الجمعة، 3 فبراير 2012

الحركة الإسلامية... السلطة وأفول المعنى

الحركة الإسلامية... السلطة وأفول المعنى
د. فضل الله أحمد عبد الله:
* «لا ينتهي شيء بصورة مشرفة.
ما لم ينتهِ لشكل أفضل مما بدأ عليه»
- صموئيل بيكر -
* «في المعركة مع القديم تصل الأفكار الجديدة إلى أكثر صيغها حدّة»
- بريخت -
* «أفول المعنى».. من أهم مواضعات ومعطيات «الحداثة»، وتلبسها بلبوس العبث.
* الناقد الراديكالي «أدورنو» يتحدث عن كارثة المعنى التي بمقتضاها لم يعد الفن كمظهر محسوس، وليس أمامه سوى مسلك التجريد. فالغموض الذي يكتنف الحداثة نفسها تتنطّع عن اختزالها في وضوح المعنى.
* في تشخيص أدورنو لـ «أفول المعنى» هو الأكثر سوداوية وتعبيراً - حسب محمد سبيلا - عن ذروة الإدانة للمجتمع التكنلوجي الحديث خاصة بعد فظائع الحرب العالمية الثانية التي جعلت قسماً من النخبة الألمانية تستشيط غضباً، والتي عبر عنها أدورنو بلا معنى ولا جدوى الكتابة والشعر والفكر والإبداع.. بعد كل هذه الفظائع.
تلك الغرائبية التي نظر إليها النقاد في مقولات العبث (اللا معقول بوصفها فلسفة تقوم على التناقض بين المظهر والنواة، ويكيّف اللا تطابق بواسطة الذات والمحمول والرابطة للإيهام بأنه متطابق - حسب أدورنو - أو «أفول المعنى» كعلامة مميزة للحداثة الفنية والاستيطيقية: إن غياب كل معنى ثيولوجي مهما كان محمولاً ومحوّراً، يبلغ ذروته في الفن في شكل أزمة المعنى. والاستراتيجية المنطوية خلف ذلك، هو التخلص من عناصر الواقع المتشيء للحداثة التقنية: ينبغي التدليل على أن الرموز في الفن الحديث تنزع إلى التحرر من وظيفتها الرمزية، وتساهم في تشكل مجال مناقض للواقع التجريبي ودلالته.
فالفن الحديث يبتلغ الرموز، من حيث إن هذه الأخيرة لم تعد ترمز إلى شيء.
ذلك المقصد أو ما اصطلح عليه «أفول المعنى» في الفن، هو ما نلمسه اليوم، في واقع الحركة الإسلامية السودانية برمزيتها ودلالاتها، وما تتمثله الآن في صورة الانهيار والأفول لتصدياتها ومعانيها وانفصالها عما ترمز إليه وهي في عباءة الدولة والحكم. إذ أن، أغلب أهل النظر المتبصر، لا ينظرون إليها، إلا كحالة تعمل على التحرر من وظيفتها، ونسيان «المعنى» وما ينبغي أن ترمز إليه.
برغم محاولات الإيهام الكبيرة التي تقوم بها الدولة، بأنها تعمل وفقاً لأفكار الحركة الإسلامية، إلا أن المنظور والملموس، هي تلعب في مساحات اللا تطابق، وتفكيك المعنى وقصم ظهر المنطق.
وفي تقديري، إن أي اتجاه نقدي، يعمل وفقاً لمنهج الاستقراء وجرد الوقائع، وبخاصة في «مفهوم السلطة» يتجلّى للارس مأزق الحركة الإسلامية في أفول معناها، منظوراً من أفكارها الكلية الشاملة - نشأة وتطوراً وكسباً - قبل سلطة القوة (الدولة) بكل أنساقها ومنظوماتها على مستويات الإنتاج الفكري في الثقافة والاقتصاد والاجتماع والحرية والمساواة، وكل ما يتصل بشأن حياة الناس وقضاياهم الشائكة.
إن البناء المنظور، وباتجاهات أغلب زواياه المرئية الآن، يمكن القول، بأن تلك الأفكار العظيمة الشاهقة في فلسفة الحركة الإسلامية، قد انعدم المعنى عندها وتشوهت ملامحها.
كارثة المعنى الآن تتجلى حتى على مستوى علاقاتها الصراعية وفي تطبيقات مفهوم اللسلطة:
من يستغل من، ومن يربح ومن يحكم - على قول «جيل دولوز» في حواراته مع «فوكو» - السلطة تحكمها طبقة مهيمنة تحدد بمصالحها.
ويشع ذلك لأقول ويلتمع بتساؤل «جيل دولوز» وكأنه قائم بيننا الآن:
كيف يحدث وأن أناساً ليس لهم مصلحة يتبعون ويترتبطون بشّدةٍ بالسلطة ويستجدون قطعة منها؟
ربما يكون مفهوم الاستثمار بمعناه الاقتصادي واللا شعوري، أما الربح فليست هي الكلمة الأخيرة، لأن هنالك استثمار الرغبة الذي يشرح أو يفسر أننا نستطيع تلبية رغبتنا، من دون أن نكون ضد مصالحنا، لأن المصلحة تتبع دائماً الرغبة... يجب القبول بصرخة «رايش Reic»: لا، ان الجماهير لم تخدع، لقد رغبت في الفاشية في لحظة ما؟ ولكن سرعان ما يرد «فوكو» محاوراً ومناظراً له:
إنه ليس بالضرورة أن الذين يمارسون السلطة لهم مصلحة في ممارستها، وأن الذين لا يمارسونها ليس لهم مصلحة فيها، والرغبة في السلطة تلعب بين السلطة والمصلحة لعبة لا تزال جد خاصة.
على ضوء تلك المناقشات، اتساق الغرب الأروبي إلى الإمساك بمعنى السلطة من النظرية المعرفية إلى تطبيق محسوس، مرتبط بالوجود الاجتماعي ذاته وملازم له. يلازم كل الأجسام في المجتمع.
والسلطة بهذا المعنى (الحديث لمحمد سبيلا) هي اللحام الذي يشد الجسم الاجتماعي ككل، ويشد معه وإليه البشر كافة، وكأن كلاً منهم بمشاركته الجزئية في السلطة العامة المنتشرة، يشد البناء الاجتماعي وينشدّ إليه. وبهذا تكون السلطة هي التبلور المجسم والجمع التركيبي لجميع السلط المتفصلة والمنبثقة في الجسم الاجتماعي ضمن منظور دينماميكي متناغم.
ظلت الحركة الإسلامية في انتاجها الفكري، تتماثل وتلك المفهومات للسلطة، ونحن على الأقل شهود، تفتح وعينا متزامناً مع انتمائنا للحركة الإسلامية في بدايات الثمانينيات، ونحن نقتفي من أدبياتها المرتكزة على قوانين التطور ومفاتيح المستقبل. ومنظورات فكرية عميقة الدلالات آمنا بها ولا نزال بأنها الأجدر في عمليات التغيير والإصلاح واكتناه واقعنا الاجتماعي المشتت في ذواته؛ قبائل، وعرقيات وطوائف متنافرة وكم شدنا التوق، بقوة الروح وقتئذ، إلى تأسيس دولة بمفهومات جديدة ومتجددة، الفرد فيها كائن اجتماعي، بكسبه، ولا تفاضل بين الناس إلا بمقدار المعارف وأدوار التنوير، ومساواة في الإنسانية.
غير أن واقع الحال وفي مساراته الكلية يذهب إلى غير تلك المذاهب والتصورات الفكرية.
وان الجزء الذي يشع لا يلامس أدنى حدود الفكرة، واستراتيجية الخطاب الجوهري للحركة الإسلامية كمشروع فكري نهضوي.
إن سلطة الدولة، انفلتت خارج دائرة الميل الدفين العميق للفكر الإسلامي، وفق فلسفتها الجمالية للوجود الانساني الكلي الشامل في سياق مراجعاتها الذاتية للكسب عبر أزمان نشوء المنهج والتطور المستندة لطاقاتها التحررية.
إن معالم الأزمة «أفول المعنى» تستوجب الآن، مراجعة المواقف ومحاسبة النفس، رفضاً لمحاولات اغتصاب الحقائق، وتزيور الوقائع والاحتفال التراجيدي. فالحقيقة التي تقفز إلى العيون، أن مشروعنا الفكري التحديثي قد انكسر أمام القوى التقليدية القبلية والعشائرية، وسلطة قبل العصرية...
ويجد الناقد المتأمل للأحداث والوقائع، أن مجتمعاتنا السودانية كأن الأزمان والعصور المختلفة قد تداخلت عندها، وانساق من أنظمة الإنسانيات المتباينة تماهت لديها.
وازدوج خطاب الدولة في ثنائية متناقضة (خطاب للعصر) و(خطاب للتقليد)..
فتحولت الفكرة الإسلامية الكونية المتقدمة، إلى حالة من التقليدية، وإن اجتهد الخطاب السياسي بتماثل خطاب العصر والحداثة.
إن تلك المناقضات في ثنائية الخطاب السياسي، أحدث إلتباساً كبيراً، وشروحاً في الشخصية الثقافية وحالة من الطمس في أغلب ناشئتنا في عمليات محاولات الإمساك بالمعنى من خلال (الفعل) الذي لا يصمد على الإطلاق في مواجهة (القول)...
ومن المفارقات التي تُلفِت نظر المتأمل لمسارات الحركة الإسلامية في تطبيقاتها... لمفهوم السلطة، هو ذلك الثقب الكبير في مساحات المشروع الثقافي المستند على الفكر، وغياب نفوذ المفكرين والمشتغلين عليه.
لا على مستوى حركة الدولة فحسب، بل على مستوى الصوت المسموع كذلك. ومشت عليهم عمليات الاحلال والابدال التدريجي بتطور ثقافة العشيرة والقبيلة والطائفة.
وتعرض الإبداع الفكري الثقافي للذوبان في بوتقة التسلطة السياسي ومؤسساته التراثية الراسخة الطقوس والجارفة إلى مقامات القداسة والإلهام.
ولعلي أجد نفسي هنا، ومن باب التمثيل بالشيء، أقارب بين حالة هذا الجيل في واقعنا هذا، وبين ما أورده «محمد المكي إبراهيم» في كتابه (الفكر السوداني أصوله وتطوره) مستنتجاً وفقاً لمنظوراته المتأملة في أجيال الثورة المهدية، والتي قام بتقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
* أولها: «جيل (المهزومين) في كرري على فئات ثلاث، أغلبية آمنت بالمهدية، حقاً، ولكن إيمانها ما لبث أن تضعضع وضعف بفعل التخثر المريع الذي حاق بالثورة في مرحلة الدولة. وقلة لم تؤمن أصلاً بالمهدية، وإن كانت تظاهرت بذلك قبل الهزيمة. وبين هؤلاء وأولئك متعصبون لا يحيدون عن بيعتهم الأولى قط، ولما سقطت أم درمان في يد الجيش الغازي تصرفت كل فئة حسب مستوى إيمانها وولائها».
* ثانيها: «جيل (ورثة الهزيمة) فأولئك كانوا صبية وفتيان المهدية الذين ولدوا مطاليع ثمانينات القرن التاسع عشر أو بعدها».
* آخرها: «جيل (أحفاد الهزيمة) فأولئك هم الذين لم يشهدوا كرري، حيث كان بعضهم أطفالاً، وقتها، وبعضهم الآخر أجنة في رحم الغيب، فقدر لهم أجمعهم، بسبب ذلك الحاجز السميك الذي هبط بينهم وبينها، أن يشربوا درسها لاحقاً ويتفاعلوا معه، بطريقة جد مختلفة».
وتلك القراءة عند «محمد المكي إبراهيم».. أجد أن الكاتب الباحث كمال الجزولي قد نظر إلى ذلك بقدر من العمق الشفيف، ليخرج بأكثر الدروس تجلياً عن أسباب تقهقهر الفكرة الثورية المهدية بكل ضخامتها عند أعتاب سلطة الدولة، أو دولة السلطة وسقوطها قبل بعد أن انسربت إليها العشائرية والقبلية والجهوية، وتهشم قوام الفكرة الجوهرية الناهضة للمهدية..
وأبلغ تلك الإشارة عند كمال الجزولي في كتابه «إنتليجنسيا نبات الطّل باب في نقد الذات الجمعي»، وذلك الموقف من : «سياسات (الحزب التعايشي) - عشيرة الخليفة الأقربين - القائمة في التقريب والإبعاد والإقصاء والإحلال والتي أهدرت المعايير الثورية الأولى لحساب الولاءات العشائرية الضيقة، والتقديرات الأوتوقراطية المعزولة». ويشير أنه «خيرة الرجال قد جرى استبعادهم واستبدال آخرين بهم، لا لأي اعتبار سوى الثقة، كل الثقة في أهل الولاء مهما تدنت قدراتهم، والاسترابة كل الاسترابة، في من عداهم بالغة ما بلغت كفاءتهم، ومن تلك الوقائع التاريخية الثابتة، حملات التصفيات والاعتقالات والنفي التي طالت حتى أبناء المهدية المخلصين وقادتها العسكريين والإداريين وفق منظورات عشائرية جهوية باتجاهات التمكين «وراكمت من الغبينة (الحديث لكمال الجزولي) ما لم يكن ممكناً للصور أن تستمر في كتبه إلى ما لا نهاية، فانفجر الصراع في أكثر أشكاله عنفاً وسفوراً ودموية، بين عصبة الأشراف و (أولاد البلد) من جهة، وبين أتوقراطية (الحزب التعايشي) الذي انفرد بالأمر من الجهة الأخرى، متنصلاً عن إقرار (الثورة) القديم بتعدُّد الرايات في وحدة جيشها الباسل، وجاحداً (الآخرين) مشروعية المغايرة والمعارضة والاختلاف، مما دفع بهم، بالمقابل، وتحت قيادة الخليفة شريف، لإنشاء تنظيمهم السري الذي نشط في جمع السلاح وإخفائه، وتحشيد الأشراف، وتجنيد الدناقلة وبالنتيجة (الحديث لا يزال لكمال الجزولي) استيقظت أم درمان صباح الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1891 على (لعلعة) رصاص لم ينطق تلك المرة (في شان الله) صوب (حُمْرَةٍ أباها المهدي) - كناية عن الغازي الأجنبي - وإنما صوب صدور سودانية في صراع السلطة والثروة! لقد وقع ذلك الصدام المأساوي المسلح، أخيراً، بين الطرفين، ليشكل المعلم الأكثر خطورة باتجاه إضعاف أول دولة وطنية موحدة في تاريخنا الحديث، لحساب المؤتمرات الاستعمارية التي ما انفكت تتصل حلقاتها، أوان ذك، حتى بلغت ذروتها الدرامية في سفح (كرري)»..
والذهن الناقد البصير دائماً ما يقول: «إن من يريد أن يقفز قفزة عظيمة علية أن يكون مستعداً لأخذ عدة خطوات للخلف. إن اليوم يقوي نفسه باستخدام الأمس وصولاً إلى الغد».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق