الخميس، 10 مارس 2011

في ليبيا.. الشعب يريد إسقاط العقيد


عندما تولى العقيد معمر القذافي مقاليد الحكم في ليبيا عبر انقلاب عسكري في الفاتح من سبتمبر 1969م، كان مفتاح سر ثورة الفاتح من سبتمبر «القدس» تأكيداً على عروبة الثورة الليبية ودفاعها عن القدس وقضية فلسطين المركزية، قضية كل العرب. لكن سرعان ما انحرف القذافى بالثورة الليبية عن مسارها الصحيح إلى مسارات أخرى أقرب لتلبية طموحاته الشخصية من تلبية طموحات الدولة الليبية التي قامت على أنقاض المملكة السنوسية. وكانت أولى انحرافات القذافى أن ابتكر الكتاب الأخضر هاديا ودليلا ومرشدا للحكم في ليبيا، في ما عرف بالنظرية العالمية الثالثة التي تقوم قواعدها على الثورة الخضراء القائمة على الاشتراكية الشعبية، والديمقراطية المباشرة الممثلة في سلطة الشعب «مؤتمرات شعبية ولجان شعبية» يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه بصورة مباشرة، لكن أين أصبح موقع القذافي على ضوء هذه النظرية؟
أصبح موقع القذافى قائداً للثورة الليبية، وبيده السلطة المطلقة والريموت كنترول الذي يوجه به الشعب أينما يريد وكيفما يريد، وما على الشعب إلا أن يمجده ويمدحه بما ليس فيه، ويهتف بصوت واحد «الفاتح.. ثورة شعبية» «زيد تحدي زيد يا الصقر الوحيد» وانتقلت قيادة القذافي فيما بعد إلى القائد الأممي .. وقائد المثابة العالمية للثوار والأحرار في العالم الداعم لأكثر من «200» حركة مسلحة متمردة على حكوماتها تحت مظلة هذه المثابة التي بموجبها أطلق القذافي على ليبيا « قلعة الثوار والأحرار في العالم ». ومن القيادة الأممية انتقل القذافي إلى القيادة الإسلامية، وذلك عندما أسس ما يسمى بالقيادة الشعبية الإسلامية العالمية، وأصبح هو قائداً لهذه القيادة التي تضم تنظيمات إسلامية موالية لليبيا، وشخصيات ورموزاً إسلامية تكن تقديراً وولاءً للعقيد القذافي، وبعدها تحولت الهتافات إلى «الفاتح ثورة إسلامية»، فالكتاب الأخضر كما وصفه خبراء السياسة، كتاب يحمل أفكار وآراء القذافي في الأنظمة الحاكمة في العالم واقرب إلى الطوباوية او جمهورية أفلاطون المثالية، أي ما لم يتحقق ولن يتحقق على ارض الواقع. وعندما استحكمت العداوة السياسية بين القذافي والرئيس الراحل جعفر نميري في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وصف الرئيس نميري الكتاب الأخضر عندما سئل عن رأيه فيه بأنه «بطيخة» «أخضر من بره وأحمر من جوه» أي كناية عن الاطروحات السياسية اليسارية الحمراء التي يحملها هذا الكتاب بين طياته وثناياه، وكان وقتها للكتاب الأخضر رواج منقطع النظير، خاصة في افريقيا «حلا وحمار على السكين».
فالقذافي أعجبته نفسه وأصيب بالغرور السياسي، واستهواه كرسي السلطة حتى أصيب بهوس السلطة، وأصبح يهلوس بها، وقد عماه هذا الهوس السلطوي أكثر من أربعين عاماً عن تلبية طموحات شعبه في المأكل والمشرب والعلاج والمأوى الصحي.. فكوَّن القذافى مملكته الخاصة به وعالمه الخاص الذي ضرب عليه سياجاً قوياً من السرية يصعب اختراقه من قبل العدو، وكانت مملكته هذه تحت مظلة الخيمة التي يستظل بها هو وأسرته والمقربون منه ممن عرفوا برجال الخيمة الذين وضعوا يدهم على مقدرات وثروات الشعب الليبي بما فيها الثروة النفطية. وأصبحوا يتصرفون فيها كما يشاءون بلا حسيب ولا رقيب، والشعب الليبي يلتحف الفقر والعوز لأكثر من أربعة عقود، واللجان الثورية الليبية كانت الحارس الأمين لخيمة القذافي ونظام حكمه، وكانت المنفذ لتوجيهات القذافي داخل ليبيا وخارجها، وعملت هذه اللجان على احتضان حركات التمرد العربية والأفريقية المناوئة لأنظمتها تحت مسمى حركات التحرر العربي والإفريقي، وأنشأت فصائل وكتائب عسكرية من هذه الحركات، وفتحت لها معسكرات، ووفرت لها أموالاً طائلة لتدفعها لتغيير أنظمة دولها بالقوة العسكرية، ونموذج لذلك القوات العربية المكونة من مرتزقة من مختلف الدول العربية، مهمتها تنفيذ مخططات القذافي لتحرير الأنظمة العربية الرجعية وقلب أنظمة الحكم فيها إلى أنظمة حكم تقدمية.. ومن هذا المنظور فإن نظام القذافي أصبح من أكبر المهددات الأمنية لدول الجوار الليبي العربي والإفريقي، وفي مقدمتها السودان، حيث كان كل الشر السياسي القادم للسودان من ليبيا ومن تحت تدبير القذافي شخصياً... وآخره قضية دارفور التي كانت في أساسها صنيعة قذافية أو صنيعة ليبية بحتة.. والدليل على ذلك ارتباط حركة العدل والمساواة وقائدها د. خليل إبراهيم بالأجندة الليبية وبموجهات القذافي. ووجود خليل الحالي في ليبيا والى جانب القذافي خير دليل على ذلك، بل انه حجة سياسية دامغة، فخليل إبراهيم كان ينبغي أن يكون في الدوحة «منذ زمان» لولا تلقيه توجيهات من القذافى من حين لآخر، علاوة على أنِّه ورقة ضغط ضد الخرطوم يستخدمها القذافى كلما أراد الضغط على حكومة الخرطوم، وكل حركات دارفور المسلحة والمتمردة وبعض رموزها وقادتها كانوا في ليبيا، وحتى التوترات السياسية والعسكرية التي حدثت بين السودان والشقيقة تشاد لم تخل يد القذافى منها، لأنِّ القذافى يلعب بين الجيران بطريقة «المديدة حرقتني» كما أنه يلعب لصالح ورقه السياسي، ويلعب أحياناً «بنظام الثلاث ورقات» وعندما التقيت في أوقات سابقة بأحد أساتذة العلوم السياسية بجامعة الخرطوم من الإسلاميين وعلم بوجودي في ليبيا بالأمانة العامة للتكامل الليبي السوداني بطرابلس، خاطبني قائلا ً «الله يكون في عونكم يا عمر .. العلاقة مع ليبيا مرهقة جداً لكنها من باب درء المفاسد والشرور الآتية من هذا القذافى».
فالقذافي شخصية مزاجية معقده وعنيدة في تصرفاتها، ومكابرة في كل الأحوال والظروف، ولن يرضى بالتنحي السلمي، وربما إن وجد نفسه مضطرا فإنه وقبل أن يتنحى من كرسي السلطة فإنه قد يقتل نصف الشعب الليبي ليحيا هو قائداً لليبيا وملكاً لملوك إفريقيا، وربما يشعل آبار النفط كلها، ويعيد ليبيا إلى المربع الأول أرض جدباء وصحراء وأكواخ، لكنه لن يترك الشعب الليبي ينعم بالثروة النفطية وهو خارج الحكم، وإنه إن اضطر إلى المغادرة فسيعمل على تخريب ليبيا وتدميرها دمارا شاملا مدينة.. مدينة.. وحي.. حي وبيت.. بيت ودار.. دار.. وزنقة زنقة في مقابل ألا تعيش «الجرذان» أي الشعب الليبي على حد تعبيره، الذي ثار ضده وتمرد عليه وقلب له ظهر المجن .... لأن الصدمة التي تلقاها العقيد معمر القذافي عندما ثار شعبه عليه رافعا شعار «الشعب يريد إسقاط العقيد» كانت صدمة قوية ومن العيار الثقيل، بل أقوى من الصدمة الكهربائية التي تنتج عن الضغط الكهربائي العالي. فتغير على إثرها مزاج القذافي مائة وثمانين درجة، وتحول إلى عدواني بالدرجة الأولى، فغاب عنه عقله وسيطر عليه عناده وكبرياؤه وحبه لكرسي السلطة فبدا مثل «ديك العدة» الذي اعتبر الشعب الليبي الثائر المنتشر في المدن الليبية كافة مثل «العدة»، فلم يحاول غسل الماعون الليبي الذي وجده في هذه «العدة» أو يغسل «العدة» كلها مطبقا شعار «الماعون اللين غسيله هين» ولكن قام بتكسير الشعب قصفا ودهسا بالعربات المسلحة، مثل ما يفعل «ديك العدة» الذي يكسر «العدة» بالكامل.. وعندما اشتعلت جذوة ثورة الشعب الليبي واشتد أوارها ونيرانها، انتقل القذافي من مرحلة «ديك العدة» إلى مرحلة «ديك المسلمية» «حلته في النار وهو يعوعي» أي يصيح من فورة النيران، لكن ألسنة النيران التي يعوعي منها القذافي هي نيران الشعب الليبي الثائر ضد نظام حكم الفرد، وضد طاغوت عصر الجماهير، فمن ينجي القذافي من هذه النيران الثائرة؟ وهل ينجو القذافي ببدنه على غرار فرعون «اليوم ننجيك ببدنك»؟ فالقذافي اليوم مطلوب من شعبه حياً أو ميتاً ولن ينجو ببدنه، ولن تحميه كتائب القذافي التي عرفت بالكتائب الخضراء التي كانت مهمتها الأولى والأخيرة حماية القذافي ونظامه وعائلته، بل كانت تلازم القذافي في حله وترحاله داخل ليبيا وخارجها.. فالحاكم الذي يسفه شعبه ويحتقره ويزدريه، حتماً سيكون حتفه على يد شعبه بعد أن يصبح منبوذاً.. فالواهمون والحالمون بانتصار القذافي على شعبه همهم وحلمهم سيرتد عليهم، فالشعوب عندما تنتفض أو تثور هي التي ستنتصر على حكامها وجلاديها ومستعبديها. وفي ما يبدو فإن العامل المشترك الذي يجمع بين الثورات الشعبية التي اندلعت من المحيط إلى الخليج والمحرك الرئيسي لها، هو ظلم الحكام على المحكومين، والظلم عاقبته وخيمة على كل ظالم وطاغية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق