الثلاثاء، 10 يناير 2012

مأساة وطن تقاذفته الحيرة !

شهد السودان منذ استقلاله العديد من أنماط الحكم، بدءاً بالديمقراطية الليبرالية القائمة على النمط الغربي، ولكنّ ذلك لم يدم طويلاً، فسرعان ما قضت على الديمقراطية الوليدة الصراعات الطائفية والطموحات الحزبية . وكان أن شهد السودان نتيجة لذلك الوضع أول انقلاب عسكري ، ولعله كان تجربة فريدة لأنّه كان عملية تسليم وتسلم، وكان الحكم تقليدياً، عالج كل المشكلات بطريقة تقليدية فنتج عن ذلك تفاقم مشكلة الجنوب . وفي وقتها كانت طموحات الديمقراطية والحرية مازالت مترسبة في نفوس ذلك الجيل الذي تربى على مقاومة الاستعمار ورفض الظ?م، لذلك قام أول ربيع عربي في المنطقة وأطاح بذلك النظام عبر ثورة اكتوبر 1964م الشهيرة، وعادت البلاد مرة اخرى الى الديمقراطية والتعددية عبر ثورة نستطيع أن نباهي بها الربيع العربي الذي يتشدّق به الاعلاميون الآن على أنّه فريد زمانه.
لكن يبدو أنّ الذين يتحدثون باسم الديمقراطية والتعددية لم يستوعبوا الدرس ولم يقدروا التضحيات الكبيرة التي قدمها السودانيون من أجل أن ينصلح حال الوطن وبدت الامور تسوء ويعود التاريخ الى الوراء.. فعاش الناس في ذات الأزمات القديمة بتفاصيلها وتجدد الصراع الحزبي بذات الكيفية.. وبدلاً من الاتجاه نحو الاصلاح والتغيير اتجهت الأحزاب نحو الخلافات واصبحت الامور لا تبشر بخير واتسعت الهوة بين الطبقات بصورة خطيرة وسرعان ما عادت الامور للمربع الاول مرة اخرى ، وظهرت المشكلات أكثر سفوراً وطغى الاستخدام السيئ للحريات وللنظام ?لديمقراطي. وكان من الطبيعي ان تكون هنالك حركة يسارية في السودان كامتداد للموجة اليسارية التي كانت سائدة حينها ، وأصبح التيار اليساري هو الأعلى صوتاً فى الشارع رغم محدودية أنصاره ، فلم تجد الأحزاب طريقة لعرقلة مسيرته سوى حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان باستغلال حادثة لم يتم التحري حولها جيداً. كما أنّ الأوضاع العالمية كانت تساند ما ذهبت اليه الأحزاب من حل للحزب الشيوعي ، حيث كان الغرب فى ذروة حربه الباردة مع المعسكر الشرقى ، وكان يرى انّه لا يحق للشيوعية أن تتوسع في مناطق يعتبرها الغرب مناطق نفوذ ت?ليدية له ، ومرة اخرى وجدنا انفسنا أسرى لما شكونا منه، وهو الانقلاب العسكري ، وتباكينا على الديمقراطية كما نتباكى دائما على ما يمضي .
وجاء انقلاب مايو 1969م.. وفي ذلك العهد جرب النظام مختلف التوجهات من اليسار الى الوسط ثمّ اليمين الى أن سقط النظام بعد أن استهلك كافة أنواع التحالفات وأصبح فى آخر أيامه عارياً من أى غطاء سياسى . ثم جاء عهد حزبي آخر بعد ثورة ابريل المجيدة والتي مازالت كل الأحزاب تدّعي ملكيتها وصناعتها ، ولم تستطع الأحزاب التي ضعفت ووهنت أن تحافظ على البلاد من التمرد الذي أصبح يحتل المدن تباعاً، وضاعت هيبة الدولة من خلال الهزائم المتلاحقة للقوات المسلحة والنهب المسلح في دارفور والتراجع الاقتصادي الذي أثر بصورة قوية على حياة ا?ناس ، وأعاد التاريخُ نفسه مرةً أخرى ، فجاء انقلاب الانقاذ 1989م. وجاءت حكومة مختلفة عن طريق انقلاب فيه تمثيليات معروفة وتبادل أدوار بين الحركة الاسلامية وكوادرها في القوات المسلحة ، ورفع الثوار شعارات كبيرة ليسودوا العالم أجمع.. وحدث ماهو معروف لكلّ الناس ، وكانت النتيجة أن البلاد عُزلت عن العالم بل وحتى من محيطها الاقليمي . ولم يمضِ المشروع السياسي الذي جاءوا به «المشروع الحضاري» وتعثر لأن مفاهيم الثورة طغت على ادارة الدولة حتى حدثت المفاصلة الشهيرة. و رغم محاولات التقارب مع بعض الدول العربية ، الا أنّ?علاقات السودان الخارجية ظلت متوترة مع الدول الغربية ومعظم الدول العربية ، وما استطعنا أن نحول الأعداء الى اصدقاء ، فظلوا يطاردوننا وازدادت الضغوط الخارجية مع فشل «المشروع الحضاري» في جمع السودانيين وتوحيد الجبهة الداخلية.
هنا كان لابد أن تحدث وقفة للمراجعة ، وبعدها كانت اولى الخطوات التي اتخذت هي السعي لوقف الحرب والتفاوض مع الجنوبيين ، فكانت اتفاقية السلام الشامل بمنتجع نيفاشا 2005م والتي استجاب لها العالم ووقف شاهداً عليها وضامناً لها. ورغم ظهور التمرد في دارفور في العام 2003م الذي حمل السلاح ووجد من يعاونه ، الا أنّ التوصل لاتفاق سلام مع الجنوب فتح باب الأمل في ايقاف حرب دارفور ، كما أنّ قبول الحكومة بالسلام شجع العالم على فتح باب الحوار مع الخرطوم.. الا أنّ النتائج كانت كارثية على البلاد والعباد بعد أن تعثر الشريكان ?المؤتمر الوطني والحركة الشعبية» في تطبيق بنود نيفاشا بالصورة التي وضعت بها والتي افترضت أن الشريكين سيعملان على ارساء السلام وتعظيم جاذبية الوحدة ، لكنّ الذي حدث على أرض الواقع هو أن الاستقرار لم يدم طويلاً .. ولم تتحقق الوحدة.
انّ هذا السرد التاريخي الموجز يوضح لنا بجلاء أننا ظللنا نعالج مشكلاتنا - وهي مشاكل قديمة متجددة - بنفس العقلية القديمة التي تتشبث بالنظرة الحزبية الضيقة عديمة الفائدة والتي تعلي مصالح الحزب على مصالح الوطن، فكانت النتيجة اننا خسرنا الجنوب ولم نربح السلام . ويبدو هذا أكثر وضوحاً الآن من أيِّ وقتٍ مضى ، اذ أنّ هنالك نذر حرب بين الدولتين الجارتين واتهامات متبادلة ، وهو وضع يحتاج لمعالجة ولا بديل فيه للتفاوض سوى التفاوض ، ونقصد بذلك التفاوض مع الجنوبيين حول القضايا العالقة ، وملاقاتهم في قاعات التفاوض بدلاً ع? ملاقاتهم في ساحات المعارك. وقد كان من الممكن ان نعوض خسارتنا من فقدان الجنوب بتأمين الاستقرار في مجالات اخرى ، ونستعيض عن الوحدة الجغرافية والسياسية بوحدة اقتصادية فنحن اولى بالجنوب من شرق افريقيا وجنوبها. وقد سرنى أن يتداعى نفر كريم من أبناء هذا الوطن ومن نخبه المستنيرة وعلى رأسهم الأخ البروفسير الطيب زين العابدين وآخرون لتحويل تجمعهم السابق والذى كان يسمى «لجنة دعم الوحدة الطوعية» الى جمعية صداقة وأخوة بين دولتى الشمال والجنوب ، ولو كانت هناك فى القاموس مفردة أكثر حميمية من كلمة «الأخوة» لأقترحتها عليه? ، فمثل هذا التوجه الصائب والرشيد هو ما نحتاجه فى مثل هذه الأيام التى يسودها الهتاف المتشنج والتصعيد الذى يعصف بمصالح الشمال والجنوب معاً .
انّنا نحتاج الآن الى الحكمة والتأني ودراسة التاريخ أكثر من ايِّ وقتٍ مضى ، فأنبوب النفط الذى يربط الشمال بالجنوب ينبغى أن يكون شريان تواصل وليس برميل بارود ، وأسواق الجنوب البكر المتعطشة للاستثمار من الممكن أن تصبح سوقاً حصرية لمنتجات الشمال وسلعه المختلفة بدءاً بالملح ومروراً بالأسمنت والسكر والذرة وزيوت الطعام والصناعات الغذائية وأنتهاءً بالحصى «الخرصانة» التى تحتاجها طرق الجنوب غير المسفلتة ومبانيه المزمع انشاؤها ، والتى تسعى حكومة الجنوب لاستيرادها من أعالى البحار بينما هى وافرة فى وطنهم السابق . كما ?ن ميناء بورتسودان يمكن أن يكون بوابة آمنة لاحتياجات دولة الجنوب من الأسواق العالمية ، وهى بلا شك فى غياب مناخات الاحتقان السياسى أكثر أماناً لمصالح الجنوب من موانىء شرق أفريقيا . ويجب أن لا نكرر نموذج سياسات «المكاجرة» بين أثيوبيا وارتريا التى تصر على ابقاء أثيوبيا دولة «مغلقة» وتعمل على عدم تمكينها من استخدام الموانىء الاريترية رغم الفائدة الاقتصادية المرجوة لاقتصاد البلدين تحت ظل هذه الشراكة . ان مثل هذه الشراكة الاقتصادية بين شمال وجنوب السودان فى أجواء سياسية غير محتقنة تمثل دعامة أساسية للاستقرار الس?اسى فى البلدين وستقدم أكبر اسهام في معالجة مشكلاتنا التي ظلت تتعقد يوماً بعد يوم وعاماً اثر عام ، لا سيما مشكلة العلاقات المتوترة مع الجنوب.
اذاً لا بد من تغيير نهجنا في التعامل مع الدولة الجنوبية ، وتحويل حالة العداء وتصدير المشكلات الى حالة من التفاهم وتصدير المصالح والمنافع . ومن المهم أن نترك روح التعالى السياسى وسياسات «طبظ العين باصبع اليد» سواء فى جوبا أو الخرطوم ، وأن لا نضع في اعتبارنا أنّنا نريد أن نساعدهم في حلّ مشكلاتهم ، فنحن أيضاً لنا مشكلاتنا التي ستجد طريقها للحل اذا ما حُلت مشكلة العلاقة مع الجنوب، فالمنفعة هُنا متبادلة، ولا فضل لأحدٍ على أحد، بل هي المصلحة التي تجمع الحكومتين والشعبين، فلا أقل من أن نستجيب لنداء العقل.. ونحكّ? المنطق في علاقتنا بجارتنا الجنوبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق