أوسحب بعض الكراسي حسب الجو العام للعب السياسي وكلما كثر المنادون بالمشاركة السياسية ورفع التهميش والمشاركة في السلطة والثروة تختار من لا قيمة لهم ليشاركوها اللعبة ، وهم غالباً أصحاب نفوس ضعيفة و مصالح شخصية و يبيعون مبادئهم من أجل ذلك وسرعان ما يأتونإ جماعات ووحدانا من الأحزاب والقبائل وحتى الشارع وتتباهي بتلك المشاركة الواسعة في نظرها ولذلك كل إبداعها السياسي هو زيادة عدد الكراسي والسماح لأسوأ الناس بمشارتكها ، ناسية بأن هناك كفاءات ممتازة وشريفة يمكن أن تقود معها البلاد دون عناء، وما الانشقاقات التي حدثت تحت إشرافها في الأحزاب إلا تأكيداً على أن كل المنشقين يبحثون عن مصالحهم لأنهم إن كانوا شرفاء لما فعلوا ذلك حتى وإن ضاقت بهم الأحزاب التقلدية وضاقت صدور زعماءهم فالتغيير الذي بحثوا عنه ولهثوا خلفه وداسوا على كرامتهم من أجله ومن أجل المال كان سيأتي إليهم بعزة نفس إن صبروا فذاك رزق لن يحول بينهم وبينه أحد غير صاحب الرزق، والتغييرات لا محالة حتى وإن طال الزمن سيأتي الجديد يوماً لأن الدنيا بطبيعتها لا تبقى على حال واحد ، كما أن الإنقاذ جاءت بنفر ليس لهم علاقة بالسياسة والآن سطع نجمهم في عالم السياسة إذ أن ممارسة السياسة أصبحت الطريقة الوحيدة إلى الثراء ، فالسياسة لم تعد تحتاج إلى شهادات و إمكانيات ومهارات فردية مثل المهن الأخرى وأصبحت مهنة من لا مهن لهم ، ولذلك الكل يلف دون ملل حول الدولة (التكية ) على أمل العثور على كرسي في تلك اللعبة وذلك ما جعل لعاب الكثيرين من ضعفاء النفوس يسيل وتتفتح شهيتهم للكراسي فسعوا لدخول اللعبة وأصبحوا معالم في المؤتمر الوطني يسرقون الشعب جهاراً عياناً دون أن يسألهم أحد ، ولكن الحكومة بنفس القدر حين تملُّ أحدهم تعرف كيف تسحب منه الكرسي لتجعله يجلس على الأرض ويسف التراب ولكن العشم لا ينقطع فيحاول مرة أخرى باحثاً عن طريق آخر ،وهكذا تدور لعبة الكراسي دخولاً وخروجاً وما أكثر الداخلين إليها والخارجين منها في كل المواسم رحلة مستمرة لا تتوقف لأي سبب حتى والوطن يعيش أصعب اللحظات ، تلك هي سنة حكومة الإنقاذ التي تدنّى بسببها تعاطي الناس مع السياسة وأصبحت مثل الغناء الهابط الذي ينتقده المسؤولون مبررين أنه يتسبب في تدني الذوق العام في حين أن الغناء الهابط نفسه ظهر بسبب انحطاط الممارسة السياسية ، لأن السياسة هي التي تدعم الواقع الاجتماعي برؤاها ومشاريعها وترقيتها لحياة الناس، و لم تتخلَ الإنقاذ عن هذه السياسة حتى الآن ولم تتعظ من ما يحدث معها من تجاذب وتخاصم ملته حجارة الأرض واشتكت منه ،لم تفعل ما يريحها و ويريح الشعب من الإزعاج السياسي الذي ظلت تتحفه به منذ وصولها إلى الحكم ، و بالرغم من المعاناة التي وجدتها وما زالت تجدها لم تحاول أبداً ابتداع الجديد والخروج من هذه الدوامة المملة حتى وإن اضطرت لأن تخرج من اللعبة وتنهي اللعبة حتى ولو تنازلت عن كل الكراسي وإلى الأبد إن كانت تعطي الشعب اعتباراً وتعرف أن الإسلام دين حق وفعل وليس مجرد شعارات . بسبب الكراسي بلغ الشقاق بين أهل الإنقاذ أنفسهم حد السفور و ضربت بقيم الإسلام عرض الحائط حتى لاحت نذر فنائها ، حتى شيخها وعرّافها خرج من اللعبة ليصبح معارضاً لأن كرسيه سحبه حواريه فاللعبة لم تعد تستوعبه لأنه يريد أن يدير اللعبة بمعرفته ، والآن هو نفسه يبحث عن كرسي ويتمنى العودة إلى اللعبة حتى ولوعلى جماجم الشعب ، هذا غير انصراف الإنقاذ عن هموم الشعب الجوهرية وتوفير حاجاته الإنسانية والتركيز على تفتيت كل المؤسسات حتى لا توجد مؤسسة تنازع المؤتمر الوطني ولذلك دائماً الحكومة تفكر في من يجب أن ينشق ليعرّض هذا الحزب أو ذاك لهزة تفقده الوعي، ومَنْ مِنْ الناس خرج عنها وله أثر ويجب إعادته حتى لا يقلق مضجعها ،وكيف يتم القضاء على من شقّ عصا الطاعة وتمرّد في مناطق التهميش، ومَنْ مِنْ الذين تمردوا هو ضعيف النفس ويمكن إغراءه ليعود لزريبة الوطن وكيف ؟ وكيف يمكن الإمساك بمن هم في الحكومة حتى لا يتجرأوا ويفكروا في الانعتاق منها ؟ وهكذا . إن الحديث عن عثرات الإنقاذ كثير ويطول و مهما حاولنا أن نبرر لها فالشواهد تقول إنها ليست عثرات عفوية وإنما حالة غريبة وتجربة شاذة تحتاج إلى الدراسة والتحليل ، فما تفعله الحكومة و السعي الحثيث للمحافظة على وجودها بنفس الوجوه وعدم رغبتها في التغيير أو التعديل ولو من داخلها ، حتى حين تفعل تأتي بمن لا يضيفون لها شيئاً هذا الأمر يعكس حالة غريبة من نوعها فعلاً ، يجب أن يتعاطى معها الناس بحكمة وهو المحك فالحكمة في هذا البلد فُقدت حين تحول الساسة إلى تجار والكراسي لعبة وممارسة السياسة أصبحت كالقمار كما يقولون ولسنا وحدنا من نشهد على ذلك فأهل الإنقاذ أيضاً يشهدون على أنفسهم والدليل آثر الكثيرون الفرار بأرواحهم عندما لم يعد الوضع طبيعياً فيما جاهر البعض بالعداء وأصبح معارضاً وبعض آخر جاهر بالنصيحة حين رأى في السكوت جريمة وندلل بالسيد مدير جامعة الخرطوم الذي أخجله ما يفعله زملاء ما سميت بالحركة الإسلامية فكتب في الصحف متحسراً بإحساس يجعل الكثيرون يشعرون بالغلب الذي هو فيه قال كل شيء في نفسه ليقرأه كل الشعب وعن حقيقة الظلم الواقع على جامعته العريقة ونصح الرئيس نصيحة من يعرف حجم المصيبة التي يذهب إليها وطن بأكمله وشهد الشعب على هول ما فعل زملاء الإسلام وبذلك شهد شاهد من أهلها ولنا مع ذلك وقفة . كما ظل لسان الإنقاذ يعمل كالمكنة التي لا تتوقف كلمات كالرصاص تدوي في آذان الجميع كل حين وحين لا تعرف أبداً العبارات الطيبة لاتحاول التواصل مع الشعب حتى بالكلام الطيب الذي لا يكلفها سوى أن تختار أطيب الكلمات مما عندها ، ولذلك دائماً هي في خلاف مع الآخرين بسبب ما يتلفظ به مسؤوليها مع أن الكلمة الطيبة هي أس السياسة والدين ، فهي دوماً تؤكد لنا مقولة أن السلطة تسكر ، وآخر ما قالته حكومة الإنقاذ أنهم سيطبقون الشريعة الإسلامية حال الانفصال وأن هوية السودان قد حسمت ببساطة دون مراعاة لنفسية شعب عاش قروناً في وطن واحد، أي هوية وأي إسلام يتحدثون عنه وهم لا يستطيعون فهم أن الدين المعاملة ، ويزفون إلينا خبر الانفصال كأي حدث عادي مع أنه عار عليهم مهما برروا وفضيحة للمؤتمر الوطني وما يقال عن فوائد انفصال الجنوب هو جبن وعار يلطخ جبين كل من كانت له صلة بالإنقاذ، إن انفصال جنوب السودان هزيمة ما بعدها هزيمة من فعلها يجب أن يتوارى عن الأنظار خجلاً ليس لأن الجنوب كما يقول دائماً خال الرئيس لا يشبه الشمال ولكن لأن الأمانة حين تؤخذ ترد كما هي إلى أهلها كذلك قال الإسلام ، والسودان ليس ملكاً للمؤتمر الوطني ليتصدق به للحركة الشعبية وسيحاسبهم الشعب السوداني يوماً بل ويحاسب أبناءهم وأحفادهم ، لن يغفر لهم الشعب مثلما لم يغفر الجنوبيون أخطاء الحكومات الوطنية للشمال الذي لم يرتكبها ، رضي المؤتمر الوطني أو رفض لقد ملّ الشعب سياساته والاستخاف به وعدم التقدير وقد ملّ الشباب رحلة الأيام المرة التي صاحبته في طفولته وصباه وشبابه وعمره يهلك تحت رحمة حكومة الإنقاذ وتقول إننا لسنا بتونس أو مصر أو ليبيا بل نحن كذلك فما يحدث اليوم في العالم العربي ليس مجرد ثورات تتخطف بعض الزعماء وتختار ما يعجبها وإنما نتمنى أن تكون كلمة حق أمر بها الله ليطهر عالمنا من الظلم الذي استشرى نهائياً وينزع الملك من الذين ظلموا وأن يفضحهم ويشمّت عليهم عباده ليكونوا عبرة وعظة للقادمين بعدهم ، ولكن فقلبي يحدثني أن تلك هي الحقيقة ، كثيرون أدهشهم ما يحدث وقالوا إنه آخر الزمان فليكن كذلك وليرينا الله هلاك كل الظالمين وليفنى العالم بعد ذلك فليس لنا ما نخاف عليه . |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق