الأحد، 22 يناير 2012

غازي صلاح الدين.. من المناجاة، إلى مواجهة الذات

غازي صلاح الدين.. من المناجاة، إلى مواجهة الذات
د. فضل الله أحمد عبد الله :

«المناجاة الفردية».. هي من المواضعات والاصطلاحيات الدرامية المسرحية.
وهي خطبة طويلة - إلى حد ما - تلقيها شخصية واحدة بمفردها ولنفسها في صوت مسموع دون مقاطعة.
وفي هذه الإلقاء الانفعالية، تعبر الشخصية عن بعض أفكارها الداخلية العميقة ودوافعها، أو تهدف إلى اخطار المتفرجين بمعلومات معينة ترتبط بما يجري في المسرحية من وقائع. فمسرحية «دكتور فاوست» لمارلو تفتح بخطبة تقديمية في «مناجاة فردية» يعبر فيها عن طموحاته، وتختتم بأخرى يعبر فيها عن ندمه، وتعاسته، وأمنيته المتأخرة في الهروب من المصير.
كما اشتهرت عن شكسبير مناجاة هاملت الفردية: «أكون، أو لا أكون.. تلك هي القضية ...الخ».
د. غازي صلاح الدين، يتماثل في نظري، وتلك الحالة - المناجاة الفردية - لعدد من السنوات مضت، متحركاً في كل مناطق وجغرافية خشبة المسرح السياسي.
إلا أنه ينتقل الآن، إلى وسط الوسط - أكثر مناطق خشبة المسرح تأكيداً - في خطاب مباشر للجمهور، عن مناقضات الحركة الإسلامية التي تستوجب الوقوف عندها، نقداً حصيفاً، وتبصراً «لله والوطن والتاريخ».
د. غازي صلاح الدين، هو الآن من أبرز المثقفين الإسلاميين اتصالاً بمفاصل الحكم «حزباً ودولة».
وهو أكثرهم اتصالاً أيضاً، بمعارف العصر وقضاياه، ولا سيما ما يتصل منها بمسائل الحداثة والعقلانية الواقعية. وبرغم تخصصه الدقيق في علم الطب، إلا أنه وفي تقديري ومن خلال قراءاتي المتأملة لكثير من أطروحاته، ومناقشاتي المباشرة له، يمكن القول بأنه الآن، أقرب إلى حالة الأكاديمي المختص في سوسيولوجيا العلم.
وتلتمع قيمة د. غازي صلاح الدين، كونه من أكثر الشخصيات استقامة وانحيازاً إلى مبادئ الحركة الإسلامية الصميمة، لا في مستوى التفكير والتنظير فحسب، بل حتى على مستويات الممارسة الفعلية.
فهو لا يلعب إلا في الملعب النظيف، عفيف في يده، وعفيف في لسانه.
حالة استثنائية نادرة، دون غيره، يمشي كل هذه السنوات في مفاصل الدولة والحزب، بقدراته الذهنية فقط دون أن ينزلق مع المنزلقين في فتنة السلطان والمتطلعين إلى الرفاه والحياة الناعمة.
ولم تتمكن إلى الآن، أن تجتذبه، أي دائرة من دوائر التسابق للاحتفاظ بالمصالح الخاصة، أو العرقية أو القبائلية أو العشائرية.
ظل سيد نفسه، وسيداً للفكر الشاق باهظ التكاليف في هذا الزمان.
وظل باستمرار مكتوباً بنار التساؤل وقلق البحث عن حلول لمظاهر المشروع الفكري النهضوي للحركة الإسلامية في السودان، وكيف أن الطموح لم يستطع ملامسة سقوفات الدولة الوطنية.
وقفت عند كثير من مقالاته، وجالسته مناقشاً، عقل بعقل ورأي برأي، فوجدت في تشخيصه وفي نقده وتساؤلاته، أسئلة هي أشبه ما تكون بالأسئلة الكبرى التي ألقاها المفكر العربي «برهان غليون» وهو يشخص النكسة العربية قائلاً «لماذا يظهر تأريخ العرب منذ محمد علي - على الأقل إلى اليوم - كسلسلة متصلة من الاخفاقات، على جميع الأصعدة، وكعودة دائمة إلى الصفر»... ثم يجيب هو نفسه:
«بهذا تكون الأنظمة قد أنجزت بنجاح المهمة التأريخية التي أوكلت إليها: تحقيق شروط زوال واندثار الأمة ذاتها وإلحاقها كمخيمات عمل ولجوء بالنظام العالمي السائد».
ويذهب «برهان غليون» في نقده للحالة العربية قائلاً: «إن نظامنا الحديث منذ عصر النهضة إلى اليوم لا يقوم إلا على ثلاثة مبادئ:
- النهب وحصيلته الأفقار
- والقهر وحصيلته الاسترقاق والاستعباد السياسي.
- والترجمة والتقليد وحصيلتهما الجهل وقصور نشاطات الحياة على النشاط الأولى البدائي البيلوجي.. من أين يأتي النصر.
أقحم «برهان غليون» مساحات الذهن العربي في سبيل ايقاظه وشحذه، دافعاً المثقفين إلى تحديد مواقف واضحة إزاد الحالة العربية وما يخص مطلوبات الديمقراطية ومفهوماتها.
غازي صلاح الدين، في اتجاهاته الفكرية، لا يتسامح أبداً في مسألة محاولات إقصاء الأفكار والمبادرات، وهذا ما شهدنا به وهو يقودنا في الكتلة البرلمانية للمؤتمر الوطني، عندما رأينا ضرورة صياغة مذكرة إلى رئيس المؤتمر الوطني المشير عمر حسن أحمد البشير ندفع بها اتجاهات التغيير والإصلاح في ادارة الدولة. فقد كان رأي د. غازي، أن ذلك حق من الحقوق، لا يمكن لأحد أن يقف ضدها، باعتبار أن المساهمة في البناء هي ليست حكراً على أحد، أو طبقة من الطبقات، أو إلهام شخصي.
فإن الإدلاء بالرأي والجهر به، في ما يخص المصير المشترك حق لن يبقى محظوراً على غير المحظوظين...
وفي ندوة الأربعاء 18 يناير 2011 بقاعة الشارقة في جامعة الخرطوم يقول د. غازي: «حري بالحركات الإسلامية أن تقف في الجانب الصحيح من حركة التأريخ في مسألة الديمقراطية. عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بأبواب مكة في السنة السادسة للهجرة وكان يريد العمرة اعترضته قريش فقال: «ويح قريش لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس» إذن كل ما كان يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم، هو حرية الدعوة، لأن الدعوة إلى الخير والبر لا ينفعها شيء مثل الحرية.
ولن يفيد الإسلام وأتباعه من شيء قدر ما سيفيدون من الحرية والضمانة الأقوى لبقاء المد الإسلامي هو أن يرسّخ الإسلاميون أنفسهم بالتعاون مع الآخرين» ويضيف د. غازي موجهاً حديثه للإسلاميين في دول الربيع العربي قائلاً: «فهل سيعي الإسلاميون دروس التأريخ؟».
أم أن دورتهم في قيادة شعوبهم ستكون تكراراً لمسالك الاخفاق التي سلكها كثيرون قبلهم؟
من حسن حظهم أنهم اليوم يمتلكون تحديد الإجابة، وسيأتي يوم لا يمتلكون فيه تحديد الإجابة، يومئذ سنن التأريخ هي التي ستحدد الإجابة «فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل».
يأسس د. غازي صلاح الدين في مفهوماته النظرية على ضرورة وجود النقد بوصفه البناء العازل الموضوعي الذي يرفض القداسة في الممارسة السياسية، باعتبارها فعل بشري.
فالنقد يؤسس لكل أنواع الخلاف والاختلاف، ويخطئ من يرى أن الديمقراطية يمكن أن تكون بدون هذا النقد. فقمع النقد بأي صورة من الصور، يعني آحادية الرزي، ويقول: «إن قدرة الحركات الإسلامية على فعل ذلك يتناسب باضطراد مع قدرتها على تأسيس حركة سياسية خلاقة ومستنيرة تفجر وعياً جديداً بداخلها وتوافقاً بينها وبين مجتمعاتها، وهو ما يطرح عليها أن تحدد ما إذا كانت ستختار أن تكون الحركة السياسية التي تنشؤها هي حركة تيار سياسي عريض أم ستقنع بأن تصبح مثل أحزاب اسرائيل الدينية، حركات القضية الواحدة». ويختط د. غازي صلاح الدين لنفسه طريقاً وسطاً في كل الأحداث الجسام وفي استقلالية تامة بأفكار يجترحها كمثقف يؤمن بأدواره.
منتجاً خطابه الخاص المغاير للخطابات الجدلية الخالية من الحلول المبتكرة، ولا تملك سوى مواجهات فقهية مكرورة لا صلة لها بقضايا الحياة الحقيقية. أنه المنهج النقدي العلمي الذي يكشف ويفسر في إشارة لمحاسن كل مسعى ومثالبه، خارج دوائر التعصب وخارج سياق وحدانية الموقف.
وهذا منهج الابداع واكتشاف الذات، لا مركزية فيه للنموذج السلف، ولا تماهياً مع الآخر الثقافي (الغرب). ولا توفيقية ساذجة.
كما هو يدعوا إلى أهمية ملاحظة تحدي التحديث، التحديث بكل وعوده، يمثل عنده أقوى محرك للمجتمعات العربية والإسلامية، فالناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم ومذاهبهم السياسية يرغبون في حياة أفضل، وهم يرون في تجارب الإنسانية أن التحديث المستند إلى قوة العلم يحل المشكلات المعقدة ويغير حياة الناس إلى الأحسن والأكرم. المعضلة التي ستواجهها الحركات الإسلامية هي أن تثبت أن التوفيق بين الإسلام والتحديث ممكن، بل من واجبها أن تثبت أن الرؤية الإسلامية يمكنها أن تدفع عملية التحديث بأكثر مما تفعله الرؤى السياسية الأخرى.
يعيد غازي، صياغة أكثر القضايا تعقيداً في الحركة الإسلامية «النظرية والتطبيقية».. ممارساً بما يعرف بعملية التغذية العكسية، والتي تكون دائماً من خلال التفاعل مع الواقع والتأثير عليه.
باعتبار أن ثقافة المجتمع بدورها تؤثر على المثقف نفسه، وبهذا يكون تكامل الأدوار بين المثقف ومجتمعه في المنتج الفكري. فالمثقف لا يمكن أن يؤثر في مجتمعه بتمثل ثقافة أخرى. وهذا ما يؤكده «برهان غليون» بقوله: «بالرغم من وجود نمط خاص لفاعلية المثقفين في عملية تحقيق السياسة في النظم الحديثة، إلا أن هذا النمط لا ينتج بالضرورة المواقع والمهمات نفسها في كل الحالات. ففاعلية المثقف العربي في هذا النظام الاجتماعي الحديث لا تتطابق بالضرورة مع تلك التي تميز المثقف الغربي في النظام نفسه، وسبب ذلك هو اختلاف السياق التأريخي وتبدل الظروف التي يعيش فيها النظام».
على هذا الأساس، يتحسس غازي صلاح الدين القضايا والمشكلات بصورة تختلف كثيراً من أبناء جيله المتنفذين، نظراً للوعي والمعرفة التي يشتغل عليهما كمثقف، تجاه الربط بين الفكر والواقع.
غازي صلاح الدين السياسي المثقف، في واقع شديد الالتباس والتعقيد، أمامه مظاهر تغيير ولا تغيير، دعوات للإصلاح ومحاولات، وليس سوى الاخفاق المتصل، والركون في دائرة الترقيع، والعودة إلى الصفر.
هذه مسارات الواقع السوداني... وأغلب المثقفين خارج دائرة الفعل....
ومنهم من ترك حتى انتاج الأسئلة...
ولكن غازي صلاح الدين ووفقاً لروية كثير من المثقفين، أنه أكثر الناس جرأة لكسر «جرّة التابو»... يفتح مستغلق الأشياء بالأسئلة الجريئة... أسئلة ترفض التكرار وتجريب المجرب.
أسئلة تتحرك إلى الأمام، من المناجاة الفردية إلى مواجهة الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق