ف) |
بزيارة السيد سلفا كير ميارديت للقدس تكون العلاقات بين إسرائيل والدولة الجديدة قد أخذت بعداً جديداً سيكون له ما بعده بالنسبة لدولة شمال السودان. وذلك ليس على المسار النفسي العاطفي ولا للموقف التقليدي من دولة إسرائيل، ولكن لأن إسرائيل لن تكتفي بممارسة حقها المشروع في إقامة علاقات ود وصداقة مع دولة الجنوب أو علاقة مصالح متبادلة بين الدولتين، لن تكتفي بذلك لأنها ببساطة في حالة حرب عنصرية وآيديولوجية والسودان الشمالي هدف مشروع لإسرائيل طالما تمسك باللسان العربي وبالإسلام. أبعد من ذلك فإن السودان خصوصاً وشرق أفر?قيا عموماً يمثل لإسرائيل أهمية خاصة، ذلك أن إسرائيل تبحث عن منفذ لتخرج من عزلتها الاقليمية، منفذ تمارس فيه التجارة والزراعة والثقافة، وقد ازدادات عزلتها بعد الفشل الذريع رغم كل المحاولات منذ انتهاء الخلافة الإسلامية العثمانية لجعل تركيا مرتعاً خصباً لمصالح إسرائيل رغم كل الاساليب القانونية والحيل السياسية والاغراءات الاقتصادية لاخراج تركيا من هويتها الاسلامية. ايضاً زاد من العزلة تفجر الثورة الإسلامية في ايران وثباتها على موقفها الحازم من دولة إسرائيل، وتجلى الفشل الذريع لإسرائيل في محيطها في عدم قدرتها حت? على اختراق لبنان البلد الصغير الذي وللمفارقة حمته طبيعة مجتمعه الطائفية من أن يكون لقمة سائغة للدولة المصنوعة.
إذاً فإن منطقة القرن الأفريقي هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، لذلك عملت منذ ستينيات القرن الماضي عملاً شاقاً متواصلاً لتجد لها موضع قدم في إريتريا وجيبوتي بعد تفكيك الصومال واضعافه.
في يوم 6/1/1991م وبعد أسبوعين فقط من انتهاء الاستفتاء على استقلال اريتريا، قام السيد أسياس افورقي بزيارة الى تل آبيب، وبذلك تكون زيارة السيد سلفا كير ميارديت قد تأخرت كثيراً. لأنها الزيارة التي بها تكتمل الصورة وبها تحول الجهد الإسرائيلي الذي بدأ في المنطقة منذ مايو 8491م من مرحلة المؤامرات والتفكيك والعمل تحت غطاء المخابرات الاميركية وغيرها من الدولة الاستعمارية، إلى مرحلة العمل العلني الذي تعزف فيه الاناشيد الوطنية على الهواء الطلق.
وبدأت إسرائيل التي نعترف لها بالعمل الدؤوب من أجل بقائها مستخدمة المال والعلم لخدمة أهدافها، ففي مجال العلوم اهتمت بالبحوث العلمية وترقية العلوم لخدمة اهدافها، وليس أدلّ على ذلك من تطوير علم القانون الى قانون دولي وقانون دولي جنائي وقانون انساني، وبناء المؤسسات العالمية التي تطوع هذه القوانين بانتقائية واضحة لخدمة مصالح إسرائيل، وغنى عن القول أن أكبر أساتذة القانون الدولي هم من اليهود.
أما في مجال المال فالأمر جلي وواضح، لكن الأغرب أن إسرائيل تستخدم أموال العرب للقضاء على وجودهم الثقافي اينما سمعت لهم بحس أو خبر. يقول الداعية أحمد ديدات في إحدى مناظراته «إن مجموع دخل السعودية من البترول وهي أكبر منتج في الشرق الاوسط كان 41 مليون دولار «أربعة عشر مليون دولار» في عام 8491م، حيث كان سعر بترولهم جبرياً ثمانية سنتات للبرميل الواحد. وبعد اعلان دولة إسرائيل في عام 8491م اقترح السيد بن جوريون الذهاب الى الولايات المتحدة لجمع الاموال، لكن قولدا مائير اقنعت بن جوريون ان الوطن أكثر حاجة اليه في الد?خل، وانها باعتبارها سيدة تستطيع ان تلعب دوراً أفضل في جمع المال من الاميركيين «المستثمرين في الزيت السعودي» وقد عادت بحصيلة شهر واحد بمبلغ واحد وخمسين مليون دولار، أي ما يعادل أكثر من ثلاث سنوات من دخل المملكة السعودية من الزيت». هذا مثال من أمثلة الجهود التي بذلها اليهود من أجل بقائهم. أما ما بذلوه من جهد مكنّهم من التوغل في القرن الإفريقي فهو لا يعكس فقط مقدار الجهود التي بذلوها والحيل التي استخدموها، لكنه بطريقة أخرى يفضح الغفلة التي يعيشها العرب الذين لا يجيدون إلا الصراخ كلما نجحت إسرائيل في اختراق من?قة ما.
وليس أدلّ على ذلك، أي من يقظة إسرائيل وغفلة العرب، ليس أدل من الموقف العربي الإسلامي، من الكفاح المسلح الذي قاده المجاهد الإريتري حامد ادريس عواتي 1691م تحت اسم جبهة التحرير الإريترية التي انشق عنها أسياس افورقي مكوناً تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا 0791م، ومنذ ذلك الوقت وهو يتلقى الدعم المتواصل الذي توج بلقاء المخابرات الإسرائيلية في منتصف 8791م، حيث أمنوا له دعماً مادياً قدره عشرون مليون دولار سنوياً، شريطة أن يحارب أسياس مشروع عروبة إريتريا وأسلمتها حرباً لا هوادة فيها، وقد اشترط أسياس ان يكون الدع? سرياً حتى لا يفقد دعم بعض الدول العربية». الصراع السياسي والثقافي وقضية الهوية - د. موسى محمد عمر ص 202.
وبحلول عام 0991م تحدث أسياس صراحة عن توجهاته في محاورة له مع جريدة «الحياة» رداً على الاسئلة التي تتعلق بالكيان الصهيوني والعرب، حيث قال: «ولا أرغب في مقاتلة إسرائيل.. ولن أعلن الحرب على إسرائيل لأنها ليست عدوي المباشرة حالياً» «لن أنضم الى محاور.. ولا نريد أموال العرب.. كما لا نريد دولة عربية» نفس المصدر ص 302.
إن من حق أسياس أن يقيم علاقاته مع من يشاء، ولكن ليس من حقه ابداً أن ينكل بمواطنيه فقط لانهم مسلمون، فقد ورد في جريدة «المسلمون الدولة» الصادرة في العاشر من مارس 9891م ص 3 «تعرض اكثر من ستة آلاف مسلمة في اريتريا للخطف والاغتصاب بمعدل خمس وعشرين جريمة شهرياً». إن ما حدث للمسلمين الاريتريين في فترة جهادهم المشروع من انتهاكات انسانية أمر تقشعر له الأبدان، ويمكن لأي باحث عن هذه الفترة أن يدرك مدى العذاب الذي حلّ بالمسلمين ونسائهم واراضيهم ودور عبادتهم، دون أن يسمع احد عن القانون الدولي او انتهاكات حقوق الاسلام،?بل تم بمنهجية مقصودة وتعتيم تام، ومع ذلك فإن الموضوع ليس صراعاً بين هوية وهوية بالنسبة لمجموعات تعايشت وتفاهمت في رقعة جغرافية واحدة بالنسبة لبلد مثل اريتريا.
يقول المفكر السوداني ابو القاسم حاج حمد في كتابه «السودان المأزق التاريخي» ص 676 «اذا اردنا تحديد الهوية الاريترية من خلال امتداداتها، فإنها اكبر من الحدود الجغرافية لاريتريا، فهي تمتد الى السودان واثيوبيا وجيبوتي، اي ان الخصوصية الكيانية الاريترية تمثل القاسم المشترك بين هذه الشعوب والبلدان، ومن هنا فإن إريتريا لن تجد ذاتها «القومية» او تحققها الا في اطار التلاحم والتكامل مع هذه الاقطار من حولها، فهي مهيأة ومؤهلة لأن تكون مركز اللقاء والتفاعل بين هذه الشعوب والبلدان، ضمن ما سبق لي ان طرحته بعنوان «كنفدرا?ية القرن الأفريقي» على ان تصبح اسمرا هي العاصمة الكنفدرالية، لكن إسرائيل ولاجل مصلحتها لا يمكن ان تترك موضوع تعايش الهويات لحراكه الطبيعي الذي تعايش به في الماضي، وها هو عوضاً عن العدالة الاجتماعية والإخاء والمواطنة يلجأ النظام الاريتري المدعوم من إسرائيل الى اساليب القهر والاستبداد في فرض الثقافة التجرينية على الشعب الاريتري المسلم الذي يشكل اكثر من 57% من سكان إريتريا، فقد اتخذ اجراءات تعسفية لعل أخطرها:
1- إلغاء اللغة العربية التي كانت تعتبر اللغة الرسمية لاريتريا.
2- إغلاق المعاهد الدينية والمدارس العربية.
وببساطة فهي سياسات تهدف إلى تغيير الخريطة السكانية والسياسية والثقافية للمجتمع الاريتري.
إن ما جرى للمجتمع الاسلامي في اريتريا هو ما يعد له الآن على نار هادئة وبكافة الوسائل ليطبق في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق. واستخدام الحركات المطلبية وتحويلها إلى صراع هوية لا يخدم مصالح هذه المجتمعات، بل يحقق أعلى الأهداف للدولة العنصرية.
إن إسرائيل لا تستخدم القوة العسكرية ولا البحوث والدراسات العلمية فحسب، بل تُسخِّر مراكز الفكر في اميركا واوربا للتأثير المباشر والعلني على القرارات السياسية داخل هذه البلاد، وأوضح مثال على ذلك ما يُعرف بمشروع القرن الأميركي الجديد الذي تم تأسيسه سنة 7991م من قبل شخصيات ناشطة وتملك شبكات شخصية متينة، وبدأت الفكرة بتصور من أجل «اعادة الدفاعات الاميركية» وقد ارسل فريق «مشروع القرن الاميركي» المختصر بـ «PNAC» الى الرئيس كلينتون رسالة قصيرة يقترحون فيها اجراء تغيير جذري في علاقات الولايات المتحدة مع منظمة الامم المتحدة واسقاط صدام حسين، فقد كتب الموقعون الثمانية عشر «ان قدرتنا على التأكد من أن صدام حسين لا يقوم بانتاج اسلحة الدمار الشامل قد ضعفت بشكل جوهري».... وعلى المدى البعيد فإن ذلك يعني أن إسقاط صدام حسين ونظامه ما يجب أن يصبح الآن هدف السياسة الخارجية الاميركية». ولك أيها القارئ أن تعلم انه بوصول جورج بوش الى الرئاسة 02/1/1002م فإن هذا الخطاب أصبح واقعاً. وأبعد من ذلك فإن الموقعين الثمانية عشر اصبحوا جزءا? من ادارة الرئيس بوش، وهم ديك شيتي ولويس ليبي وزلماى خليل زاده ودونلد رامسفيلد وروبرت زويلك، وهؤلاء هم مؤسسو مركز ومشروع القرن الاميركي».. ولا نحتاج لكثير عناء لنشير الى من أجل من تم تفكيك العراق وتدميره.
أما المؤسسة الاخرى فهي مجموعة الازمات الدولية «ICG» وهي مركز فكر للتأثير على سياسة أوربا الخارجية، وقد انشئت في 5991م، وهي ممولة من واحدة وعشرين حكومة، منها تسع عشرة اوربية وبعض المؤسسات الخاصة الاميركية «فورد، بيل غيتس ج سورس»، وتستخدم المجموعة 111 موظفاً متفرغين دائمين، وثلاثين مستشاراً بعقود، ويكرس 07% من قوته للبحث و03% للعمل المؤثر مثل استنفار السياسيين عندما تهدد أزمة ما بالانفجار. يقول ألان ديليترز نائب رئيس المجموعة «في عام 5002م ساهمنا في تجنب الحرب بين اثيوبيا واريتريا تحديدا بمنع الاتحاد الافريقي من ارسال القوات لحماية إثيوبيا» ص 511 مراكز الفك? - ستيفن بوشيه.
ولكن بالرغم من تسخير إسرائيل لكافة الامكانات لن تستطيع ان تنجح الا اذا سهلنا نحن لها الامور، وذلك عن طريق ارتكاب الاخطاء الوطنية وانتهاكنا لحقوق «المواطنة» وليس ادل من انتهاكنا لحقوق المواطنة من حكومة القاعدة العريضة التي كان الناس يأملون ان تكون مدخلاً للجمهورية الثانية، فاذا بها مذبح تم وأد الجمهورية الثانية على عتباته، فاذا سلمنا جدلاً بأن مجلس الوزراء يمثل واجهة للتحالفات السياسية بين الاحزاب، لماذا لا يمثل القصر لوحة وطنية لاقاليم السودان المختلفة؟ حتى لو كان من حق الرئيس ان يعين نوابه ومساعديه، اليس ?ن حقنا ان نتساءل ما هو الهدف من تعيينهم؟ أليس الهدف معالجة المسائل الواقعية اليومية التي تتفاقم كل لحظة؟ في هذه الحالة وعلى سبيل المثال فقط، أليس من الاجدى تعيين د. جلال تاور مساعداً للرئيس، فهو يعرف جنوب كردفان محلية محلية وحلة حلة وحارة حارة وبيتاً بيتاً، أليس هو الاقدر على المساعدة من ذاك الذي لا يفرق بينها وبين شمال كردفان؟ أليس السيد فرح عقار مفيداً جداً في هذه الفترة لرعاية المشورة الشعبية ولعب دور الوسيط بين القصر والقاعدة، وهو الذي أتى من عمق التمازج الثقافي في الدمازين؟
وإذا قامت الجمهورية الاولى على سياسة أهل الظاهر والباطن والكرامات، ما بال الجمهورية الثانية تسير على اثرها حذو النعل، رغم ان الجمهورية الاولى انتهت بانفصال الجنوب واورثت الجمهورية الثانية يونميد واربعة آلاف جندي اثيوبي يحرسون دار المسيرية، ومسائل تشيب لها الولدان معلقة بالبند السابع في مجلس الأمن؟ لماذا لم نتعلم من أخطاء الجمهورية الاولى؟ ومن المسؤول عن خنق العشم الوطني ووأد الجمهورية الثانية؟ إن ما يوفر التلاحم الوطني بعد أكثر من خمسين عاماً من الصراع السياسي النخبوي الفوقي، هو التغلغل وسط القواعد معتمدية?معتمدية ووحدة ادارية وحدة ادارية وفريقاً فريقاً و«حلة حلة». إن العمل القاعدي لن يتم في هذه الألفية باشارة أو تبعية، لكنه يتم عن طريق الفكر والحوار والايمان بالقيم وسط القواعد، تماماً كالذي جعل حزب العدالة في تركيا كياناً رائعاً وقوياً وصادقاً، وما جعل الانتخابات في مصر صادقة ومعبرة عن رأي أغلبية واعية ومدركة لما تقوم به، وهو الآن ما تقرأه في تونس من انضباط وايمان بالقاعدة التي تصنع الديمقراطية الحقيقية وليست ديمقراطية الاشارة والغيبيات. وكنا نعتقد بعد أكثر من عقدين من الزمان أن تخرجوا بملء ارادتكم وتقولوا ?نا الآن فهمناكم سنتوجه معكم لوضع معالم الجمهورية الثانية، أما ان تظلوا مترفين تتصارعون في السلطة والاستثمارات والجاه في الخرطوم دون أن تقنعوا حتى المناصير بجدوى التنمية وضرورة التضحية من أجلها، فكيف بمن أمضى أكثر من سبعة أعوام في المعسكرات، وبمن ما يزال يسمع صوت الرصاص. إن إسرائيل التي تجتهد لكي تبقى وتستخدم كافة الوسائل لا يمكن حد نفوذها ومحاربتها بالابتزاز العاطفي للمسلمين، بل بإقامة المبادئ والقيم الإسلامية التي تمت خيانتها بدون توبة وتجرد وايمان بالله العلي القديم الذي أمر بالعدل والإحسان، فإننا لا نست?يع ان نهزم قوى الاستبكار ورحم الله من قال:
«لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
إذاً فإن منطقة القرن الأفريقي هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، لذلك عملت منذ ستينيات القرن الماضي عملاً شاقاً متواصلاً لتجد لها موضع قدم في إريتريا وجيبوتي بعد تفكيك الصومال واضعافه.
في يوم 6/1/1991م وبعد أسبوعين فقط من انتهاء الاستفتاء على استقلال اريتريا، قام السيد أسياس افورقي بزيارة الى تل آبيب، وبذلك تكون زيارة السيد سلفا كير ميارديت قد تأخرت كثيراً. لأنها الزيارة التي بها تكتمل الصورة وبها تحول الجهد الإسرائيلي الذي بدأ في المنطقة منذ مايو 8491م من مرحلة المؤامرات والتفكيك والعمل تحت غطاء المخابرات الاميركية وغيرها من الدولة الاستعمارية، إلى مرحلة العمل العلني الذي تعزف فيه الاناشيد الوطنية على الهواء الطلق.
وبدأت إسرائيل التي نعترف لها بالعمل الدؤوب من أجل بقائها مستخدمة المال والعلم لخدمة أهدافها، ففي مجال العلوم اهتمت بالبحوث العلمية وترقية العلوم لخدمة اهدافها، وليس أدلّ على ذلك من تطوير علم القانون الى قانون دولي وقانون دولي جنائي وقانون انساني، وبناء المؤسسات العالمية التي تطوع هذه القوانين بانتقائية واضحة لخدمة مصالح إسرائيل، وغنى عن القول أن أكبر أساتذة القانون الدولي هم من اليهود.
أما في مجال المال فالأمر جلي وواضح، لكن الأغرب أن إسرائيل تستخدم أموال العرب للقضاء على وجودهم الثقافي اينما سمعت لهم بحس أو خبر. يقول الداعية أحمد ديدات في إحدى مناظراته «إن مجموع دخل السعودية من البترول وهي أكبر منتج في الشرق الاوسط كان 41 مليون دولار «أربعة عشر مليون دولار» في عام 8491م، حيث كان سعر بترولهم جبرياً ثمانية سنتات للبرميل الواحد. وبعد اعلان دولة إسرائيل في عام 8491م اقترح السيد بن جوريون الذهاب الى الولايات المتحدة لجمع الاموال، لكن قولدا مائير اقنعت بن جوريون ان الوطن أكثر حاجة اليه في الد?خل، وانها باعتبارها سيدة تستطيع ان تلعب دوراً أفضل في جمع المال من الاميركيين «المستثمرين في الزيت السعودي» وقد عادت بحصيلة شهر واحد بمبلغ واحد وخمسين مليون دولار، أي ما يعادل أكثر من ثلاث سنوات من دخل المملكة السعودية من الزيت». هذا مثال من أمثلة الجهود التي بذلها اليهود من أجل بقائهم. أما ما بذلوه من جهد مكنّهم من التوغل في القرن الإفريقي فهو لا يعكس فقط مقدار الجهود التي بذلوها والحيل التي استخدموها، لكنه بطريقة أخرى يفضح الغفلة التي يعيشها العرب الذين لا يجيدون إلا الصراخ كلما نجحت إسرائيل في اختراق من?قة ما.
وليس أدلّ على ذلك، أي من يقظة إسرائيل وغفلة العرب، ليس أدل من الموقف العربي الإسلامي، من الكفاح المسلح الذي قاده المجاهد الإريتري حامد ادريس عواتي 1691م تحت اسم جبهة التحرير الإريترية التي انشق عنها أسياس افورقي مكوناً تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا 0791م، ومنذ ذلك الوقت وهو يتلقى الدعم المتواصل الذي توج بلقاء المخابرات الإسرائيلية في منتصف 8791م، حيث أمنوا له دعماً مادياً قدره عشرون مليون دولار سنوياً، شريطة أن يحارب أسياس مشروع عروبة إريتريا وأسلمتها حرباً لا هوادة فيها، وقد اشترط أسياس ان يكون الدع? سرياً حتى لا يفقد دعم بعض الدول العربية». الصراع السياسي والثقافي وقضية الهوية - د. موسى محمد عمر ص 202.
وبحلول عام 0991م تحدث أسياس صراحة عن توجهاته في محاورة له مع جريدة «الحياة» رداً على الاسئلة التي تتعلق بالكيان الصهيوني والعرب، حيث قال: «ولا أرغب في مقاتلة إسرائيل.. ولن أعلن الحرب على إسرائيل لأنها ليست عدوي المباشرة حالياً» «لن أنضم الى محاور.. ولا نريد أموال العرب.. كما لا نريد دولة عربية» نفس المصدر ص 302.
إن من حق أسياس أن يقيم علاقاته مع من يشاء، ولكن ليس من حقه ابداً أن ينكل بمواطنيه فقط لانهم مسلمون، فقد ورد في جريدة «المسلمون الدولة» الصادرة في العاشر من مارس 9891م ص 3 «تعرض اكثر من ستة آلاف مسلمة في اريتريا للخطف والاغتصاب بمعدل خمس وعشرين جريمة شهرياً». إن ما حدث للمسلمين الاريتريين في فترة جهادهم المشروع من انتهاكات انسانية أمر تقشعر له الأبدان، ويمكن لأي باحث عن هذه الفترة أن يدرك مدى العذاب الذي حلّ بالمسلمين ونسائهم واراضيهم ودور عبادتهم، دون أن يسمع احد عن القانون الدولي او انتهاكات حقوق الاسلام،?بل تم بمنهجية مقصودة وتعتيم تام، ومع ذلك فإن الموضوع ليس صراعاً بين هوية وهوية بالنسبة لمجموعات تعايشت وتفاهمت في رقعة جغرافية واحدة بالنسبة لبلد مثل اريتريا.
يقول المفكر السوداني ابو القاسم حاج حمد في كتابه «السودان المأزق التاريخي» ص 676 «اذا اردنا تحديد الهوية الاريترية من خلال امتداداتها، فإنها اكبر من الحدود الجغرافية لاريتريا، فهي تمتد الى السودان واثيوبيا وجيبوتي، اي ان الخصوصية الكيانية الاريترية تمثل القاسم المشترك بين هذه الشعوب والبلدان، ومن هنا فإن إريتريا لن تجد ذاتها «القومية» او تحققها الا في اطار التلاحم والتكامل مع هذه الاقطار من حولها، فهي مهيأة ومؤهلة لأن تكون مركز اللقاء والتفاعل بين هذه الشعوب والبلدان، ضمن ما سبق لي ان طرحته بعنوان «كنفدرا?ية القرن الأفريقي» على ان تصبح اسمرا هي العاصمة الكنفدرالية، لكن إسرائيل ولاجل مصلحتها لا يمكن ان تترك موضوع تعايش الهويات لحراكه الطبيعي الذي تعايش به في الماضي، وها هو عوضاً عن العدالة الاجتماعية والإخاء والمواطنة يلجأ النظام الاريتري المدعوم من إسرائيل الى اساليب القهر والاستبداد في فرض الثقافة التجرينية على الشعب الاريتري المسلم الذي يشكل اكثر من 57% من سكان إريتريا، فقد اتخذ اجراءات تعسفية لعل أخطرها:
1- إلغاء اللغة العربية التي كانت تعتبر اللغة الرسمية لاريتريا.
2- إغلاق المعاهد الدينية والمدارس العربية.
وببساطة فهي سياسات تهدف إلى تغيير الخريطة السكانية والسياسية والثقافية للمجتمع الاريتري.
إن ما جرى للمجتمع الاسلامي في اريتريا هو ما يعد له الآن على نار هادئة وبكافة الوسائل ليطبق في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق. واستخدام الحركات المطلبية وتحويلها إلى صراع هوية لا يخدم مصالح هذه المجتمعات، بل يحقق أعلى الأهداف للدولة العنصرية.
إن إسرائيل لا تستخدم القوة العسكرية ولا البحوث والدراسات العلمية فحسب، بل تُسخِّر مراكز الفكر في اميركا واوربا للتأثير المباشر والعلني على القرارات السياسية داخل هذه البلاد، وأوضح مثال على ذلك ما يُعرف بمشروع القرن الأميركي الجديد الذي تم تأسيسه سنة 7991م من قبل شخصيات ناشطة وتملك شبكات شخصية متينة، وبدأت الفكرة بتصور من أجل «اعادة الدفاعات الاميركية» وقد ارسل فريق «مشروع القرن الاميركي» المختصر بـ «PNAC» الى الرئيس كلينتون رسالة قصيرة يقترحون فيها اجراء تغيير جذري في علاقات الولايات المتحدة مع منظمة الامم المتحدة واسقاط صدام حسين، فقد كتب الموقعون الثمانية عشر «ان قدرتنا على التأكد من أن صدام حسين لا يقوم بانتاج اسلحة الدمار الشامل قد ضعفت بشكل جوهري».... وعلى المدى البعيد فإن ذلك يعني أن إسقاط صدام حسين ونظامه ما يجب أن يصبح الآن هدف السياسة الخارجية الاميركية». ولك أيها القارئ أن تعلم انه بوصول جورج بوش الى الرئاسة 02/1/1002م فإن هذا الخطاب أصبح واقعاً. وأبعد من ذلك فإن الموقعين الثمانية عشر اصبحوا جزءا? من ادارة الرئيس بوش، وهم ديك شيتي ولويس ليبي وزلماى خليل زاده ودونلد رامسفيلد وروبرت زويلك، وهؤلاء هم مؤسسو مركز ومشروع القرن الاميركي».. ولا نحتاج لكثير عناء لنشير الى من أجل من تم تفكيك العراق وتدميره.
أما المؤسسة الاخرى فهي مجموعة الازمات الدولية «ICG» وهي مركز فكر للتأثير على سياسة أوربا الخارجية، وقد انشئت في 5991م، وهي ممولة من واحدة وعشرين حكومة، منها تسع عشرة اوربية وبعض المؤسسات الخاصة الاميركية «فورد، بيل غيتس ج سورس»، وتستخدم المجموعة 111 موظفاً متفرغين دائمين، وثلاثين مستشاراً بعقود، ويكرس 07% من قوته للبحث و03% للعمل المؤثر مثل استنفار السياسيين عندما تهدد أزمة ما بالانفجار. يقول ألان ديليترز نائب رئيس المجموعة «في عام 5002م ساهمنا في تجنب الحرب بين اثيوبيا واريتريا تحديدا بمنع الاتحاد الافريقي من ارسال القوات لحماية إثيوبيا» ص 511 مراكز الفك? - ستيفن بوشيه.
ولكن بالرغم من تسخير إسرائيل لكافة الامكانات لن تستطيع ان تنجح الا اذا سهلنا نحن لها الامور، وذلك عن طريق ارتكاب الاخطاء الوطنية وانتهاكنا لحقوق «المواطنة» وليس ادل من انتهاكنا لحقوق المواطنة من حكومة القاعدة العريضة التي كان الناس يأملون ان تكون مدخلاً للجمهورية الثانية، فاذا بها مذبح تم وأد الجمهورية الثانية على عتباته، فاذا سلمنا جدلاً بأن مجلس الوزراء يمثل واجهة للتحالفات السياسية بين الاحزاب، لماذا لا يمثل القصر لوحة وطنية لاقاليم السودان المختلفة؟ حتى لو كان من حق الرئيس ان يعين نوابه ومساعديه، اليس ?ن حقنا ان نتساءل ما هو الهدف من تعيينهم؟ أليس الهدف معالجة المسائل الواقعية اليومية التي تتفاقم كل لحظة؟ في هذه الحالة وعلى سبيل المثال فقط، أليس من الاجدى تعيين د. جلال تاور مساعداً للرئيس، فهو يعرف جنوب كردفان محلية محلية وحلة حلة وحارة حارة وبيتاً بيتاً، أليس هو الاقدر على المساعدة من ذاك الذي لا يفرق بينها وبين شمال كردفان؟ أليس السيد فرح عقار مفيداً جداً في هذه الفترة لرعاية المشورة الشعبية ولعب دور الوسيط بين القصر والقاعدة، وهو الذي أتى من عمق التمازج الثقافي في الدمازين؟
وإذا قامت الجمهورية الاولى على سياسة أهل الظاهر والباطن والكرامات، ما بال الجمهورية الثانية تسير على اثرها حذو النعل، رغم ان الجمهورية الاولى انتهت بانفصال الجنوب واورثت الجمهورية الثانية يونميد واربعة آلاف جندي اثيوبي يحرسون دار المسيرية، ومسائل تشيب لها الولدان معلقة بالبند السابع في مجلس الأمن؟ لماذا لم نتعلم من أخطاء الجمهورية الاولى؟ ومن المسؤول عن خنق العشم الوطني ووأد الجمهورية الثانية؟ إن ما يوفر التلاحم الوطني بعد أكثر من خمسين عاماً من الصراع السياسي النخبوي الفوقي، هو التغلغل وسط القواعد معتمدية?معتمدية ووحدة ادارية وحدة ادارية وفريقاً فريقاً و«حلة حلة». إن العمل القاعدي لن يتم في هذه الألفية باشارة أو تبعية، لكنه يتم عن طريق الفكر والحوار والايمان بالقيم وسط القواعد، تماماً كالذي جعل حزب العدالة في تركيا كياناً رائعاً وقوياً وصادقاً، وما جعل الانتخابات في مصر صادقة ومعبرة عن رأي أغلبية واعية ومدركة لما تقوم به، وهو الآن ما تقرأه في تونس من انضباط وايمان بالقاعدة التي تصنع الديمقراطية الحقيقية وليست ديمقراطية الاشارة والغيبيات. وكنا نعتقد بعد أكثر من عقدين من الزمان أن تخرجوا بملء ارادتكم وتقولوا ?نا الآن فهمناكم سنتوجه معكم لوضع معالم الجمهورية الثانية، أما ان تظلوا مترفين تتصارعون في السلطة والاستثمارات والجاه في الخرطوم دون أن تقنعوا حتى المناصير بجدوى التنمية وضرورة التضحية من أجلها، فكيف بمن أمضى أكثر من سبعة أعوام في المعسكرات، وبمن ما يزال يسمع صوت الرصاص. إن إسرائيل التي تجتهد لكي تبقى وتستخدم كافة الوسائل لا يمكن حد نفوذها ومحاربتها بالابتزاز العاطفي للمسلمين، بل بإقامة المبادئ والقيم الإسلامية التي تمت خيانتها بدون توبة وتجرد وايمان بالله العلي القديم الذي أمر بالعدل والإحسان، فإننا لا نست?يع ان نهزم قوى الاستبكار ورحم الله من قال:
«لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق