د. محمد بدوى مصطفى (راى 451)(الأرشيف) |
كان الرجل الطيّب حاج التوم يترقب فاكهة النفط كما وعده أهل الرأي بالبلد، وأن الحال سوف يتبدّل بين عشية وضحاها إلى جنّة في ثياب شبة جزيرة عربية/نيليّة تتدفق فيها الخيرات أنهارا. لقد صدّق ما سمعته أذناه وآمن به وحسب أنه قد بلغ الخبر اليقين، لكن ما أن راح البترول حتى تلاشت كلّ آماله كالسراب، وها هو ذا قابع الآن على ألمه وممسكا على فقدان الوطن وضياع الثروة براحة كفيِّهِ. لن ينسى أبدا تلك الساعة من السويعات الحالمة عندما كانت تغشاه، فتُحلِّق روحه في آفاق بعيدة، كالذاهل في غيبوبة مغناطيسية، وتتدفق عليه أحلام الهناء في غير ترتيب زماني، يرى فيها نفسه لابسا عُقال النفط وموزعا الكفالات للعمالة الأجنبية. كان تزاوره دعوة سيدنا ابراهيم الخليل فتغمره هامسة في أذنه (اللهم أجعل هذا السودان بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ...) لكنه يستيقظ كل يوم في نفس المكان ويجد نفسه في الكلاكلة صنقعت؛ ويدلف كعادته إلى نافذة حجرته البائسة يشاهد شقاء اليوم المشتمل الكون بثوبه الأسود، والنجوم من فرط قسوة العيش عليه، تكاد أن تنطق وتتكلم معبرّة عمَّا يجوش بدواخله من ضيم ومذلة وحقد. تبدو له الدنيا والناس من حوله كالأشباح القائمة فيقول محدثا نفسه: لم يشهد هذا البلد الآمن، سلّة العالم للغذاء المنتظر - إلى يوم يبعثون، تخريبا وإهمالا لبنياته الاقتصادية كتلك التي يشهدها في هذه الحقبة والتي تراكمت وتزاحمت في العقدين الأخيرين في اضطراد يكاد أن يكون خرافي أو تسابق مع الزمن يكاد أن يكون خارق للعادة. لقد لعبت اللاسياسة ، العبث الآثم، غياب الخطط الثاقبة وانهزام الرؤى الحكيمة، دون أدنى شك، دورا فاعلا وسببا رئيسا في ما آل إليه حال الاقتصاد من اعوجاج. المواطن وحده، يحمل على أكتافه هذا الحمل الثقيل وهذا الإرث اللعين ويعاني وحيدا تداعيات هذه الأزمة الخانقة التي حلّت عليه؛ وكأني أراه يقول بلسان حاله: غلاء المعيشة وارتفاع سعر الدولار أشدّ من ضربات الجبخانة والنار.
لقد آمن حاج التوم بما قالوا له في خطاباتهم اليومية: “نحن بَعيدِين كلّ البُعد من الأزمة لأننا حوّلنا تعاملنا المالي بعملات غير الدولار وعملنا على تقوية الإنتاج في كافة القطاعات وسهرنا على جذب الاستثمار المباشر وعلى تهيئة بنياته في المجالات الإنتاجية وكما قمنا بتقوية قطاع المصارف، الخ.” لكن حاج التوم يا سادتي يعيش على عتبة الواقع ويمشى على أعتاب سُلَّم الحقيقة وهو قد فاق للتوّ من حلمه، ليرى أن الأزمة العالمية لم تستثنِ اقتصاد الإنقاذ من تداعياتها السلبية كما زُعمَ. الكل يعلم أن هذه اسطورة لا تتماشي والواقع المعاش، لأننا نشهد الإخفاق والتدهور المريع للقطاع الزراعي، خاصة الزراعة التقليدية، ونلمس الشلل الذي أصاب قطاع الاستثمارات المحلية والخارجية التي انحصرت في نطاقات لا تَمُتُّ لاحتياجات المواطن بصلة، إذ وجّهت الحكومة كل ما لديها من مال أجنبي أو ودائع في بنوك خارجية لتنفيذ مشاريع استهلاكية بذخية وحربية بعيدة عن احتياجات وهموم المواطن الضرورية، وكانت النتيجة المتوقعة التضخم المالي الآني وانهيار الاقتصاد ومن ثمّ ارتفاع في سعر الدولار في السوق الموازي إلى قرابة الستّ جنيهات وبنك السودان المركزي ما زال يتجاهل القيمة المالية الحقيقية التي يفرضها سوق العملة، مخفضا قيمته لجنيهين ونصف. إن اخفاقات السياسات الاقتصادية تبدو جليّة في تصدع المشاريع الزراعية وافلاس البنوك وتهالك المؤسسات الخدمية وتدهور قلب الأمة النابض في مجال التعليم والصحة والعطاء الخدميّ المباشر وإلى تدنى مؤشر دخل الفرد من يوم إلى آخر، إذ صار الغني أكثر غنى والفقير يستجير من الرمضاء بالنار.
سمعنا ولن ننسى تلك الأصوات القائلة ملئ شدقها: “ لن يتأثر السودان بالأزمة المالية العالمية لأن الأنظمة المالية والاقتصادية به في حماية تامة.” لقد قيلت هذه الجملة قبل ثلاثة أعوام أو أكثر وكان انفصال الجنوب بعيد عن الرؤى السياسية التي أظهرت الحقيقة ضيق افقها واستخفافها بالمواقف المصيريّة. كم من مرّة تم تجميل معطيات الواقع؟ فكيف يعقل، حسب تقارير وزارة المالية، أن السودان هو المستفيد الأول من الحظر الأمريكي؟ والتعليل يقول إن عدم تداخل بنك السودان المركزي مع مؤسسات مالية ومصارف عالمية في مشاريع استثمارية خارجية هو الذي يحصنه من سهام الأزمة، وكأن السودان يعيش في جزيرة بمعزله عن العالم وكأن منتجاته كالبترول (الراحل) وبعض منتجاته الزراعية ربما تصدر إلى عوالم أخرى، خارج الكرة الأرضية. لقد أخفقت وزارة المالية وبنك السودان المركزي عندما استخفا بانعكاسات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد المحليّ سيما بعد انفصال الجنوب وضياع أكثر من (70٪) من إيرادات الخزينة العامة عبر مبيعات النفط. كنا ننتظر من المسؤولين في هذا الصدد تحليلا واقعيا وشجاعا في مواجهة الحقائق بغية الوصول إلى رؤية مستقبلية عبر آليات علمية تخرج البلد من هذا المأزق. بل كان يجب أن تعمل الحكومة بصورة جادة في إعداد سياسات مالية ونقدية داعمة لتلافي كل آثر سالب على اقتصاد البلد الذي ما فتأ ينهار يوما بعد يوم. لم تعد تلك الأحلام الورديّة تزور حاج التوم إذ إنها تبدلت، فصارت كوابيس اليقظة تداهمه في كل لمحة ونفس.
لقد آمن حاج التوم بما قالوا له في خطاباتهم اليومية: “نحن بَعيدِين كلّ البُعد من الأزمة لأننا حوّلنا تعاملنا المالي بعملات غير الدولار وعملنا على تقوية الإنتاج في كافة القطاعات وسهرنا على جذب الاستثمار المباشر وعلى تهيئة بنياته في المجالات الإنتاجية وكما قمنا بتقوية قطاع المصارف، الخ.” لكن حاج التوم يا سادتي يعيش على عتبة الواقع ويمشى على أعتاب سُلَّم الحقيقة وهو قد فاق للتوّ من حلمه، ليرى أن الأزمة العالمية لم تستثنِ اقتصاد الإنقاذ من تداعياتها السلبية كما زُعمَ. الكل يعلم أن هذه اسطورة لا تتماشي والواقع المعاش، لأننا نشهد الإخفاق والتدهور المريع للقطاع الزراعي، خاصة الزراعة التقليدية، ونلمس الشلل الذي أصاب قطاع الاستثمارات المحلية والخارجية التي انحصرت في نطاقات لا تَمُتُّ لاحتياجات المواطن بصلة، إذ وجّهت الحكومة كل ما لديها من مال أجنبي أو ودائع في بنوك خارجية لتنفيذ مشاريع استهلاكية بذخية وحربية بعيدة عن احتياجات وهموم المواطن الضرورية، وكانت النتيجة المتوقعة التضخم المالي الآني وانهيار الاقتصاد ومن ثمّ ارتفاع في سعر الدولار في السوق الموازي إلى قرابة الستّ جنيهات وبنك السودان المركزي ما زال يتجاهل القيمة المالية الحقيقية التي يفرضها سوق العملة، مخفضا قيمته لجنيهين ونصف. إن اخفاقات السياسات الاقتصادية تبدو جليّة في تصدع المشاريع الزراعية وافلاس البنوك وتهالك المؤسسات الخدمية وتدهور قلب الأمة النابض في مجال التعليم والصحة والعطاء الخدميّ المباشر وإلى تدنى مؤشر دخل الفرد من يوم إلى آخر، إذ صار الغني أكثر غنى والفقير يستجير من الرمضاء بالنار.
سمعنا ولن ننسى تلك الأصوات القائلة ملئ شدقها: “ لن يتأثر السودان بالأزمة المالية العالمية لأن الأنظمة المالية والاقتصادية به في حماية تامة.” لقد قيلت هذه الجملة قبل ثلاثة أعوام أو أكثر وكان انفصال الجنوب بعيد عن الرؤى السياسية التي أظهرت الحقيقة ضيق افقها واستخفافها بالمواقف المصيريّة. كم من مرّة تم تجميل معطيات الواقع؟ فكيف يعقل، حسب تقارير وزارة المالية، أن السودان هو المستفيد الأول من الحظر الأمريكي؟ والتعليل يقول إن عدم تداخل بنك السودان المركزي مع مؤسسات مالية ومصارف عالمية في مشاريع استثمارية خارجية هو الذي يحصنه من سهام الأزمة، وكأن السودان يعيش في جزيرة بمعزله عن العالم وكأن منتجاته كالبترول (الراحل) وبعض منتجاته الزراعية ربما تصدر إلى عوالم أخرى، خارج الكرة الأرضية. لقد أخفقت وزارة المالية وبنك السودان المركزي عندما استخفا بانعكاسات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد المحليّ سيما بعد انفصال الجنوب وضياع أكثر من (70٪) من إيرادات الخزينة العامة عبر مبيعات النفط. كنا ننتظر من المسؤولين في هذا الصدد تحليلا واقعيا وشجاعا في مواجهة الحقائق بغية الوصول إلى رؤية مستقبلية عبر آليات علمية تخرج البلد من هذا المأزق. بل كان يجب أن تعمل الحكومة بصورة جادة في إعداد سياسات مالية ونقدية داعمة لتلافي كل آثر سالب على اقتصاد البلد الذي ما فتأ ينهار يوما بعد يوم. لم تعد تلك الأحلام الورديّة تزور حاج التوم إذ إنها تبدلت، فصارت كوابيس اليقظة تداهمه في كل لمحة ونفس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق