في الشأن العام(الأرشيف) |
المعلوم أن جميع الأنظمة الحاكمة وفى أي من صور حكمها، ديمقراطياً كان أو عسكرياً، لا يقود إلى انهيارها إلا الفساد وفى أى من صوره أيضاً، اقتصاديا كان أو اجتماعيا أو سياسياً، ويحتل الفساد المالي المركز الأول في عملية الانهيار. ولذلك نلاحظ أن كل النصح الذى ظل يقدم لهذا النظام ومنذ بدايات السماح بقدر من حرية التعبير، جعل الدعوة إلى تجنب الفساد ومحاربته من أهم ركائزه. وقد كان ممكناً أن استجاب هذا النظام لدعوات التقويم التي صدرت إليه في ذلك الاتجاه، سواء أكانت من داخله أو خارجه، من مؤيديه أو حتى من معارضيه، لما وصل إلى هذا الدرك الذى يعيشه اليوم. لكن النظام أدمن المكابرة ونكران الحقائق، حتى إن كانت في وضوح الشمس، وهو لا يرضى بغير ما يرى بديلاً. ويبدو أنه وبعد أن مكث في سدة الحكم ما يقارب الربع قرن من الزمان، اعتقد بل آمن بأن صبر هذا الشعب عليه لن ينتهي، وهو شعب عرف بالملل والضيق من الحكام الذين يخلدون في الحكم، خاصة من ينحرفون عن جادة طريق الحكم، وأياً كان نوع ذلك الانحراف، فيدفعه ذلك إلى الثورة عليهم، ولم يفشل أبداً في وصوله إلى هدفه، إما تقويم إعوجاجهم أو إزاحتهم عن سدة الحكم نهائياً.
الحكومة الحالية وبموجب وهم أن الشعب راض عنها، ومقتنع بها، أصمت آذانها واستغشت ثيابها واستكبرت استكباراً، وما عادت تسمع لغير الصوت الذى ترغب في سماعه. فالحديث عن الفساد بدأ مع بدايات عهد الإنقاذ عندما أعلنت عن عملية خصخصة بعض مؤسسات القطاع العام، وكان حديث الشارع أن تلك المؤسسات قد تم بيعها بأبخس الأثمان، بينما الحقيقة هي انفراد البعض ممن أشرفوا على عمليات البيع تلك، بتحويل الفرق بين السعر الحقيقى المطلوب وما هو مستلم فعلا، لصالحهم الخاص. لكن الحكومة في ذلك الوقت، لم تحرك ساكنا ولم تعر ذلك الحديث أدنى اعتبار. فالرأي العام كان يرى حينها أن النظام الذى رفع شعار الحكم بشرع الله، وملأ الدنيا ضجيجاً، بقوله، هي لله، هي لله، لا للسلطة ولا للجاه، قد خدعها تماماً بكل تلك الشعارات، عندما أحسوا بأنه وبتجاهله للفساد البائن، ربما أراد ان يمنح عناصره فرصا للتمكين الاقتصادي بعد أن ضمن هو التمكين السياسي. وقد أكد ذلك الفساد التصريح الذى أدلى به شيخهم د. الترابي عندما أعلن أن نسبة 9% من كوادرهم الحاكمة غارقة في الفساد.
والفساد لم يبلغ هذا الحد من الجرأة وعدم الاكتراث في ممارسته، الذى نسمعه ونقرأ عنه اليوم، إلا لأن الحكومة عملت على تغطيته وستر عوراته منذ بداياته، بإخراس أي صوت يرتفع مشيراً إليه. ولا اعتقد أنه من واجب الذين يشيرون إلى أي من مواقعه أو فاعليه أن يحملوا كل الأدلة والبراهين لإثباته، فذلك واجب الحكومة التي تملك المداخل للوصول لكل الحقائق إن أرادت. ولا داعي لتذكيركم بطريق الإنقاذ الغربي وقصة «خلوها مستورة»، فقد كانت تلك أول قصة فساد تعلن على الملأ ومن جانب مسؤولي ذات الحكومة، وفى النهاية «خلوها مستورة» فعلاً. إذن الحكومة هي التي رعت الفساد وعمقت جذوره، بمنعها الحديث عنه دون دليل، يستعصي حصول المواطن العادي عليه، حتى وفرت له بذلك البيئة الصالحة لنموه وترعرعه، وتمدد ممارساته لتشمل غالبية مؤسسات الدولة، وقد ظل الحديث عن الاعتداءات على المال العام بداخل تلك المؤسسات، وتكراره في كل عام جديد، لا تثير دهشة المواطن ولا تستوقفه كثيراً، بل ستصيبه الدهشة إن خرج تقرير المراجع العام وهو خال من أية اعتداءات على المال السائب.
الآن وبعد أن بلغ الفساد مداه، التفتت الحكومة «يا دوب» إلى قصته التي ظلت تنفيها عن كوادرها التي تقوم باختيارها بمعيار التقوى والتدين، وبعد أن قضى هؤلاء الأتقياء الأنقياء على أخضر ويابس اقتصاد البلاد، أفسحت سيادتها المجال للحديث عن الفساد بمثل تلك التعرية الصريحة الذى تتناوله بها صحيفة «التيار» حالياً، ونحن الذين نعلم كيف كان يتم الردع والقمع لأي رأى يشير إلى الفساد تلميحاً. وكم من الصحافيين الذين حاولوا كشف الغطاء عن بعض الممارسات الفاسدة فوجدوا جزاءهم الذى يستحقون لتجرؤهم على تجريم من لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، من كوادر الإنقاذ، فتطالعنا صحيفة «التيار» بفساد لم نشاهد مثله من قبل ولا يخطر على عقل بشر. فمسلسل شركة السودان للأقطان التي أصبحت بموجب الفساد السائد وتسيده، ضيعة خاصة بقياداتها يورثونها الأبناء والزوجات، والذي ظل الجميع متابعاً لحيثياته المذهلة، يبدو أنه قمة جبل الفساد الذى نتمنى أن تستمر «التيار» في الكشف عن قاعدته، وليصبح ضربة البداية لحرب جادة تقضي على هذا الداء الذي أصاب اقتصاد البلاد في مقتل.
وبالطبع لن يستقيم عقلاً أن يجد هؤلاء الإداريون بتلك المؤسسة كل هذه الجرأة التي يتصرفون بها في إدارتها وكأنها ملك خاص بهم، إلا في حالتين، إما أن تكون الحكومة بمثل تلك الغفلة الغافلة بكل تلك الممارسات التي تفتقر إلى المؤسسية والقانون، حتى تصل هذه المراحل المتقدمة جداً في مجال الفساد الإدارى والمالي، ومن ثم فإن ذلك يعنى غفلة النظام وعدم متابعته لأداء مؤسساته، وهو خطأ جسيم يحسب عليه، أو أن يكون هنالك بين مؤسسات النظام وكوادره من يعلم بكل ذلك ولكنه يبارك الممارسة باعتباره مشاركاً ومنتفعاً منها. وفى الحالتين فإن النظام يظل مسؤولا عن هذه الجريمة. أما وقد وجدت هذه القضية طريقها إلى العدالة، نتمنى أن تصل نهاياتها تحت مسمع ومرأى المواطنين، ودون أن نسمع في مرحلة ما عن منع التناول لها أو التداول حولها من أجهزة الإعلام، بحجة تأثير ذلك على سير العدالة، فمثل ذلك الطلب هو بداية البحث عن غطاء لستر الجريمة. فالمطلوب ستره في مثل هذه القضايا، هو الأكثر ضرورة إلى كشفه، وقد يكون البداية التي عن طريقها يمكن الوصول إلى كل مخابئ الفساد وقياداته. نقول هذا وأمامنا الكثير من قضايا الفساد وغيرها، التي تطفو على السطح حيناً وقبل أن يتم التمعن فيها ومعرفة مرتكبيها، تختفي عن الأنظار إلى الأبد. ونحمد لـ «التيار» أن جعلت من الحديث عن الفساد والفاسدين تصريحاً وليس تلميحاً، كما ظللنا نقرأ عن كل ذلك ودون أن نعلم من هم الفاعلون. فالإشارة بالأحرف الأولى لكل متهم، هي الأخرى تغطية للفساد وحماية للفاسدين. وعلى كل بما أن السيد رئيس الجمهورية بارك هذه البداية وأعلن ضرورة الحرب على الفساد، نتمنى أن تشتعل نيران هذه الحرب بكل أركان الفساد ودون توقف حتى تحقق النصر عليه.
وبالطبع ونحن نتحدث عن تسريبات صحيفة «التيار» في مجال الفساد ونأمل في تنقية المجتمع من شوائبه ومصائبه، لا يمكن أن نغفل المذكرة التي سميت تصحيحية، والتي أرسلت بها مجموعات من الكوادر الإسلامية لحكومة المؤتمر الوطني، وهى ما تم نشرها بذات الصحيفة بتاريخ 26 يناير 2012م. هذه المذكرة إن كانت لألف أخ أو لأخ واحد، فهي مقدمة من أهل البيت لقاطنيه، ومن ثم لا يجوز إهمالها أو إغفالها، فما يرد بها من آراء سيعكس صورة صحيحة وأمينة لواقع حكومتهم وأسلوب حكمها. فقد أشارت تلك المذكرة هي الأخرى إلى الفساد القائم ضمن مبررات إقدامهم على تقديمها للسلطة، وهو أمر يعزز ويضاعف من تأكيد حقيقة الفساد ويثبتها. ورغم أن السيد الرئيس قد رأى أن المطلوب ليس الاستفادة من الآراء التي طرحتها المذكرة، والتي إن أخذ بها قد تقود إلى الإصلاح المطلوب الذى يضمن استقرار السلطة، فأصحاب المذكرة نفوا ان تكون من بين أهدافهم إسقاط النظام. إلا ان سيادته رأى ان يكون الرد عليهم بمساءلة من تقدموا بها، وربما معاقبتهم، وبذلك ربما يتم تأكيد ما جاء بالمذكرة، من أن هذا النظام لا يقبل النصح، ولا يتعامل مع الناصحين والمعارضين، إلا كحالة نفسية يجب علاجها، أو كحالة أمنية يجب التصدي لها. ونلاحظ في هذا المجال أن الحكومة التي ترفع شعار الشورى أيضاً، تكفر بها حتى ممن بداخلها، وعليه فهي غير مقبولة ممن هم خارجها..
ويبدو أن الحكومة مازالت، ورغم كل المشكلات التي تحيط بها، ترى أنها قادرة وحدها ودون عون من أحد على أن تتغلب على كل تلك الصعاب، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية، استنادا إلى ذات وهم أن الشعب كله أو غالبيته الغالبة تقف معها، وسيصبر عليها وعلى كوارثها للأبد وبفهم ألا بديل يخلفها. وغياب البديل هذا هو وهم آخر تعيشه الحكومة اعتماداً على أنها قد قضت على الأحزاب التاريخية المعارضة لها، بعد أن بعثرت صفوفها، واقتنصت خيار عضويتها وضمتها إلى صفوف مؤتمرها الوطني، وبذلك أصبح المسرح السياسي خالياً لها، لتفعل فيه ما تشاء وتختار، والدليل على خطل هذا الوهم أنها، أي الحكومة ذاتها، عادت أخيراً لتخطب ود ذات الأحزاب التي مازالت بعض قيادات المؤتمر الوطني تصفها بكل ما هو قبيح ومسيء. والحكومة لم تكتفِ بذلك الوهم وتصمت، ولكنها تعمل على استفزاز المواطنين عندما تتحدث عن تأييدهم لها ولسياساتها التي تم انتخابهم لها بموجبها. وهى ذات السياسات التي قادت البلاد والعباد إلى ما نحن عليه الآن من انهيار اقتصادي، هو حقيقة حتى وان أنكرته السلطة، ومن تدهور سياسي واجتماعي أدى إلى تمزيق نسيج المجتمع والعودة بالمواطنين إلى القبلية والجهوية والعنصرية، وهى ذات السياسات التي قادت إلى شطر البلاد إلى شطرين، ومن ثم افتقدت بموجب ذلك أهم دعائم اقتصادها، النفط.
السيد أمين حسن عمر أحد قيادات المؤتمر الوطني الفاعلة، ولمزيد من استفزاز المواطنين صرح سيادته، بالقول، إذا أتتنا إشارة قوية من الشعب بأنه ملَّ وجودنا سنرجع له، ويقصد بالرجوع للشعب قيام انتخابات يجدد الشعب بموجبها خياره لحكامه. وهذا دليل آخر على أن حكومة الأستاذ أمين مازالت تظن ان الشعب «ساكت» كل هذا الوقت لأنه مرتاح وهانئ البال، ولا يوجد ما يعكر صفوه لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً. وبالطبع يحق لهم أن يعتقدوا ذلك، ما داموا لا يرون أو يسمعون صوت احتجاج يدلل على الإصابة بالملل الذى يبحث عنها سيادته. وقطعاً حتى هذه الدعوة لمعرفة رأي الجمهور في حكومتهم هي أيضا من بركات المذكرة الألفية مهما أنكروا تأثيرها وبشروا بتجاهلها. وعلى كل يهمنا في هذا المجال أن يوضح لنا دكتور أمين الكيفية التي سيعبر بها الشعب السوداني عن ملله من وجودهم، ونوع الإشارة القوية المطلوبة للتعبير عن ذلك، إن كانت حكومتهم حتى الآن لم تشعر أو تحس بذلك الملل، لا في اعتصام المناصر الذى دخل شهره الرابع، ولا في مظاهرات جماهير المؤتمر الوطني بنيالا التي قادت إلى خسائر في الأرواح والممتلكات، ثم اعتصام جماهير المؤتمر الوطني بكوستي، وتمرد الولاة على المركز والجهر بالمطالبة بحقوقهم كاملة، ودون ذكر لقصة المذكرات التي أصبحت تنهال عليهم ومن كوادركم وغيرهم ومن كل حدب وصوب.
فالمعروف والمألوف أن تعبير الجماهير عن مللها من حكوماتها، عادة ما يتم كالذي شاهدناه وسمعناه من جماهير الربيع العربي بأي من بلدانها. حيث تخرج الجماهير إلى الشارع العام لتسمع السلطة رأيها وما ترى فيها وفى أسلوب حكمها. أو أن تتوقف عن التعامل مع تلك السلطة فتحجم عن العمل، في عصيان مدني، مثلاً. وبما أن جميع هذه الوسائل التي تعكس رأي الشعب في سلطته، هي محرمة عندكم، حيث تمنعون اى تحرك جماهيري مهما كانت دوافعه وسلميته وتعملون على بعثرته قبل أن يكتمل نصابه، وتقولون إن المذكرة التي هي إحدى صور التململ ورغم إنها من «ناسكم»، إنها لن تأتى بنتيجة. أهه، ورينا الطريقة التي يتم بها التعبير عن الملل حتى لا يحاول البعض أخذ قولك هذا مأخذ الجد، فيخرج للتعبير عن ملله بالطرق المشروعة دستورياً وممنوعة واقعاً فيقع في شر أعماله؟!
الحكومة الحالية وبموجب وهم أن الشعب راض عنها، ومقتنع بها، أصمت آذانها واستغشت ثيابها واستكبرت استكباراً، وما عادت تسمع لغير الصوت الذى ترغب في سماعه. فالحديث عن الفساد بدأ مع بدايات عهد الإنقاذ عندما أعلنت عن عملية خصخصة بعض مؤسسات القطاع العام، وكان حديث الشارع أن تلك المؤسسات قد تم بيعها بأبخس الأثمان، بينما الحقيقة هي انفراد البعض ممن أشرفوا على عمليات البيع تلك، بتحويل الفرق بين السعر الحقيقى المطلوب وما هو مستلم فعلا، لصالحهم الخاص. لكن الحكومة في ذلك الوقت، لم تحرك ساكنا ولم تعر ذلك الحديث أدنى اعتبار. فالرأي العام كان يرى حينها أن النظام الذى رفع شعار الحكم بشرع الله، وملأ الدنيا ضجيجاً، بقوله، هي لله، هي لله، لا للسلطة ولا للجاه، قد خدعها تماماً بكل تلك الشعارات، عندما أحسوا بأنه وبتجاهله للفساد البائن، ربما أراد ان يمنح عناصره فرصا للتمكين الاقتصادي بعد أن ضمن هو التمكين السياسي. وقد أكد ذلك الفساد التصريح الذى أدلى به شيخهم د. الترابي عندما أعلن أن نسبة 9% من كوادرهم الحاكمة غارقة في الفساد.
والفساد لم يبلغ هذا الحد من الجرأة وعدم الاكتراث في ممارسته، الذى نسمعه ونقرأ عنه اليوم، إلا لأن الحكومة عملت على تغطيته وستر عوراته منذ بداياته، بإخراس أي صوت يرتفع مشيراً إليه. ولا اعتقد أنه من واجب الذين يشيرون إلى أي من مواقعه أو فاعليه أن يحملوا كل الأدلة والبراهين لإثباته، فذلك واجب الحكومة التي تملك المداخل للوصول لكل الحقائق إن أرادت. ولا داعي لتذكيركم بطريق الإنقاذ الغربي وقصة «خلوها مستورة»، فقد كانت تلك أول قصة فساد تعلن على الملأ ومن جانب مسؤولي ذات الحكومة، وفى النهاية «خلوها مستورة» فعلاً. إذن الحكومة هي التي رعت الفساد وعمقت جذوره، بمنعها الحديث عنه دون دليل، يستعصي حصول المواطن العادي عليه، حتى وفرت له بذلك البيئة الصالحة لنموه وترعرعه، وتمدد ممارساته لتشمل غالبية مؤسسات الدولة، وقد ظل الحديث عن الاعتداءات على المال العام بداخل تلك المؤسسات، وتكراره في كل عام جديد، لا تثير دهشة المواطن ولا تستوقفه كثيراً، بل ستصيبه الدهشة إن خرج تقرير المراجع العام وهو خال من أية اعتداءات على المال السائب.
الآن وبعد أن بلغ الفساد مداه، التفتت الحكومة «يا دوب» إلى قصته التي ظلت تنفيها عن كوادرها التي تقوم باختيارها بمعيار التقوى والتدين، وبعد أن قضى هؤلاء الأتقياء الأنقياء على أخضر ويابس اقتصاد البلاد، أفسحت سيادتها المجال للحديث عن الفساد بمثل تلك التعرية الصريحة الذى تتناوله بها صحيفة «التيار» حالياً، ونحن الذين نعلم كيف كان يتم الردع والقمع لأي رأى يشير إلى الفساد تلميحاً. وكم من الصحافيين الذين حاولوا كشف الغطاء عن بعض الممارسات الفاسدة فوجدوا جزاءهم الذى يستحقون لتجرؤهم على تجريم من لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، من كوادر الإنقاذ، فتطالعنا صحيفة «التيار» بفساد لم نشاهد مثله من قبل ولا يخطر على عقل بشر. فمسلسل شركة السودان للأقطان التي أصبحت بموجب الفساد السائد وتسيده، ضيعة خاصة بقياداتها يورثونها الأبناء والزوجات، والذي ظل الجميع متابعاً لحيثياته المذهلة، يبدو أنه قمة جبل الفساد الذى نتمنى أن تستمر «التيار» في الكشف عن قاعدته، وليصبح ضربة البداية لحرب جادة تقضي على هذا الداء الذي أصاب اقتصاد البلاد في مقتل.
وبالطبع لن يستقيم عقلاً أن يجد هؤلاء الإداريون بتلك المؤسسة كل هذه الجرأة التي يتصرفون بها في إدارتها وكأنها ملك خاص بهم، إلا في حالتين، إما أن تكون الحكومة بمثل تلك الغفلة الغافلة بكل تلك الممارسات التي تفتقر إلى المؤسسية والقانون، حتى تصل هذه المراحل المتقدمة جداً في مجال الفساد الإدارى والمالي، ومن ثم فإن ذلك يعنى غفلة النظام وعدم متابعته لأداء مؤسساته، وهو خطأ جسيم يحسب عليه، أو أن يكون هنالك بين مؤسسات النظام وكوادره من يعلم بكل ذلك ولكنه يبارك الممارسة باعتباره مشاركاً ومنتفعاً منها. وفى الحالتين فإن النظام يظل مسؤولا عن هذه الجريمة. أما وقد وجدت هذه القضية طريقها إلى العدالة، نتمنى أن تصل نهاياتها تحت مسمع ومرأى المواطنين، ودون أن نسمع في مرحلة ما عن منع التناول لها أو التداول حولها من أجهزة الإعلام، بحجة تأثير ذلك على سير العدالة، فمثل ذلك الطلب هو بداية البحث عن غطاء لستر الجريمة. فالمطلوب ستره في مثل هذه القضايا، هو الأكثر ضرورة إلى كشفه، وقد يكون البداية التي عن طريقها يمكن الوصول إلى كل مخابئ الفساد وقياداته. نقول هذا وأمامنا الكثير من قضايا الفساد وغيرها، التي تطفو على السطح حيناً وقبل أن يتم التمعن فيها ومعرفة مرتكبيها، تختفي عن الأنظار إلى الأبد. ونحمد لـ «التيار» أن جعلت من الحديث عن الفساد والفاسدين تصريحاً وليس تلميحاً، كما ظللنا نقرأ عن كل ذلك ودون أن نعلم من هم الفاعلون. فالإشارة بالأحرف الأولى لكل متهم، هي الأخرى تغطية للفساد وحماية للفاسدين. وعلى كل بما أن السيد رئيس الجمهورية بارك هذه البداية وأعلن ضرورة الحرب على الفساد، نتمنى أن تشتعل نيران هذه الحرب بكل أركان الفساد ودون توقف حتى تحقق النصر عليه.
وبالطبع ونحن نتحدث عن تسريبات صحيفة «التيار» في مجال الفساد ونأمل في تنقية المجتمع من شوائبه ومصائبه، لا يمكن أن نغفل المذكرة التي سميت تصحيحية، والتي أرسلت بها مجموعات من الكوادر الإسلامية لحكومة المؤتمر الوطني، وهى ما تم نشرها بذات الصحيفة بتاريخ 26 يناير 2012م. هذه المذكرة إن كانت لألف أخ أو لأخ واحد، فهي مقدمة من أهل البيت لقاطنيه، ومن ثم لا يجوز إهمالها أو إغفالها، فما يرد بها من آراء سيعكس صورة صحيحة وأمينة لواقع حكومتهم وأسلوب حكمها. فقد أشارت تلك المذكرة هي الأخرى إلى الفساد القائم ضمن مبررات إقدامهم على تقديمها للسلطة، وهو أمر يعزز ويضاعف من تأكيد حقيقة الفساد ويثبتها. ورغم أن السيد الرئيس قد رأى أن المطلوب ليس الاستفادة من الآراء التي طرحتها المذكرة، والتي إن أخذ بها قد تقود إلى الإصلاح المطلوب الذى يضمن استقرار السلطة، فأصحاب المذكرة نفوا ان تكون من بين أهدافهم إسقاط النظام. إلا ان سيادته رأى ان يكون الرد عليهم بمساءلة من تقدموا بها، وربما معاقبتهم، وبذلك ربما يتم تأكيد ما جاء بالمذكرة، من أن هذا النظام لا يقبل النصح، ولا يتعامل مع الناصحين والمعارضين، إلا كحالة نفسية يجب علاجها، أو كحالة أمنية يجب التصدي لها. ونلاحظ في هذا المجال أن الحكومة التي ترفع شعار الشورى أيضاً، تكفر بها حتى ممن بداخلها، وعليه فهي غير مقبولة ممن هم خارجها..
ويبدو أن الحكومة مازالت، ورغم كل المشكلات التي تحيط بها، ترى أنها قادرة وحدها ودون عون من أحد على أن تتغلب على كل تلك الصعاب، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية، استنادا إلى ذات وهم أن الشعب كله أو غالبيته الغالبة تقف معها، وسيصبر عليها وعلى كوارثها للأبد وبفهم ألا بديل يخلفها. وغياب البديل هذا هو وهم آخر تعيشه الحكومة اعتماداً على أنها قد قضت على الأحزاب التاريخية المعارضة لها، بعد أن بعثرت صفوفها، واقتنصت خيار عضويتها وضمتها إلى صفوف مؤتمرها الوطني، وبذلك أصبح المسرح السياسي خالياً لها، لتفعل فيه ما تشاء وتختار، والدليل على خطل هذا الوهم أنها، أي الحكومة ذاتها، عادت أخيراً لتخطب ود ذات الأحزاب التي مازالت بعض قيادات المؤتمر الوطني تصفها بكل ما هو قبيح ومسيء. والحكومة لم تكتفِ بذلك الوهم وتصمت، ولكنها تعمل على استفزاز المواطنين عندما تتحدث عن تأييدهم لها ولسياساتها التي تم انتخابهم لها بموجبها. وهى ذات السياسات التي قادت البلاد والعباد إلى ما نحن عليه الآن من انهيار اقتصادي، هو حقيقة حتى وان أنكرته السلطة، ومن تدهور سياسي واجتماعي أدى إلى تمزيق نسيج المجتمع والعودة بالمواطنين إلى القبلية والجهوية والعنصرية، وهى ذات السياسات التي قادت إلى شطر البلاد إلى شطرين، ومن ثم افتقدت بموجب ذلك أهم دعائم اقتصادها، النفط.
السيد أمين حسن عمر أحد قيادات المؤتمر الوطني الفاعلة، ولمزيد من استفزاز المواطنين صرح سيادته، بالقول، إذا أتتنا إشارة قوية من الشعب بأنه ملَّ وجودنا سنرجع له، ويقصد بالرجوع للشعب قيام انتخابات يجدد الشعب بموجبها خياره لحكامه. وهذا دليل آخر على أن حكومة الأستاذ أمين مازالت تظن ان الشعب «ساكت» كل هذا الوقت لأنه مرتاح وهانئ البال، ولا يوجد ما يعكر صفوه لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً. وبالطبع يحق لهم أن يعتقدوا ذلك، ما داموا لا يرون أو يسمعون صوت احتجاج يدلل على الإصابة بالملل الذى يبحث عنها سيادته. وقطعاً حتى هذه الدعوة لمعرفة رأي الجمهور في حكومتهم هي أيضا من بركات المذكرة الألفية مهما أنكروا تأثيرها وبشروا بتجاهلها. وعلى كل يهمنا في هذا المجال أن يوضح لنا دكتور أمين الكيفية التي سيعبر بها الشعب السوداني عن ملله من وجودهم، ونوع الإشارة القوية المطلوبة للتعبير عن ذلك، إن كانت حكومتهم حتى الآن لم تشعر أو تحس بذلك الملل، لا في اعتصام المناصر الذى دخل شهره الرابع، ولا في مظاهرات جماهير المؤتمر الوطني بنيالا التي قادت إلى خسائر في الأرواح والممتلكات، ثم اعتصام جماهير المؤتمر الوطني بكوستي، وتمرد الولاة على المركز والجهر بالمطالبة بحقوقهم كاملة، ودون ذكر لقصة المذكرات التي أصبحت تنهال عليهم ومن كوادركم وغيرهم ومن كل حدب وصوب.
فالمعروف والمألوف أن تعبير الجماهير عن مللها من حكوماتها، عادة ما يتم كالذي شاهدناه وسمعناه من جماهير الربيع العربي بأي من بلدانها. حيث تخرج الجماهير إلى الشارع العام لتسمع السلطة رأيها وما ترى فيها وفى أسلوب حكمها. أو أن تتوقف عن التعامل مع تلك السلطة فتحجم عن العمل، في عصيان مدني، مثلاً. وبما أن جميع هذه الوسائل التي تعكس رأي الشعب في سلطته، هي محرمة عندكم، حيث تمنعون اى تحرك جماهيري مهما كانت دوافعه وسلميته وتعملون على بعثرته قبل أن يكتمل نصابه، وتقولون إن المذكرة التي هي إحدى صور التململ ورغم إنها من «ناسكم»، إنها لن تأتى بنتيجة. أهه، ورينا الطريقة التي يتم بها التعبير عن الملل حتى لا يحاول البعض أخذ قولك هذا مأخذ الجد، فيخرج للتعبير عن ملله بالطرق المشروعة دستورياً وممنوعة واقعاً فيقع في شر أعماله؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق