252222(الأرشيف) |
في مثل هذا الوقت من كل سنة تردد البلد في احتفائية مثيرة للملل الأناشيد الوطنية وتجتر ذكريات مرحلة تاريخية لا تزال راسخة في ذهنية الذين أطال الله عمرهم من معاصري تلك المرحلة والتي انتهت بتحرير السودان من الاستعمار الإنجليزي أو ما يسمى بالاستعمار الثنائي شكلاً. ولكن يبقى السؤال الذي لم يسأله أحد وآن الأوان أن نضعه على طاولة البحث بعد أن خبرت البلاد ست مراحل من الحكم الوطني تقاسمتها الأنظمة المدنية والعسكرية. وكلما قدمته هذه المراحل أنها كانت تسير بالسودان من سيء الى اسوأ. الأمر الذي يطرح السؤال (هل الاستقلال نهاية حكم أجنبي سيء أم بداية حكم وطني أسوأ؟).
هذه المراحل الست من الحكم وإن تقاسمه بالتساوى العسكر ممثلين بثلاثة أنظمة عسكرية استأثرت بثلاثة أرباع فترة الحكم الوطني وثلاثة أنظمة حكم مدنية لما تبقى من فترة الحكم الوطني، إلا أن كل المراحل الست اتفقت على أمر واحد هي أنها فرضت على السودان حكماً دكتاتورياً تبادله العسكر ودكتاتورية مدنية تمثلت في هيمنة الطائفية أو أحزاب عقائدية شمولية الفكر مما يطرح السؤال الذي أنا بصدد البحث عن إجابة له وأعيده للأهمية: هل الاستقلال هو نهاية حكم أجنبي سيء أم بداية حكم وطني أسوأ؟
وبدءاً أقول إذا كان المعيار أن نزايد بأننا ننعم بالحرية شكلاً بلا مضمون ففترة الاستعمار تبقى الأسوأ لأننا لم ننعم بالحرية بمفهومها العام والمتداول عالمياً إلا بعد التحرر من الاستعمار حتى لو كانت بلا محتوى حقيقي، ولكن إن كنا نتحدث عن المضمون الذي يتمثل في مردود الحرية التي تحقق الاستقرار والأمان ورفاهية المواطن وترفع مستواه المعيشي وخدماته الضرورية لابد أن نعترف بأن الاستقلال كان بداية حكم وطني أسوأ.
ولعل أغرب المفارقات في مراحل الحكم الست ما شابها من تداخل ربما لم يكن مألوفاً أو متعارفاً عليه في العالم حيث أن مراحل العسكر الثلاث لم تخلو من شراكة المدنيين من الطائفية وقيادات الأحزاب العقائدية بل المدنيين هم المبادرين بإقحام العسكر فيها كما أن مراحل المدنيين لم تختلف عن فترة العسكر في أن تسودها دكتاتورية لا تختلف إلا من حيث الشكل بين دكتاتورية البندقية والأجهزة الأمنية في الأنظمة العسكرية ودكتاتورية الطائفية والعقائدية في المراحل المدنية.
أما المفارقة الأكبر فإن كل مراحل الانتقال من مرحلة لأخرى تقفز للحكم ترفع شعار الديمقراطية حيث إنه ما من بيان عسكري (رقم -1-) بثته الإذاعة السودانية إعلاناً بانقلاب عسكري إلا وكان رافعاً لشعار الديمقراطية ثم ما إن يثور الشارع في وجه العسكر إلا وكانت رايته الديمقراطية هذه الفرية التي لم يترجمها أي حكم عسكري أو مدني الى حقيقة على أرض الواقع وإن كان هناك ما يفرق بين الموقفين فإن السلطة عند العسكر هي التي تصادر الديمقراطية بالقوة. أما في الحكم المدني فتصادرها الطائفية بالهيمنة على الحركة السياسية على المستوى الحزبي وتبقى المحصلة النهائية واحدة (لا ديمقراطية في السلطة ولا حكم للشعب بإرادته الحرة) في الحالتين لتبقى الساقية مدورة بين الدكتاتورية العسكرية والدكتاتورية المدنية، وليبقى المواطن والديمقراطية هما الضحية.
مردود هذا الوضع الغريب أن العالم يشهد لأول مرة في تاريخه دولة عسكرية يجمع أغلبية شعبها على رفض حكمها مهما تدثرت بثوب الديمقراطية. وفي ذات الوقت يقف الشعب رافضاً القوى السياسية المدنية المعارضية التي ترفع شعار الديمقراطية والعاجزة عن استردادها من العسكر لأنه يعرف أنها شعار يخفي في دواخله الدكتاتورية المدنية.
وضع غريب أن تكون الحكومة عاجزة عن الحكم والمعارضة عاجزة عن إسقاطها لأن الشعب فاقد الثقة في كليهما وغير راغب في أي منهما، ذلك لأنه وبعد تجاربه العديدة ومراحل الحكم الست ترسخت فيه قناعة تامة بأنه لا خير في حكومة قوامها دكتاتورية العسكر، ولا خير في حكومة قوامها الدكتاتورية المدنية تحت هيمنة الطائفية ولأنه كما قال المغني الشعبي في الحالتين ضائع.
فالشعب يرفض السلطة الحاكمة ويرفض المعارضة فأي وضع هذا وما هو مخرج الوطن في حالة معقدة كهذه؟.
ولعل الجانب الأخطر في هذا التصعيد للحكم الوطني أن لغة العنف أصبحت هي السائدة في دولة لم تعرف العنف في السياسة طريقة اليها اذا استثنينا تداعيات قضية الجنوب التي جاءت خاتمتها بانسلاخ جزء عزيز من الوطن كنتيجة طبيعية لمسؤوليات القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم عسكرية ومدنية وإن تفاوتت نسب المسؤولية وكانت بداياتها من مرحلة الحكم الوطني الأول الذي أهمل التعامل مع القضية في وقت لم يكن الجنوب يطلب اكثر من كفالة حقوقه في دولة فيدرالية ثم تصعيدها عسكرياً في مرحلة حكم الجنرالات عندما لجأوا لحسم القضية عسكرياً في أول حكم انقلابي عندما صعد انقلاب نوفمبر تصفية التمرد بالعمل المسلح لتتدرج مطالب الجنوب حتى بلغ سقف المطالب الانفصال في عهد الإنقاذ الذي توجوه أخيراً بما أسموه الاستقلال ليكون الاستقلال الثاني في دولة واحدة بعد أن تواصل لعب الأدوار السالبة من مرحلة لأخرى بلغت أوجها في مرحلة الإنقاذ والتجمع الديمقراطي الذين انساقوا بسبب صراعهم من أجل السلطة بين من لا يمانع في أن يبقى في السلطة حتى بتمذيق الوطن وبين من لا يمانع عن التعاون مع من يعمل من اجل تقسيمه وتحقيق مطامعه اذا كان هذا يعود به للسلطة كما كان حال التجمع فكان ان اسلما امرهما لعدو السودان ولعل اهم افرازات هذه الصراع أن السودان مهدد بمزيد من التفكك في أكثر من منطقة. ويا لها من مفارقة أن يتفق الضدان على محاربة التآمر الخارجي لتقسيم السودان بعد أن لم يعد بيدهما مجتمعين ما يواجهان به التآمر الخارجي بعد أن أحكم قبضته على مفاصل ومفاتيح السودان. فلقد انتهى الأمر وأصبح التآمر هو القابض على مفاتيح الدولة.
وحتى نكون موضوعيين في التقييم فإنه لابد من الاعتراف بأن المدنيين أكثر مسؤولية من العسكر وذلك لسببين:
أولهما أنهم فشلوا في بناء الحكم الوطني على مؤسسية ديمقراطية لعلة في مكوناتهم الطائفية. ويُسأل عن هذا الفشل الحزب الوطني الاتحادي الذي كان أمل السودان في حزب وطني سوداني رافض للدكتاتورية العسكرية ومتحرر من الطائفية بعد أن هزم طائفة الختمية انتخابياً لما انسلخت عنه إلا أنه بعودته لحضنها حتى لا يفقد الحكم فأسلم أمر البلد للطائفية لتحكم قبضتها على الحكم المدني. وثانياً لأن المدنيين هم الذين أقحموا العسكر في لعبة السلطة لحسم صراعاتهم الداخلية فما من انقلاب عسكري أطاح بالحكم المدني إلا وكان طرفاً فيها وداعماً له قوى مدنية. فانقلاب 17 نوفمبر كان دعوة لاستلام السلطة من رئيس الحكومة عن حزب الأمة وحظيَ بتأييد زعيمي الطائفتين. ثم كان انقلاب 25 مايو في حضن اليسار منتقلاً لليمين ومدعوماً من الطائفتين. ثم كان انقلاب 30 يونيو الحالي محسوباً على اليمين والإسلاميين. مدعوماً اليوم من الطائفتين.
إذن بالنظر الفاحص لمراحل الحكم العسكري الثلاث فإنه ليس فيها ما يمكن تصنيفه بأنه حكم عسكري صافٍ مثلاً كما حدث في مصر في 1953م.
ومهما يكن ما أقوله قاسياً فإن الاستقلال ما كان ليتحقق للسودان لولا الخلاف بين الشريكين اللذان يستعمران السودان وعرفا بالاستعمار الثنائي بين من يطمع في تحقيق وحدة وادي النيل ممثلاً في الحزب الوطني الاتحادي وحليفه طائفة الختمية، وبين حزب الأمة الذي يدعو للاستقلال تحت التاج البريطاني وتنصيب زعيمه ملكاً على السودان.
تحت رحم هذا الواقع شهد السودان مولد أكبر حزبين كلاهما ولد تحت حضن الخارج ولم يكن مولدهما سودانياً أغبش صافياً، حيث أن الحزب الوطني ولد في مصر تحت رحم وحدة وادي النيل، بينما ولد حزب الأمة تحت رحم ورعاية الإنجليز، وكلاهما بقيَ فرعاً لمن ولد تحت مظلته. واذا كان السودان شهد بعد ذلك مولد أحزاب أخرى في مراحل مختلفة، فإن مولدها لم يختلف عن مولد أحزاب الطائفتين؛ حيث ان مولد الأحزاب العقائدية سواء الحزب الشيوعي أو الحركة الإسلامية بعد فترة منهما فكلاهما ولد من الخارج أكثر من أن يولدا من رحم الداخل. وكما كان حال الحزبين الكبيرين خاضعان لطرفي الاستعمار الثنائي فالأحزاب العقائدية ولدت تحت رحمة طرفي الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين المتصارعين الغربي والشرقي. لهذا يمكن القول بكل ثقة أن السودان عبر مسيرته التاريخية لم يعرف حزباً سودانياً خالصاً مولداً ونشأة حتى الآن.
لكل هذا فإن ما يشهده السودان اليوم من تهديد لمستقبله ووحدته وبعد أن سادته لغة العنف وتعددت فيه جبهات القتال التي ترفع السلاح صغرت أم كبرت - فإن ما يحتاجه السودان اليوم وبإلحاح جبهة رفض وطنية عريضة لتحريره من الدكتاتورية العسكرية والمدنية ولإعادة صياغته مؤسسياً ديمقراطياً لا يسوده العنف، ومحققاً لطموحات كل أبنائه على قدم المساواة لكل مناطقه ومختلف عنصرياته محافظاً على وحدته وقادراً على بناء دولة حديثة محررة من الإرث السيء السالب لتاريخ العسكر ولأحزابه التى لا تقل سوءاً. ببناء واقع جديد، ولكن هل يمكن تحقيق جبهة وطنية رافضة بهذا المستوى. وحتى ذلك الوقت أقول (يا حليل الإنجليز) كان عهدهم هو الأفضل. ويبقى هذا سؤال يبحث عن الإجابة .
هذه المراحل الست من الحكم وإن تقاسمه بالتساوى العسكر ممثلين بثلاثة أنظمة عسكرية استأثرت بثلاثة أرباع فترة الحكم الوطني وثلاثة أنظمة حكم مدنية لما تبقى من فترة الحكم الوطني، إلا أن كل المراحل الست اتفقت على أمر واحد هي أنها فرضت على السودان حكماً دكتاتورياً تبادله العسكر ودكتاتورية مدنية تمثلت في هيمنة الطائفية أو أحزاب عقائدية شمولية الفكر مما يطرح السؤال الذي أنا بصدد البحث عن إجابة له وأعيده للأهمية: هل الاستقلال هو نهاية حكم أجنبي سيء أم بداية حكم وطني أسوأ؟
وبدءاً أقول إذا كان المعيار أن نزايد بأننا ننعم بالحرية شكلاً بلا مضمون ففترة الاستعمار تبقى الأسوأ لأننا لم ننعم بالحرية بمفهومها العام والمتداول عالمياً إلا بعد التحرر من الاستعمار حتى لو كانت بلا محتوى حقيقي، ولكن إن كنا نتحدث عن المضمون الذي يتمثل في مردود الحرية التي تحقق الاستقرار والأمان ورفاهية المواطن وترفع مستواه المعيشي وخدماته الضرورية لابد أن نعترف بأن الاستقلال كان بداية حكم وطني أسوأ.
ولعل أغرب المفارقات في مراحل الحكم الست ما شابها من تداخل ربما لم يكن مألوفاً أو متعارفاً عليه في العالم حيث أن مراحل العسكر الثلاث لم تخلو من شراكة المدنيين من الطائفية وقيادات الأحزاب العقائدية بل المدنيين هم المبادرين بإقحام العسكر فيها كما أن مراحل المدنيين لم تختلف عن فترة العسكر في أن تسودها دكتاتورية لا تختلف إلا من حيث الشكل بين دكتاتورية البندقية والأجهزة الأمنية في الأنظمة العسكرية ودكتاتورية الطائفية والعقائدية في المراحل المدنية.
أما المفارقة الأكبر فإن كل مراحل الانتقال من مرحلة لأخرى تقفز للحكم ترفع شعار الديمقراطية حيث إنه ما من بيان عسكري (رقم -1-) بثته الإذاعة السودانية إعلاناً بانقلاب عسكري إلا وكان رافعاً لشعار الديمقراطية ثم ما إن يثور الشارع في وجه العسكر إلا وكانت رايته الديمقراطية هذه الفرية التي لم يترجمها أي حكم عسكري أو مدني الى حقيقة على أرض الواقع وإن كان هناك ما يفرق بين الموقفين فإن السلطة عند العسكر هي التي تصادر الديمقراطية بالقوة. أما في الحكم المدني فتصادرها الطائفية بالهيمنة على الحركة السياسية على المستوى الحزبي وتبقى المحصلة النهائية واحدة (لا ديمقراطية في السلطة ولا حكم للشعب بإرادته الحرة) في الحالتين لتبقى الساقية مدورة بين الدكتاتورية العسكرية والدكتاتورية المدنية، وليبقى المواطن والديمقراطية هما الضحية.
مردود هذا الوضع الغريب أن العالم يشهد لأول مرة في تاريخه دولة عسكرية يجمع أغلبية شعبها على رفض حكمها مهما تدثرت بثوب الديمقراطية. وفي ذات الوقت يقف الشعب رافضاً القوى السياسية المدنية المعارضية التي ترفع شعار الديمقراطية والعاجزة عن استردادها من العسكر لأنه يعرف أنها شعار يخفي في دواخله الدكتاتورية المدنية.
وضع غريب أن تكون الحكومة عاجزة عن الحكم والمعارضة عاجزة عن إسقاطها لأن الشعب فاقد الثقة في كليهما وغير راغب في أي منهما، ذلك لأنه وبعد تجاربه العديدة ومراحل الحكم الست ترسخت فيه قناعة تامة بأنه لا خير في حكومة قوامها دكتاتورية العسكر، ولا خير في حكومة قوامها الدكتاتورية المدنية تحت هيمنة الطائفية ولأنه كما قال المغني الشعبي في الحالتين ضائع.
فالشعب يرفض السلطة الحاكمة ويرفض المعارضة فأي وضع هذا وما هو مخرج الوطن في حالة معقدة كهذه؟.
ولعل الجانب الأخطر في هذا التصعيد للحكم الوطني أن لغة العنف أصبحت هي السائدة في دولة لم تعرف العنف في السياسة طريقة اليها اذا استثنينا تداعيات قضية الجنوب التي جاءت خاتمتها بانسلاخ جزء عزيز من الوطن كنتيجة طبيعية لمسؤوليات القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم عسكرية ومدنية وإن تفاوتت نسب المسؤولية وكانت بداياتها من مرحلة الحكم الوطني الأول الذي أهمل التعامل مع القضية في وقت لم يكن الجنوب يطلب اكثر من كفالة حقوقه في دولة فيدرالية ثم تصعيدها عسكرياً في مرحلة حكم الجنرالات عندما لجأوا لحسم القضية عسكرياً في أول حكم انقلابي عندما صعد انقلاب نوفمبر تصفية التمرد بالعمل المسلح لتتدرج مطالب الجنوب حتى بلغ سقف المطالب الانفصال في عهد الإنقاذ الذي توجوه أخيراً بما أسموه الاستقلال ليكون الاستقلال الثاني في دولة واحدة بعد أن تواصل لعب الأدوار السالبة من مرحلة لأخرى بلغت أوجها في مرحلة الإنقاذ والتجمع الديمقراطي الذين انساقوا بسبب صراعهم من أجل السلطة بين من لا يمانع في أن يبقى في السلطة حتى بتمذيق الوطن وبين من لا يمانع عن التعاون مع من يعمل من اجل تقسيمه وتحقيق مطامعه اذا كان هذا يعود به للسلطة كما كان حال التجمع فكان ان اسلما امرهما لعدو السودان ولعل اهم افرازات هذه الصراع أن السودان مهدد بمزيد من التفكك في أكثر من منطقة. ويا لها من مفارقة أن يتفق الضدان على محاربة التآمر الخارجي لتقسيم السودان بعد أن لم يعد بيدهما مجتمعين ما يواجهان به التآمر الخارجي بعد أن أحكم قبضته على مفاصل ومفاتيح السودان. فلقد انتهى الأمر وأصبح التآمر هو القابض على مفاتيح الدولة.
وحتى نكون موضوعيين في التقييم فإنه لابد من الاعتراف بأن المدنيين أكثر مسؤولية من العسكر وذلك لسببين:
أولهما أنهم فشلوا في بناء الحكم الوطني على مؤسسية ديمقراطية لعلة في مكوناتهم الطائفية. ويُسأل عن هذا الفشل الحزب الوطني الاتحادي الذي كان أمل السودان في حزب وطني سوداني رافض للدكتاتورية العسكرية ومتحرر من الطائفية بعد أن هزم طائفة الختمية انتخابياً لما انسلخت عنه إلا أنه بعودته لحضنها حتى لا يفقد الحكم فأسلم أمر البلد للطائفية لتحكم قبضتها على الحكم المدني. وثانياً لأن المدنيين هم الذين أقحموا العسكر في لعبة السلطة لحسم صراعاتهم الداخلية فما من انقلاب عسكري أطاح بالحكم المدني إلا وكان طرفاً فيها وداعماً له قوى مدنية. فانقلاب 17 نوفمبر كان دعوة لاستلام السلطة من رئيس الحكومة عن حزب الأمة وحظيَ بتأييد زعيمي الطائفتين. ثم كان انقلاب 25 مايو في حضن اليسار منتقلاً لليمين ومدعوماً من الطائفتين. ثم كان انقلاب 30 يونيو الحالي محسوباً على اليمين والإسلاميين. مدعوماً اليوم من الطائفتين.
إذن بالنظر الفاحص لمراحل الحكم العسكري الثلاث فإنه ليس فيها ما يمكن تصنيفه بأنه حكم عسكري صافٍ مثلاً كما حدث في مصر في 1953م.
ومهما يكن ما أقوله قاسياً فإن الاستقلال ما كان ليتحقق للسودان لولا الخلاف بين الشريكين اللذان يستعمران السودان وعرفا بالاستعمار الثنائي بين من يطمع في تحقيق وحدة وادي النيل ممثلاً في الحزب الوطني الاتحادي وحليفه طائفة الختمية، وبين حزب الأمة الذي يدعو للاستقلال تحت التاج البريطاني وتنصيب زعيمه ملكاً على السودان.
تحت رحم هذا الواقع شهد السودان مولد أكبر حزبين كلاهما ولد تحت حضن الخارج ولم يكن مولدهما سودانياً أغبش صافياً، حيث أن الحزب الوطني ولد في مصر تحت رحم وحدة وادي النيل، بينما ولد حزب الأمة تحت رحم ورعاية الإنجليز، وكلاهما بقيَ فرعاً لمن ولد تحت مظلته. واذا كان السودان شهد بعد ذلك مولد أحزاب أخرى في مراحل مختلفة، فإن مولدها لم يختلف عن مولد أحزاب الطائفتين؛ حيث ان مولد الأحزاب العقائدية سواء الحزب الشيوعي أو الحركة الإسلامية بعد فترة منهما فكلاهما ولد من الخارج أكثر من أن يولدا من رحم الداخل. وكما كان حال الحزبين الكبيرين خاضعان لطرفي الاستعمار الثنائي فالأحزاب العقائدية ولدت تحت رحمة طرفي الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين المتصارعين الغربي والشرقي. لهذا يمكن القول بكل ثقة أن السودان عبر مسيرته التاريخية لم يعرف حزباً سودانياً خالصاً مولداً ونشأة حتى الآن.
لكل هذا فإن ما يشهده السودان اليوم من تهديد لمستقبله ووحدته وبعد أن سادته لغة العنف وتعددت فيه جبهات القتال التي ترفع السلاح صغرت أم كبرت - فإن ما يحتاجه السودان اليوم وبإلحاح جبهة رفض وطنية عريضة لتحريره من الدكتاتورية العسكرية والمدنية ولإعادة صياغته مؤسسياً ديمقراطياً لا يسوده العنف، ومحققاً لطموحات كل أبنائه على قدم المساواة لكل مناطقه ومختلف عنصرياته محافظاً على وحدته وقادراً على بناء دولة حديثة محررة من الإرث السيء السالب لتاريخ العسكر ولأحزابه التى لا تقل سوءاً. ببناء واقع جديد، ولكن هل يمكن تحقيق جبهة وطنية رافضة بهذا المستوى. وحتى ذلك الوقت أقول (يا حليل الإنجليز) كان عهدهم هو الأفضل. ويبقى هذا سؤال يبحث عن الإجابة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق