3 |
بعض محترفى السياسة فى بلادنا ما أن يعتلى واحد منهم منبراً للخطابة أو يمسك بميكرفون إلا وحسبنا شعباً بلا ذاكرة وأمة بلا عقول ، فتراه ينسخ كل تاريخه السياسى ويناقض مواقفه السابقة ليكتب تاريخاً لم نشهده وينسج مواقفَ لم تحدث ، ويلغى ما شاء من عثراته السياسية وإخفاقاته ولعل اللافتة المنصوبة أمام المحكمة الدستورية شرقي الخرطوم تؤكد ما ذهبنا إليه اذ تقول تلك اللافتة ان من بين تلك الجماعة رجل رحل عن هذه الدنيا كان له القدح المعلى في صناعة استقلال السودان والحقيقة غير ذلك اذ عارض ذلك الرجل استقلال السودان معارضة واضحة عندما انسحب ممثلو جماعته من البرلمان ومن الحزب الذي حقق الاستقلال. فبعضهم يتحدث عن الديمقراطية وكأنه ما كان أول من تآمر لوأدها عبر الإنقلابات العسكرية والتحالفات الحزبية العقيمة ، وآخر يتحدث عن مخازى الشمولية وكأنه لم يكن مشاركاً ومشرعاً لأنظمتها ، وثالث يتغنى بالديمقراطية الليبرالية وكأنه لم يسهم فى فوضى الديمقراطية التى عشناها ، ورابع يحدثنا عن إيمانه المطلق بالسلام وهو من ساق آلاف الشباب للموت عبر حرب أرادها جهادية ، وآخر تنكر لرموز تاريخية فى حزبه حققت أكبر إنجازاتنا الوطنية فراح ينسب هذا الإنجاز لنفسه ولبيته ولأسرته . كل هذا يحدث بسبب الشوق والتلهف للسلطة وكأننا لم نشهد تلك الأيام ولم نقف على ما فيها من إنتكاسات ، وهذا الشعب الذى يظنونه بلا ذاكرة يرصد ويعجب مما يقولون . هذا الشوق والتطلع المتراكم نحو السلطة ما فتر عندهم رغم مضي الايام وتقادم السنين ورغم الكهولة السياسية التى هم فيها ، وقد كنا نحسب أن تلك السنوات والعقود التى انطوت ستسهم فى إنضاج فكرهم السياسى وفى تعزيز إيمانهم بحتمية إنتقال القيادة الى أجيال جديدة تملك نفساً سياسياً معاصراً لمنعطفات الزمن الذى نعيش فيه ، ولكنهم يصمون آذانهم عن هذا النداء ويصرون أن يكونوا رجالاً لكل العصور وساسةً لكل الأزمان . ولكنهم اصروا على نكران الواقع وتجاهل الحقيقة وكان حصادهم الاوضاع التي يعيشها الوطن الآن.
قبل ما يقارب النصف قرن وعقب ثورة أكتوبر 64 كان الشارع يموج بهتاف أطلقته قوى اليسار.. هتاف يقول ويردد (لا زعامة للقدامى) ، والقدامى يومها كانوا قادة الأحزاب الوطنية التقليدية مثل الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري والإمام الهادي المهدي والسيد محمد أحمد محجوب وغيرهم من رموز الحركة الوطنية، ولكن رغم هذا الهتاف الداوي الذي أنتجه اليسار فقد جاءت انتخابات 1965م بهؤلاء القدامى وعلى رأسهم الزعيم الأزهري الذي أصبح رأساً للدولة (رئيس مجلس السيادة) والسيد محمد أحمد محجوب الذي أصبح رئيساً للوزراء ومعهم كل الرموز الوطنية. مضت السنوات تجر السنوات وغيب الموت كل شخصيات ذلك الجيل الوطني، وإذا بمن كانوا في أيام تلك الثورة في زمرة شباب السياسة أمثال السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني والدكتور حسن عبد الله الترابي والأستاذ محمد إبراهيم نقد.. إذا بهم يصبحون الآن قدامى وشيوخ السياسة في بلادنا، لذلك يحق لنا أن نتساءل: هل ثمة زعامة تنتظر هؤلاء في الأفق السياسي القادم ؟ هل رصيدهم الشعبي وقدرتهم على التأثير في تزايد أم تناقص ؟ هل يملكون ذات الإيقاع السياسي المؤثر الذي صاحبهم طوال تلك السنوات المتعاقبة أم بات ذاك الإيقاع نشازاً بفعل المتغيرات وتراكم سنوات العمر وتراكم الاخطاء ايضا ؟!.
قبل أن ندلف إلى هذه الأسئلة لابد أن نقر بأن هؤلاء القادة السياسيين استطاعوا أن يصمدوا على المسرح السياسي، وكان كسبهم السياسي خلال السنوات الماضية وافراً رغم تعاقب السنوات ، فقبل أكثر من ربع قرن وعندما قامت الانتفاضة في أبريل 85 وبعد سنوات من التغييب عن المسرح السياسي تحت ظل النظام المايوي استطاع هؤلاء أن يعودوا بقوة إلى دائرة التأثير السياسي ، فاستطاع الصادق المهدي أن يصبح رئيساً للوزراء بعد أن مكّن حزبه من إحراز أغلبية معقولة، وكفل الميرغني لحزبه الموقع الثاني بعد ان غابت النجوم المتلألئة عن سماء ذلك الحزب!! ، بينما قاد الترابي حزبه للموقع الثالث في قفزة سياسية مرموقة ، واستطاع نقد رغم إنحسار اليسار أن يضمن لنفسه ولحزبه موقعاً في البرلمان. إذاً القراءة السياسية للماضي القريب تؤكد أن من العسير لهؤلاء القادة أن يتواروا وينعزلوا أو يُعزلوا جماهيرياً ، ولكن هل تبقى هذه المعادلة على حالها في السنوات القادمة؟
مما لا شك فيه أن الحقبة التي نعيشها اليوم تختلف عن الحقب التي طويناها، وعالم اليوم الذي نحن جزء أصيل منه بفعل ثورة التقانة والميديا العالمية يختلف عن العالم الذي كان قبل ربع قرن، والجماهير ومكوناتها الفئوية بما فيها من شرائح مختلفة ما عادت هي ذات الجماهير وذات الشرائح ، حتى القضايا الوطنية والتطلعات القومية أصابتها الكثير من المتغيرات، فكان جراء هذا التغيير أن برزت قوى سياسية جديدة في الساحة .. قوى ذات انتماءات جهوية ومطالب إقليمية وموروث يشكو الظلم والتهميش ويستعين بالسلاح لفرض إرادته السياسية ويتطلع لأعلى السقوفات المطلبية .. وعلى الصعيد الاجتماعي يشهد السودان ويشهد العالم كله بروز قوى حديثة قوامها الشباب المسلح بمنتوجات التقانة الحديثة والعلم الوافر والوعي المستمد من فضاءات العالم بأكمله، حيث تتلاقح كل المعارف الإنسانية والنظريات الكونية لتنتج إرثاً كونياً جديداً يوحد شباب العالم كله بغض النظر عن الحدود الجغرافية، ولعل ما يشهده العالم العربي هذه الأيام من ثورات شبابية يؤكد صدق ما ذهبنا إليه. هذه التغيرات بلا شك ستؤثر في الساحة السياسية السودانية، وستؤثر كذلك في قدرة هؤلاء القدامى من السياسيين في الكسب والتأثير السياسي في مستقبل السنوات القادمة.
ولعل السيد الصادق المهدي بحكم ليبراليته المنفتحة وسعة أفقه السياسي أول من أدرك هذا التأثير القادم في رحم السنوات ، فراح يجاهد للإمساك برياح الحداثة بعد أن تيقن أن حزبه القائم على ولاءات تقليدية تنحصر في جهويات جغرافية محدودة لن يصمد أمام هذا التيار الجارف ، فقد رأى أن الحركات المسلحة الجهوية ستنتقص من رصيد حزبه السياسي أكثر من بقية الأحزاب ، لذلك سعى لتعويض هذا النقص المحتمل والمتوقع بالانفتاح على الشرائح المجتمعية مثل الشباب والمرأة. هذا المسعى الحميد والحداثى الذي مضى إليه الصادق المهدي لا يعيبه إلا ضعف المؤسسة الحزبية وإخفاقاتها في التناغم مع تحديات العصر التي يتطلع لها رئيس الحزب ، ومن المؤسف أن هذا الإخفاق يأتي على يد السيد الصادق نفسه قبل أن يأتي على يد غيره ، فالإصرار على الجمع بين الإمامة ورئاسة الحزب هو سعي دؤوب وتعطش للطاعة السياسية التي تناقض الديمقراطية الحزبية ، واختزال الحزب في شخص الزعيم السيد والإمام الطائفي يطلق سؤالاً ملحاً حول مستقبل الحزب ومستقبل وجوده إن توارت وغابت الشخوص، وربما يطلق سؤالاً آخر عن كيفية فك الارتباط بين الحزب والبيت خصوصاً وإن الزمن القادم بات معبأً ضد مناهج التوريث والاستعلاء السياسي.
وعلى الجانب الآخر.. جانب الاتحاديين والطائفة الختمية فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً والمستقبل يبدو أكثر قتامة ، فالسيد الميرغني على عكس غريمه السيد المهدي يظل غير منشغل بأمور الحداثة ، فهو وبحكم اجتهاده في إلباس الحزب الثوب الطائفي بعد أن غيب الموت الرموز الليبرالية التي كانت تتولى قيادة الحزب، يظل وفياً لذاك التراث الطائفي القائم على الطاعة والامتثال السياسي ، ومن هنا جاء التراجع في دور حزب الحركة الوطنية وفي اختزال تأثيره السياسي ، فالاتحاديون هم شريحة واسعة وعريضة تحب وتنفعل بمناخ الجدل والاختلاف السياسي وتلاقح الأفكار لذلك هم يضيقون ذرعاً بهذا المناخ الحزبي القابض الذي يختزل الحزب كله في شخص الزعيم، مما جعل الحزب اليوم أكثر تصدعاً وأكثر تفككاًً، و زاد الأمر سوءً عجز الحزب - وهو يمضي في هذا النهج الانغلاقي - عن العمل في قطاعات القوى الحديثة من شباب ومرأة وتنظيمات مهنية لأن هؤلاء ببساطة باتوا لا يجدون أنفسهم ولا يجدون تطلعاتهم وقضاياهم في رحم الحزب الذى أُريد له أن يصبح حزب السيد وليس الحزب الإتحادى ذا التاريخ الوطني المجيد.
وإذا تركنا الحزبين التقليديين وذهبنا صوب اليسار فسنجد الكثير من العقبات والعثرات ، بعض منها ذات بعد خارجي يتمثل في التهاوي العالمي الذي أصاب اليسار في الكون كله وكانت أكبر نتائجه سقوط كافة منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا والتى انتهت بالسقوط المهين للاتحاد السوفيتي حتى بات يطلق عليه توصيف (السابق) ... هذا السقوط تزامن مع تنامي الإسلام السياسي ( الغريم التقليدي لفكر اليسار ) مما ضاعف من أزمة اليسار وانحساره . وتحت وطأة هذا الظرف العالمي وإلى جانب ما كابده الحزب الشيوعي السوداني من ضربات موجعة تلقاها على يد النظام المايوي شملت اغتيال قائده السياسي ومفكره الأول الراحل عبد الخالق محجوب إلى جانب قياداته المؤثرة.. تحت وطأة هذين العاملين الخارجي والداخلي أفاق الحزب ومنذ قيام الانتفاضة قبل ربع قرن على واقع جديد ، واقع يشهد انحسار الزخم الشعبي الذي عاشه الحزب في حقبة الستينيات وتراجع رصيده الشعبي .. ليس بفعل هذه الأسباب وحدها ولكن أيضاً بفعل بروز قوى سياسية جديدة باتت ترى نفسها الأكثر تعبيراً عن واقع المهمشين ، فراحت هذه القوى الجهوية تقتطع من ذاك الرصيد وتحتل (الدوائر المقفولة) التي كان يتسيدها الحزب ويعبئ جماهيرها بخطابه السياسي المطلبي. وحتى في جانب مواكبة التغيير فإن الحزب الشيوعي والذي يُفترض فيه القدرة على تلك المواكبة والتماشي مع إيقاع الحداثة الجارف إلا أنه ظل أسيراً لكاريزما الشيخوخة السياسية التي جسدتها قيادته السياسية الماسكة والقابضة ، وفشل في تجديد الدماء والإحلال السياسي ربما بشكل لا يقل عن بقية الأحزاب التقليدية.
ونحن نستعرض بانوراما الطيف السياسي في بلادنا، لم يبقَ من القدامى إلا الضلع الرابع وهو الدكتور حسن عبد الله الترابي والذي نشهد له بالكسب السياسي المتراكم طوال السنوات والعقود الماضيات، فالرجل وبحكم خلفيته الأكاديمية وتركيبته الاجتماعية والسياسية التي يتمازج فيها الفكر الإسلامي مع أسباب الحداثة ، وبحكم انفتاحه على المجتمعات الغربية وخصوصا فرنسا (معقل الحداثة والتنوير).. بحكم هذه الخلفية استطاع أن يواكب كل المتغيرات المحلية والدولية وأن يطوعها ويوظفها لصالح تطلعاته السياسية وآمال حزبه وجماعته، ولعل أكبر دليل على عدم ركون الدكتور الترابي إلى الانغلاق السياسي أن حزبه وجماعته السياسية ظلت تغير هويتها الحزبية ولافتاتها وفقاً لتغير المناخ السياسي حتى على صعيد الاسم، فبعد أن كان الحزب يتسمى في الستينيات بـ(جبهة الميثاق الإسلامي) أصبح في الثمانينيات عقب الانتفاضة (الجبهة الإسلامية القومية) ، ثم تحول إلى الحركة الإسلامية مع قدوم الإنقاذ ، وانتهى أخيراً إلى حزب المؤتمر الوطني وتوأمه المتمرد (المؤتمر الشعبي). طوال تلك السنوات الماضية استطاع الدكتور الترابي أن يغير في سياسات الاستقطاب والكسب الشعبي التي ينتهجها حزبه ، فبعد أن كان حزباً صفوياً تقوم قاعدته على نخبة من الأكاديميين والمهنيين والأفندية راح الحزب ينفتح على شرائح المجتمع العريضة في مختلف القطاعات الفئوية وأبرزها الفئات الشبابية والطلابية ، ولم ينس بالطبع شرائح الطرق الصوفية ، والتي كانت خارج دائرة اهتمامه في حقبة الستينيات بسبب غلبة التيار الأصولي في داخله في تلك الأيام ، فمضى ينتزعها من براثن غرمائه في الأحزاب التقليدية ذات التوجه الطائفي . هذه النجاحات الساحقة والكسب المتوالي ربما يكون هو الذي شكل إغراءً للدكتور الترابي ليغنم السلطة بكاملها عبر انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو والذي نعده نتاجاً خالصاً لفكر الدكتور. لكن الشيخ ورغم ذهنه الثاقب إلا أنه فشل أن يمضي بخططه إلى غاياتها فكانت المفاصلة الشهيرة بعد أن غابت عنه حقيقة أن ( العيال كبرت ) ، وما عاد اولئك الحواريون هم ذات التلاميذ وطلاب الثانويات المنبهرين به والمطيعين له ، فكان الانكفاء الأخير إلى جدار المناكفة السياسية.
لقد جاهد الدكتور الترابي أن يكون حداثياً في تفكيره وبناء حزبه، إلا أنه وبسبب ارتباك الحسابات السياسية أصبح في ذات الحيز مع غرمائه التقليديين من قدامى السياسة في بلادنا.. فهل تراه يملك زاداً سياسياً لمواجهة الأيام القادمة ؟ او يستطيع ان يصنع التغيير اذا «سخا» كما قال زعيم الحزب الشيوعي الاستاذ محمد إبراهيم نقد.
ذاك إذاً هو حال الأربعة الكبار من وجوه السياسة في بلادنا.. فهل يملكون جميعاً رصيداً كافياً للاستمرار بذات القوة والتأثير في عالم يعلو موجه بالمتغيرات ، وفي وطن ما عاد الثبات السياسي عنواناً له ؟ الإجابة في تقديرنا تكمن في قدرتهم على التغيير .. تغيير يمكن أن يطال حتى وجودهم على الصدارة ، فهل يملكون الجرأة السياسية على هذه التضحية الباهظة الثمن ، ام انهم استمرأوا هذا الواقع الذي مله المواطنون وباتوا ينظرون في الأفق البعيد لعلهم يجدون فيه ملامح ضوء يبعث الأمل في نفوسهم من جديد.
وأخيراً، لابد لنا من القول، إنَّ هؤلاء الزعماء لم يتفقوا جميعهم في العمل العام بالنسبة للوطن، بقدر اتفاقهم على أن يختلفوا ، ولعلَّ هذا هو السبب الذي دفع ببلادنا إلى طريق المهالك .
قبل ما يقارب النصف قرن وعقب ثورة أكتوبر 64 كان الشارع يموج بهتاف أطلقته قوى اليسار.. هتاف يقول ويردد (لا زعامة للقدامى) ، والقدامى يومها كانوا قادة الأحزاب الوطنية التقليدية مثل الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري والإمام الهادي المهدي والسيد محمد أحمد محجوب وغيرهم من رموز الحركة الوطنية، ولكن رغم هذا الهتاف الداوي الذي أنتجه اليسار فقد جاءت انتخابات 1965م بهؤلاء القدامى وعلى رأسهم الزعيم الأزهري الذي أصبح رأساً للدولة (رئيس مجلس السيادة) والسيد محمد أحمد محجوب الذي أصبح رئيساً للوزراء ومعهم كل الرموز الوطنية. مضت السنوات تجر السنوات وغيب الموت كل شخصيات ذلك الجيل الوطني، وإذا بمن كانوا في أيام تلك الثورة في زمرة شباب السياسة أمثال السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني والدكتور حسن عبد الله الترابي والأستاذ محمد إبراهيم نقد.. إذا بهم يصبحون الآن قدامى وشيوخ السياسة في بلادنا، لذلك يحق لنا أن نتساءل: هل ثمة زعامة تنتظر هؤلاء في الأفق السياسي القادم ؟ هل رصيدهم الشعبي وقدرتهم على التأثير في تزايد أم تناقص ؟ هل يملكون ذات الإيقاع السياسي المؤثر الذي صاحبهم طوال تلك السنوات المتعاقبة أم بات ذاك الإيقاع نشازاً بفعل المتغيرات وتراكم سنوات العمر وتراكم الاخطاء ايضا ؟!.
قبل أن ندلف إلى هذه الأسئلة لابد أن نقر بأن هؤلاء القادة السياسيين استطاعوا أن يصمدوا على المسرح السياسي، وكان كسبهم السياسي خلال السنوات الماضية وافراً رغم تعاقب السنوات ، فقبل أكثر من ربع قرن وعندما قامت الانتفاضة في أبريل 85 وبعد سنوات من التغييب عن المسرح السياسي تحت ظل النظام المايوي استطاع هؤلاء أن يعودوا بقوة إلى دائرة التأثير السياسي ، فاستطاع الصادق المهدي أن يصبح رئيساً للوزراء بعد أن مكّن حزبه من إحراز أغلبية معقولة، وكفل الميرغني لحزبه الموقع الثاني بعد ان غابت النجوم المتلألئة عن سماء ذلك الحزب!! ، بينما قاد الترابي حزبه للموقع الثالث في قفزة سياسية مرموقة ، واستطاع نقد رغم إنحسار اليسار أن يضمن لنفسه ولحزبه موقعاً في البرلمان. إذاً القراءة السياسية للماضي القريب تؤكد أن من العسير لهؤلاء القادة أن يتواروا وينعزلوا أو يُعزلوا جماهيرياً ، ولكن هل تبقى هذه المعادلة على حالها في السنوات القادمة؟
مما لا شك فيه أن الحقبة التي نعيشها اليوم تختلف عن الحقب التي طويناها، وعالم اليوم الذي نحن جزء أصيل منه بفعل ثورة التقانة والميديا العالمية يختلف عن العالم الذي كان قبل ربع قرن، والجماهير ومكوناتها الفئوية بما فيها من شرائح مختلفة ما عادت هي ذات الجماهير وذات الشرائح ، حتى القضايا الوطنية والتطلعات القومية أصابتها الكثير من المتغيرات، فكان جراء هذا التغيير أن برزت قوى سياسية جديدة في الساحة .. قوى ذات انتماءات جهوية ومطالب إقليمية وموروث يشكو الظلم والتهميش ويستعين بالسلاح لفرض إرادته السياسية ويتطلع لأعلى السقوفات المطلبية .. وعلى الصعيد الاجتماعي يشهد السودان ويشهد العالم كله بروز قوى حديثة قوامها الشباب المسلح بمنتوجات التقانة الحديثة والعلم الوافر والوعي المستمد من فضاءات العالم بأكمله، حيث تتلاقح كل المعارف الإنسانية والنظريات الكونية لتنتج إرثاً كونياً جديداً يوحد شباب العالم كله بغض النظر عن الحدود الجغرافية، ولعل ما يشهده العالم العربي هذه الأيام من ثورات شبابية يؤكد صدق ما ذهبنا إليه. هذه التغيرات بلا شك ستؤثر في الساحة السياسية السودانية، وستؤثر كذلك في قدرة هؤلاء القدامى من السياسيين في الكسب والتأثير السياسي في مستقبل السنوات القادمة.
ولعل السيد الصادق المهدي بحكم ليبراليته المنفتحة وسعة أفقه السياسي أول من أدرك هذا التأثير القادم في رحم السنوات ، فراح يجاهد للإمساك برياح الحداثة بعد أن تيقن أن حزبه القائم على ولاءات تقليدية تنحصر في جهويات جغرافية محدودة لن يصمد أمام هذا التيار الجارف ، فقد رأى أن الحركات المسلحة الجهوية ستنتقص من رصيد حزبه السياسي أكثر من بقية الأحزاب ، لذلك سعى لتعويض هذا النقص المحتمل والمتوقع بالانفتاح على الشرائح المجتمعية مثل الشباب والمرأة. هذا المسعى الحميد والحداثى الذي مضى إليه الصادق المهدي لا يعيبه إلا ضعف المؤسسة الحزبية وإخفاقاتها في التناغم مع تحديات العصر التي يتطلع لها رئيس الحزب ، ومن المؤسف أن هذا الإخفاق يأتي على يد السيد الصادق نفسه قبل أن يأتي على يد غيره ، فالإصرار على الجمع بين الإمامة ورئاسة الحزب هو سعي دؤوب وتعطش للطاعة السياسية التي تناقض الديمقراطية الحزبية ، واختزال الحزب في شخص الزعيم السيد والإمام الطائفي يطلق سؤالاً ملحاً حول مستقبل الحزب ومستقبل وجوده إن توارت وغابت الشخوص، وربما يطلق سؤالاً آخر عن كيفية فك الارتباط بين الحزب والبيت خصوصاً وإن الزمن القادم بات معبأً ضد مناهج التوريث والاستعلاء السياسي.
وعلى الجانب الآخر.. جانب الاتحاديين والطائفة الختمية فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً والمستقبل يبدو أكثر قتامة ، فالسيد الميرغني على عكس غريمه السيد المهدي يظل غير منشغل بأمور الحداثة ، فهو وبحكم اجتهاده في إلباس الحزب الثوب الطائفي بعد أن غيب الموت الرموز الليبرالية التي كانت تتولى قيادة الحزب، يظل وفياً لذاك التراث الطائفي القائم على الطاعة والامتثال السياسي ، ومن هنا جاء التراجع في دور حزب الحركة الوطنية وفي اختزال تأثيره السياسي ، فالاتحاديون هم شريحة واسعة وعريضة تحب وتنفعل بمناخ الجدل والاختلاف السياسي وتلاقح الأفكار لذلك هم يضيقون ذرعاً بهذا المناخ الحزبي القابض الذي يختزل الحزب كله في شخص الزعيم، مما جعل الحزب اليوم أكثر تصدعاً وأكثر تفككاًً، و زاد الأمر سوءً عجز الحزب - وهو يمضي في هذا النهج الانغلاقي - عن العمل في قطاعات القوى الحديثة من شباب ومرأة وتنظيمات مهنية لأن هؤلاء ببساطة باتوا لا يجدون أنفسهم ولا يجدون تطلعاتهم وقضاياهم في رحم الحزب الذى أُريد له أن يصبح حزب السيد وليس الحزب الإتحادى ذا التاريخ الوطني المجيد.
وإذا تركنا الحزبين التقليديين وذهبنا صوب اليسار فسنجد الكثير من العقبات والعثرات ، بعض منها ذات بعد خارجي يتمثل في التهاوي العالمي الذي أصاب اليسار في الكون كله وكانت أكبر نتائجه سقوط كافة منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا والتى انتهت بالسقوط المهين للاتحاد السوفيتي حتى بات يطلق عليه توصيف (السابق) ... هذا السقوط تزامن مع تنامي الإسلام السياسي ( الغريم التقليدي لفكر اليسار ) مما ضاعف من أزمة اليسار وانحساره . وتحت وطأة هذا الظرف العالمي وإلى جانب ما كابده الحزب الشيوعي السوداني من ضربات موجعة تلقاها على يد النظام المايوي شملت اغتيال قائده السياسي ومفكره الأول الراحل عبد الخالق محجوب إلى جانب قياداته المؤثرة.. تحت وطأة هذين العاملين الخارجي والداخلي أفاق الحزب ومنذ قيام الانتفاضة قبل ربع قرن على واقع جديد ، واقع يشهد انحسار الزخم الشعبي الذي عاشه الحزب في حقبة الستينيات وتراجع رصيده الشعبي .. ليس بفعل هذه الأسباب وحدها ولكن أيضاً بفعل بروز قوى سياسية جديدة باتت ترى نفسها الأكثر تعبيراً عن واقع المهمشين ، فراحت هذه القوى الجهوية تقتطع من ذاك الرصيد وتحتل (الدوائر المقفولة) التي كان يتسيدها الحزب ويعبئ جماهيرها بخطابه السياسي المطلبي. وحتى في جانب مواكبة التغيير فإن الحزب الشيوعي والذي يُفترض فيه القدرة على تلك المواكبة والتماشي مع إيقاع الحداثة الجارف إلا أنه ظل أسيراً لكاريزما الشيخوخة السياسية التي جسدتها قيادته السياسية الماسكة والقابضة ، وفشل في تجديد الدماء والإحلال السياسي ربما بشكل لا يقل عن بقية الأحزاب التقليدية.
ونحن نستعرض بانوراما الطيف السياسي في بلادنا، لم يبقَ من القدامى إلا الضلع الرابع وهو الدكتور حسن عبد الله الترابي والذي نشهد له بالكسب السياسي المتراكم طوال السنوات والعقود الماضيات، فالرجل وبحكم خلفيته الأكاديمية وتركيبته الاجتماعية والسياسية التي يتمازج فيها الفكر الإسلامي مع أسباب الحداثة ، وبحكم انفتاحه على المجتمعات الغربية وخصوصا فرنسا (معقل الحداثة والتنوير).. بحكم هذه الخلفية استطاع أن يواكب كل المتغيرات المحلية والدولية وأن يطوعها ويوظفها لصالح تطلعاته السياسية وآمال حزبه وجماعته، ولعل أكبر دليل على عدم ركون الدكتور الترابي إلى الانغلاق السياسي أن حزبه وجماعته السياسية ظلت تغير هويتها الحزبية ولافتاتها وفقاً لتغير المناخ السياسي حتى على صعيد الاسم، فبعد أن كان الحزب يتسمى في الستينيات بـ(جبهة الميثاق الإسلامي) أصبح في الثمانينيات عقب الانتفاضة (الجبهة الإسلامية القومية) ، ثم تحول إلى الحركة الإسلامية مع قدوم الإنقاذ ، وانتهى أخيراً إلى حزب المؤتمر الوطني وتوأمه المتمرد (المؤتمر الشعبي). طوال تلك السنوات الماضية استطاع الدكتور الترابي أن يغير في سياسات الاستقطاب والكسب الشعبي التي ينتهجها حزبه ، فبعد أن كان حزباً صفوياً تقوم قاعدته على نخبة من الأكاديميين والمهنيين والأفندية راح الحزب ينفتح على شرائح المجتمع العريضة في مختلف القطاعات الفئوية وأبرزها الفئات الشبابية والطلابية ، ولم ينس بالطبع شرائح الطرق الصوفية ، والتي كانت خارج دائرة اهتمامه في حقبة الستينيات بسبب غلبة التيار الأصولي في داخله في تلك الأيام ، فمضى ينتزعها من براثن غرمائه في الأحزاب التقليدية ذات التوجه الطائفي . هذه النجاحات الساحقة والكسب المتوالي ربما يكون هو الذي شكل إغراءً للدكتور الترابي ليغنم السلطة بكاملها عبر انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو والذي نعده نتاجاً خالصاً لفكر الدكتور. لكن الشيخ ورغم ذهنه الثاقب إلا أنه فشل أن يمضي بخططه إلى غاياتها فكانت المفاصلة الشهيرة بعد أن غابت عنه حقيقة أن ( العيال كبرت ) ، وما عاد اولئك الحواريون هم ذات التلاميذ وطلاب الثانويات المنبهرين به والمطيعين له ، فكان الانكفاء الأخير إلى جدار المناكفة السياسية.
لقد جاهد الدكتور الترابي أن يكون حداثياً في تفكيره وبناء حزبه، إلا أنه وبسبب ارتباك الحسابات السياسية أصبح في ذات الحيز مع غرمائه التقليديين من قدامى السياسة في بلادنا.. فهل تراه يملك زاداً سياسياً لمواجهة الأيام القادمة ؟ او يستطيع ان يصنع التغيير اذا «سخا» كما قال زعيم الحزب الشيوعي الاستاذ محمد إبراهيم نقد.
ذاك إذاً هو حال الأربعة الكبار من وجوه السياسة في بلادنا.. فهل يملكون جميعاً رصيداً كافياً للاستمرار بذات القوة والتأثير في عالم يعلو موجه بالمتغيرات ، وفي وطن ما عاد الثبات السياسي عنواناً له ؟ الإجابة في تقديرنا تكمن في قدرتهم على التغيير .. تغيير يمكن أن يطال حتى وجودهم على الصدارة ، فهل يملكون الجرأة السياسية على هذه التضحية الباهظة الثمن ، ام انهم استمرأوا هذا الواقع الذي مله المواطنون وباتوا ينظرون في الأفق البعيد لعلهم يجدون فيه ملامح ضوء يبعث الأمل في نفوسهم من جديد.
وأخيراً، لابد لنا من القول، إنَّ هؤلاء الزعماء لم يتفقوا جميعهم في العمل العام بالنسبة للوطن، بقدر اتفاقهم على أن يختلفوا ، ولعلَّ هذا هو السبب الذي دفع ببلادنا إلى طريق المهالك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق