الأحد، 7 أغسطس 2011

وما أدراك ما الجمهورية الثانية

لقد عجزنا طوال فترة الدولة الوطنية عن مواجهة الواقع ومعالجة اشكالاته وظللنا نتغنى بامجاد الاجداد وبطولات الآباء ولم نستطع ان نجعل من ماضينا معبراً لمستقبل آمن، وفي كل مرحلة من مراحل معاناتنا التي نعالجها بانقلاب او ثورة او انتفاضة كنا في واقع الامر كمن يضخ دماء جديدة في قلب متوقف عن النبض لذلك استمرت المعاناة واستمرينا في لعبة المعالجات الشكلية والمونتاج الظاهري وكلما اشتدت ازماتنا لجأنا الى الافكار التبريرية المريحة وكدنا نصدق ان تغيير الاسماء واطلاق المسميات نهاية كل عقد دون تغيير جوهري هو غاية العبقرية حتى وصلنا الى المرحلة التي نعيشها الآن والتي لن ولا تجدي معها «الدبلجة» او «المونتاج» لنفس الفيلم الذي شاهدناه بل عايشناه لاكثر من خمسين عاماً.
إن السودانيين الآن لا تنقصهم العبقرية الاكاديمية ولا الكفاءات المصقولة بالخبرة في كافة المجالات كي يعجزوا عن تصحيح الاخطاء السياسية التي كلفتهم دماء غزيرة سالت في كل الحقب وعقول نيرة وسواعد مفتولة هاجرت الى كل القبل وجوعى ونازحين ولاجئين، وتوجس وخوف وهضربة ومشردون يموتون كالجراد، وفوق كل هذا شلل عام لا يليق بامة عميقة الجذور تمتلك الشباب والموارد والمواهب حرام ان تساق ضحى وفي وضح النهار الى جمهورية ثانية بذات الاحزاب والسياسيين الذين سيطروا فكرياً وسياسياً وتنفيذياً على الجمهورية الاولى حتى اوصلونا الى الجمهورية الثانية، بثلثي مساحة الوطن كأنما المجتمع السوداني كتلة جامدة بمقاييس ثابتة ينتظر في كل حقبة من يُفصِّل لها على هذا المقاس الثابت ثوباً على مزاجه كي ترتديه حينا من الدهر حتى اذا انكمش او كشف عورة ما اتى نفس الترزي ومن نفس القماش ليفصل ثوباً آخراً.
إن المجتمع السوداني في حالة تحول شاء من شاء وأبى من أبى المجتمع السوداني الآن يعيش لحظة تحول لان في داخله قضايا ولّدت حراكاً وانبعاثاً لن يهدأ الا بعد اسقاط الحواجز التي اعاقت حل هذه القضايا واسقاط هذه الحواجز مسألة حتمية لكن السؤال «كيف ومتى» هو ما يجب على العقلاء التدبر فيه.
وفي اعتقادي المتواضع ان المجتمع السوداني الآن يحتاج الى حزب سوداني وطني جديد يستوعب التطلعات المشروعة لقطاع عريض من السودانيين، هذه التطلعات الوطنية الصادقة التي تم خنقها وتفعيلها من قبل الاحزاب التي نشأت منذ اربعينيات القرن الماضي في الخرطوم ومنذ الاستقلال وطوال فترة الدولة الوطنية وحتى هذه اللحظة ظلت النخب التي تقود هذه الاحزاب تمارس صراعاتها الفكرية والمذهبية والمحرك لكل تلك الصراعات لم يكن الوطن او المواطن بل التنافس على السلطة. لقد عجزت تلك الاحزاب التي نشأت منذ اربعينيات القرن الماضي عن القيام باهم وظائفها وهي التحديث السياسي والتكامل القومي عوضاً عن ذلك وفي ازدواجية غريبة خالفت تلك الاحزاب مبادئها واطروحاتها التي دبجت بها دساتيرها واعتمدت من الخرطوم على زعماء العشائر والقبائل لان القبيلة في السودان تمتلك ارضاً ومنظمة وتقدم الحماية لافرادها لذلك لم تكلف الاحزاب نفسها تطوير هذه الخصائص او تحديث هذه البنيات القبلية ودمجها قومياً بل اصبحت القبائل هي الركائز التي يعتمد عليها الحزب حتى اصبح علينا الصبح ونحن نساق الى تأسيس جمهورية ثانية على واقع مبتلى اشد مراساً وقوة منه عشية الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، فقد تسلحت القبائل الآن وقويت شوكتها في وقت ضعفت فيه الاحزاب وقلت هيبتها وتأثيرها والامر والادهى من ذلك تلاحم الدين والعصبية بصورة لم يحلم بها ابن خلدون عندما قرر «ان العصبية ضرورية للملة».. ومن جهة أخرى وكي تكتمل حلقات المأساة ضعفت منظمات المجتمع المدني ذات الطرح الوطني القومي الثقافي حتى لو قارناها بمنظمات المجتمع المدني قبل الاستقلال أي عند تأسيس الجمهورية الأولى مثل جماعة ابروف والجماعة الثقافي في ود مدني ونادي الخريجين وغيرها من الجماعات والروابط الثقافية الوطنية وباختصار يمكننا القول باننا اليوم ومن واقع المعاناة اليومية من أجل المعيشة والحروب والكبت انحسرت فرص التماسك والاندماج الوطني حول اطر فكرية وثقافية وانكمش الولاء الى القبيلة دون الوطن ناهيك عن الامة بمعناها العريض وضعف الايمان «بفكرة الدولة كمفهوم» بل وصل مرحلة الكفر الصريح عند بعض المجموعات، وهكذا يجب الاعتراف باننا نساق الى الجمهورية الثانية ونحن افقر ما نكون الى الثقافة القومية والتي انهت آلياتها المتمثلة في الاحزاب الفاعلة والنقايات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وحتى القطاع الاهلي بهذا الواقع الذي لن ينكره أحد ولا يحتاج «لدرس عصر» كي نستوعب خطورته على مستقبلنا بل حتى على استحالة تأسيس جمهورية ثانية عليه ما لم نشمر عن سواعد الجدية والشجاعة لنقوم بعملية اصلاح واسعة وعميقة داخل الاحزاب كي تقوم برسالتها الحقيقية بالمقابل فان المجتمع لا يمكنه ان يظل اسيراً لهكذا أحزاب اذا عجزت عن استيعاب تطوره وحراكه وتفهم قضاياه المتجددة ويمكنه ان يتصدى بآليات جديدة ومبتكرة لمهددات بقائه ولا يمكن ان يساق كل السودانيين الى الهاوية وهم ينظرون.
إننا كشعب نملك تجارباً ثرة وان كانت مُرّة لكنها مفيدة اذ بالمقارنة مع بلاد لعالم الثالث التي حدثت فيها انقلابات منذ الخمسينيات والستينيات الماضية استكانت تلك الشعوب لسلطة الحزب أو الفكر الآحادي لاكثر من ثلاثة عقود بينما نحن في السودان وللمفارقة الفريدة من نوعها نخرج لنؤيد الانقلاب العسكري ونخرج بمحض ارادتنا لنطرد الانقلابيين ونٌقبل على الديمقراطية بقلب مفتوح وذهن واعي ونؤدي الانتخابات بحماس ثم نزدري الفترة الديمقراطية ونعافها متى ما خيبت آمالنا واحبطت طموحاتنا ،إذاً نحن شعب يستطيع ان يقرأ تجاربه الماضية ويقيمها ويستطيع ان يقرر كيف يبدأ الجمهورية الثانية لا يمكن لأحد مهما أوتى من القوة والبلاغة والبراعة في الحيل السياسية أن يخدع حيلاً آخراً من الشعب السوداني فالخمسون عاماً الماضية تجسد الآن كتاباً مفتوحاً يقرأه الناس فقرة فقرة وبتمعن شديد بالاضافة الى تجاربنا الحية الماثلة أمامنا هناك بعد آخر مهم متمثل في هذه الالفية الثالثة التي نعيشها مع العالم حراكاً انسانياً فكرياً يرتكز محوره على قيمة الانسان وكرامته وحقوقه الشيء الذي لا بد ان يكون له اثر كبير في تحديد مسارات المجتمعات الانسانية. كل هذه العوامل التي يعيشها مجتمعنا تجعلنا ننأى بأهمية ربطها باطار قانوني بزواج بين مفهوم الدولة والمواطنة وهذا ما يجب ان يدفع المجتمع السوداني الذي يعيش لحظة تحول حاسمة الى ابتكار أطر فكرية وتنظيمية تجعل عملية التحول تقود الى الاستقرار السياسي في الجمهورية الثانية الأمر الذي افتقرنا اليه في الجمهورية الاولى.
إن الذين يتدثرون بالاسلام لتأسيس الجمهورية الثانية عليهم أن يدركوا أن الاستبداد السياسي وعدم العدالة الاجتماعية وكل الامور الثقافية السياسية التي فسروا بها الاسلام «كوم» آخر نحن الآن نحتاج الى منهج واضح ومستقيم بعيد عن ردة فعل الإحباط والهزيمة النفسية والخصومات والنزاعات الشخصية نحتاج الى منهج وطني نابع من ادراكنا ووعينا الديني والانساني والاخلاقي الذي تشكل عبر آلاف السنين لنؤسس عليه الجمهورية الثانية «في زول اسمو اردوغان في تركيا وآخر اسمو مهاتير محمد في ماليزيا ما سمعتو بيهم كيف استلهموا القيادة من مجتمعاتهم ما لنا نحن».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق