هذه المقالات مأخوذة من ورقة قدمت في ندوة الربيع العربي والتي أقامها التحالف العربي من أجل دارفور بالقاهرة. لا أدري من الذي صاغ تعبير الربيع العربي والذي أصبح لا يشار إلا به، إلى الحراك الثوري الشديد الذي شهده العالم العربي فى شتاء العام 2010 وجل العام الذي تلاه. الحراك الثوري المشار إليه بالربيع العربي، أسقط ثلاثة أنظمة عربية وأحدث تغييراً ناعماً في دولة أخرى (المغرب)، وما زال بشكل متفاوت يهدد عدداً من الأنظمة العربية. رغم اتساع مدى ذلك الحراك ونجاحه النسبي إلا أنه سرعان ما بدأ يفقد بريقه، بقدر ما ظهرت صعوبة التغيير في البلدان العربية، سواء تلك التي نجح فيها ذلك الحراك في تغيير الأنظمة، وتلك التي لم ينجح بعد. واقع الأمر أنه يصعب القول بأن عاملاً واحداً هو الذي أودى بأنظمة الحكم، في مجتمعات مختلفة بشكل الشاسع في درجة التطور والثقافة، وحبكة النسيج الاجتماعي، وقدرة المجتمع المدني فيها. فهناك خلاف واضح بين نظام بن علي الأكثر انفتاحاً اجتماعياً وثقافياً، ونظام مبارك المحافظ، ونظام القذافي المنغلق. كما أن المجتمعات التي أنتجت تلك الأنظمة، أو تلك التي سقطت تحت وطأتها، لو شئت، مختلفة بشكل واضح للعيان. التوصل للأسباب التي تسببت فى الانتفاضات الثلاث، يتطلب على الأقل دراسة أكثر مما يتيحه الزمن الذي مر منذ ذلك الحراك، ليس فقط لأنه زمن غير كافٍ لكي تظهر كل المعلومات، بل أيضا لانه زمن غير كاف لكى تظهر كل النتائج. يبدو لنا أن الخيط الوحيد الذي يجمع بين الحراك السياسي فى كل من تونس ومصر وسوريا من جهة، وليبيا واليمن من جهة أخرى، والبحرين كطرف منفرد، هو الثورة على الاستبداد السياسي فحسب، إذ ليس بين تلك الأنظمة ما يجمع بينها غير ذلك. لا ندري هل سيتم سقوط النظام اليمني والنظام السوري، أم سيقدم النظامان على عمليات قمع لا قبل للمعارضين بها، أو إصلاحات تغير طبيعة النظام، أو تدفع المعارضين للقبول به، فكل هذه احتمالات واردة على ضوء عدم حماس المجتمع الدولى للتدخل، أو انقسامه حول ذلك التدخل، بحيث يكون توقع التدخل غير منطقي. كل هذا يجعلنا فى موقع لا نستطيع القول معه بأننا بالفعل نتحدث عن ربيع يعم المنطقة العربية، وحتى بفرض نجاح الثورة فى البلدين، تظل أغلبية الدول العربية قانعة بحكامها، رغم أنه ليست من بينها دولة واحدة تُحكم بنظام ديمقراطي، فيما عدا لبنان المكبلة بقيود طائفية تقلل من شأن ديمقراطيتها. دلالات فوز الأحزاب الإسلامية من الجهة الثانية فإن فوز الأحزاب الإسلامية في الانتخابات التي جرت فى الدول العربية الأكثر تقدما من حيث النسيج الاجتماعي، أدخل في روع التيارات الليبرالية، والديمقراطية المدنية، خوفاً من أن تكون تلك البلدان مقدمة على تغيير نظام استبدادي، بنظام استبدادي آخر، وأن في ذلك نهاية للثورة ولأطروحاتها. لكل ذلك فإنه سرعان ما بدأ التفاؤل الذي يشع من تعبير الربيع العربي، يتضاءل، أو يزول، مما جعل البعض يستخدمون نفس التعبير المناخى للإشارة للردة السريعة التي تشهدها المنطقة، فوصف Khaled Abu Toameh الوضع بأنه من الربيع العربي إلى الشتاء الإسلامي. والواقع أن استنتاج أن محرك الثورة في الدولتين، هو رغبة الشعوب في استبدال الأنظمة العلمانية، بأخرى إسلامية من نجاح التيارات الإسلامية فى الإنتخابات ليس صحيحاً، لسببين: الأول أن الثورات هي نتاج فعل مجموعة إما أكثر تنظيما، أو أقدر على تحريك مجموعات أكثر تصميما، من باقي الشعب، ولكنها لاتصنعها، ولا تشارك فيها حتى الأغلبية، وإن كان نجاحها رهيناً بتفشي حالة من السخط العام على النظام القائم، حيث ينهار النظام عندما يقترن، في لحظة زمنية معينة، عجز النظام عن الحكم لفقدانه الفاعلية، بقدرة أقسام معادية نشطة، على تحييد أو ضم أجهزة النظام القمعية، إذ أن القدرة على تحريك الشارع مهما بلغت لا تسقط النظام، إذا ظل محتفظاً بولاء الأجهزة القمعية التابعة له. ما حدث في تونس ومصر كان دور عجز النظام عن الحكم، أكبر من فاعلية الأقسام الطليعية للتكوينات المعادية في الإطاحة به، فقد النظام ولاء الأجهزة له بتزايد الحراك في الشارع، لأنه في الأصل كان قد فقد القدرة على أي طرح يخرجه من الأزمة الثورية. ولذلك فإن سقوط النظام قد حدث على مراحل، بدأت أولا بسقوط رأس النظام لصالح مجموعة من اختياره، ثم سقوط تلك المجموعة نتيجة لما اصابها من شلل بسبب عدم ثقتها في قدرتها على الصمود، ولكن المجموعة التي قادت الحراك في الشارع لم تكن بطبيعة تكوينها قادرة على إنتزاع السلطة، مما فرض انتخابات مبكرة، لم يتوفر لها الزمن الكافي لكي تشارك بشكل فاعل فيها التكوينات التي قادت التحرك. والثاني هو أن الاختيار الانتخابي الأول في بلاد افتقد تاريخها أي أثر لمؤسسات ديمقراطية لا يجب التعويل عليه، فالعامل الحاسم فيه الثروة وحسن التنظيم، وليس الأطروحات والبرامج. لقد ساهم فى فوز الإسلاميين بالإضافة للثروة، وحسن التنظيم، العاطفة الدينية القوية مع إنعدام الممارسة السياسية، حيث تحتاج الطروحات السياسية، فى غيبة أى نشاط سياسى مؤسسى، إلى جهد أكبر لإكسابها شعبية. أضف لذلك أن كراهية السلطة البائدة للتيارات الإسلامية، يدفع بالتصويت الاستنكاري لصالحهم. في ظروف فقدان الخبرة السياسية، وإنعدام الثقافة الديمقراطية، فإن الطرح الأقرب للأيدولوجية السائدة، لابد أن يكسب أصوات الأغلبية. أهمية الانتخابات الأولى: رغم إقتناعي بأن الوقت مازال مبكراً جداً للحكم على نتائج هذه التغييرات، إلا أنه حتى في هذا الوقت المبكر، يبدو واضحاً أن هنالك مخاطر حقيقية تحيط بالتحول الديمقراطي في الدول الأكثر تقدما كتونس ومصر، تتمثل في المكون الثقافي التاريخي، الذي يقوم على الاستبداد، والمخاطر الأكثر خطورة فى الدول الأقل حظا من التطور الاجتماعي، حيث يُخشي من فشل الدولة وإنحلالها إلى نكؤينات قبلية وعشائرية. لذلك فإن أهم ما يمكن أن تفرزه الانتخابات الأولى هو أن تبقى كذلك، أي انتخابات أولى لا تنتج سوى تفويض محدود من حيث الزمن، ومن حيث السلطة، بحيث تمتنع السلطة الجديدة عن المساس بالحريات العامة، وعن محاولة تحويل التفويض المحدود إلى تفويض دائم. بالنسبة للدول التي أنتجت فيها الانتفاضات انتخابات ديمقراطية حرة، والتي ظهرت فيها الاتجاهات الإسلامية على الاتجاهات العلمانية، فإنه من الضروري حتى لا ينتهي الأمر بإبدال نمط من الاستبداد بنمط آخر هو أن يتم الاعتراف بأن هذه هي نتيجة انتخابات واحدة فحسب، وليس خياراً دائماً للشعب، وهذا يتطلب ليس فقط قبول حق التيارات الإسلامية في الحكم من جانب العلمانيين، بل يجب ان يقبل الاسلاميون ان نتيجة الانتخابات هي تفويض مؤقت لهم ينتهي بانتهاء عمر البرلمان . وان الأساس ليس برنامجهم المطروح في الانتخابات، بل خضوعهم هم وبرنامجهم للمحاسبة، ممن منحهم التفويض. إذا قبل الإسلاميون بذلك، فلابد أن يقبلوا بمدنية الدولة من حيث أنهم يحكمون باسم الشعب، ويخضعون لمحاسبته، وأن كل ما ينادون به يعود إليهم، وليس إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم لا يحتكرون الحقيقة، ولا الحق في تفسير كلام الله. إذا تم قبول ذلك فإنه لابد من اعتبار الربيع العربي يسير في ركب الموجه الديمقراطية الرابعة التي انتظمت العالم، وإذا تم تحويل الانتصار الانتخابي إلى تفويض إلهي بالحكم فإن المسألة لا تعدو أن تكون إبدال نظام مستبد بآخر . مآلات الربيع العربي: من الصعب التكهن بما تحمله الأيام القادمة ولكن ما يبدو الآن أقرب للوقوع بالنسبة للبلدين هو أن يقوم نظام مدني ديمقراطي، رغم فوز الإخوان المسلمين، بالمسميات المختلفة لذلك التنظيم، في البلدين، وهذا يبدو مما يلي : 1/ يتمتع الأخوان المسلمون بدرجة من الانفتاح والوعي، خاصةً بعد أن تخلصوا من التيارات المتعصبة والمتطرفة، تسمح لهم بإدراك واقع تونس ومصر، من حيث أنه لا يمكن لأي منهما، أن يعيش بمعزل عن العالم، وأن التطرف في تطبيق الشريعة، بالتفسير المنغلق لها سيؤدي لأضرار باقتصاد لا قبل له بتحملها. 2/ التجربة التركية، ولحد ما تجربة حماس، تشير إلى أن الحريات الشخصية، والحق في المواطنة، مسائل لا تُمس، وصيانتها لا ينزع عن الحكم توجهه الإسلامي. من الجهة الثانية، فإن تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل منغلق، وهو إحتمال وارد، لابد أن يخل بالاقتصاد والمعتمد على السياحة، وأن يؤدي إلى مواجهة مع القوى الحديثة في المجتمع، وربما إلى زيادة في الفوارق الطبقية، وما ينجم عن ذلك من توترات سياسية. إذا عمدت التنظيمات الإسلامية التي فازت في الانتخابات إلى إقامة أنظمة حكم دينية، فإن الربيع العربي سرعان ما سينقشع، ليحل محله شتاء قارس، لا يقضي فقط على رياح الحريات التي انطلقت مع سقوط الأنظمة الاستبدادية، بل سيعمل على تثبيت دعائم الأنظمة الاستبدادية، التي لم تهتز عروشها بعد، ومن ضمنها السودان. الانتفاضة هي رد فعل للاستبداد السياسي والفشل الاقتصادي حقيقة الأمر هو أنه بغض النظر عما سيسفر عنه سقوط الأنظمة العربية التي انهارات في عام التغيير، فإن الشارع لم يتحرك لاعتبارات دينية أو أسلامية، بل هو تحرك قادته الطبقات المتوسطة، ضد القشل الإقتصادي، الذي أورثها الفقر، والإستبداد السياسي الذي أبعدها عن موقع إتخاذ القرار، ومحاولة إضفاء أى صبغة أيديولوجية على ذلك الحراك، لا يعدو أن يكون مغالطة لا يمكن قبولها. الفشل الاقتصادي هو الذي جعل تلك الدول التي تتمتع بثروات هائلة في باطن الأرض، وعلى سطحها، غير قادرة على بناء قاعدة اقتصادية، توفر لشعوبها حياة كريمة. وهو الذي تسبب في أن تعتمد الدولة الاستبدادية على جباية الأموال، من شعب أصلاً لايملك شيئاً، لاستخدامها في الصرف على الأجهزة القمعية، التي ضد الشعب الذي مولها، ولعل انفجار الثورة في تونس عقب حادثة بوعزيزى، والذي كان ضحيةً للجباية والقهر، ما يؤكد ما ذهبنا إليه. إذا كان إنهيار تلك الأنظمة سببه تضجر الشعب بفشلها الإقتصادي، واستبدادها السياسي فإن النظام السوداني لا ينأى عن تلك الأنظمة قيد أنملة، فهو يعاني من فشل إقتصادي بالغ الأثر، خفف من حدته لفترة محدودة خروج البترول من داخل الأرض، فى الإقليم الجنوبي، ولكن ذلك النظام لم يفشل فقط في أن يستخدم عائد البترول فى تطوير قاعدة إقتصادية تساهم فى رفع معاناة الشعب، بل فرط حتى في الأرض التي تخرج له هذه الثروة، حين قادت سياساته إلى انفصال الجنوب. ما يردده قادة النظام السوداني عن السودان كدولة رائدة في الربيع العربي، باعتبار أن الربيع أسفر عن وصول الأحزاب الإسلامية للحكم، وهذا ما حققه اسلاميو السودان منذ نيف وعشرين عاما حين أسقطوا الديمقراطية الثالثة بإنقلابهم العسكرى الذي حملهم إلى دست الحكم، لا يعدو أن يكون ضرباً من خداع الذات. نبيل أديب عبدالله المحامي
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق