الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

استخراج النفط في السودان .. أسرار الصراع


قرأتُ بكثير من الاهتمام العمل التوثيقي المهم الذي قدمته الاعلامية المعروفة الأستاذة شادية عربي عن النفط في السودان.. والذي جاء تحت عنوان (أسرار إستخراج النفط السوداني).. والذي كتب مقدمته الدكتور عوض أحمد الجاز الوزير الهمام والنشط والمثابر، والذي ارتبط اسمه باستخراج البترول السوداني.. وقدمه إلى المكتبة السودانية البروفيسور علي محمد شمو الخبير الاعلامي المعروف.. وربطه بالتاريخ الدكتور الطيب حاج عطية. ولا شك عندي ان الفرصة التي توفرت للأستاذة شادية عربي من خلال عملها الوظيفي ومتابعتها لمسيرة النفط السوداني منذ بدايات التفاوض ومروراً بلحظات التعاقد مع الشركات والتي كانت من أعقد المراحل.. ومروراً بعمليات الاستكشاف والاستخراج ومن ثم التصدير. وقد كانت فترات التعاقد من أعقد الفترات لأنها مرت بالكثير من المؤامرات.. وعلى المستويات في العالم.
حاولت الحكومة الامريكية الضغط على الصين وماليزيا لاقناعهما بضرورة التخلي عن استخراج النفط في السودان فرفضتا، ولذلك طلبت أمريكا بشكل مباشر من حكومة السودان ايقاف هذه الشركات الصينية والماليزية.. وقد حكت الأستاذة شادية في كتابها قصة الصحفية الأمريكية التي طلبت مقابلة وزير الطاقة الدكتور عوض الجاز، واصرت على ذلك اصراراً شديداً.. وحينما تهيأت لها الفرصة لم تجر أي حوار صحفي بل قالت للوزير بصورة مباشرة (إن هذا البترول من حق أمريكا ولذلك امريكا تطلب منكم ايقاف هذه الشركات واعادة النفط للشركة الامريكية لان البترول ملك لها). وبحسم شديد أجابها الوزير بأن شيفرون قبضت تكاليف عملها في السودان ووقعت على انها خرجت من السودان وان البترول - وبما ان الشركة الامريكية استردت كل أموالها لهذا لم يصبح من حق امريكا أو أية شركة أخرى ان تدعي ان البترول لها وانما هو ملك للبلاد وان السودان ليس بمستعمرة امريكية ولن نسمح بذلك ثم سألها وزير الطاقة سؤالاً مباغتاً لم تكن تتوقعه: هل أنت صحفية أم استخبارات أمريكية؟ وعندما أحست بصرامته قالت انها لن تستطيع اكمال الحوار وطلبت الاجابة على سؤال واحد.. هل جاءكم خطاب من الرئيس الامريكي فأجابها الوزير بالنفي، فأجابت بأن صراحة الوزير تجعلها تقول له: ان امريكا حاولت ان تبعد الصين وماليزيا عن مشروع النفط وان شيفرون عندما خرجت من السودان وقبضت تكاليف استثماراتها كانت متأكدة من عدم مقدرة السودان على استخراج النفط وان شركة ستيت بتروليم لم يكن لها المقدرة المالية والفنية ولذلك لم تعرها أمريكا اهتماماً. لذلك قررت امريكا فرض عقوبات على السودان من طرف واحد.. وفي اليوم التالي صدر خطاب المقاطعة الامريكية.. من الواضح ان شيفرون عندما خرجت كانت واثقة تماماً ان مشروع النفط سيظل ملكاً لها حتى تعود - متى ما عادت - وان لا أحد يستطيع أن ينفذ هذا المشروع غيرها.. لقد كان الامريكان يقدرون ان تأخذ شركة شيفرون الامريكية التعويض وسيظل البترول السوداني في باطن الأرض (هؤلاء الدراويش لا يعرفون شيئاً عن استخراج النفط). اننا نقتطف هذا المقطع من الكتاب المثير الذي صدر الأسبوع قبل الفائت.. لانه بحق كتاب مدهش وغير مسبوق في موضوعه وعلى كثرة اطلاعي على المعلومات الخاص باستخراج النفط السوداني لم اصادف مثله فمعلوماته نابضة بالحياة ومستقاة من مصادرها وهذا الكتاب يمثل اضافة حقيقية وتوثيقا لحقبة ماثلة من التطورات الاقتصادية والسياسية في السودان والنص المقتبس من ثنايا الكتاب يؤكد حقيقة ساطعة وهي أن الغرب وامريكا على وجه الخصوص لم تستهدف السودان إلا حماية لمصالحه وعلى رأسها البترول وان كل الاحداث السياسية من تأجيج للصراع السوداني وتغذية بؤر الحروب والصراعات والنزاعات الداخلية في السودان وعلى حدوده مع دول الجوار الافريقي لم يكن إلا خارطة طريق أمريكية للسيطرة على البترول السوداني وحتى انفصال الجنوب الذي سعت له أمريكا بكافة الوسائل لم يكن ليصب إلا في بحر النفط الذي درسته امريكا جيداً قبل الانقاذ بفترات طويلة وان كل ما قالته امريكا عن الانقاذ من رعايتها للارهاب وعدم تعاونها مع المجتمع الدولي ما هو إلا محاولة منها لازاحة الانقاذ عن المسرح السياسي في السودان لانها نظام قوي ومرتب وقائم على أسس واضحة وغير قابل (للكسر) كما يقول بعض المتابعين للشأن السوداني وان نظام الانقاذ يضم رجالاً أقوياء على سدة جهازه التنفيذي والسياسي مثل الدكتور عوض أحمد الجاز الذي قالت عنه شادية: (عصى كالحجر، صامد كالجبل، ماضٍ بقراراته كحد السيف لا ينسى أو يتناسى اهدافه في غمرة الأحداث له القدرة على التركيز على الاهداف وانجازها، يتميز بحكمة القيادة، يحترم الزمن من منظور انه قيمة اقتصادية عالية، حكمته في الحياة من لم يحب صعود الجبال سيظل أبداً بين الحفر، بالرغم من ذلك فهو رجل متواضع، طيب القلب، عفيف اليد واللسان). ولم تقل فيه إلا الحق والصدق، وكما قال البروفيسور علي شمو الذي كتب احدى مقدمات الكتاب: (لقد أنصفت شادية عربي الأخ د. عوض الجاز ولم يكن حديثها عنه حديث المتملّق المنافق الذي يرجو الاطراء جزاءً، وانما كان حديثاً يحسُ فيه الانسان بالصدق والأمانة والتجرُّد). وهذه شهادة من رجل خبير بأقدار الرجال الذين أعطوا ولم يستبقوا شيئاً تجرداً ووطنية. والكتاب يحتوي فعلاً على (أسرار) لم تنشر من قبل تحملها عناوين الكتاب.. أغرب الحكاوي.. أدق الأسرار.. عالم المفاوضات.. المخاطر والمهالك التي صاحبت المشروع.. كيف دخلت الصين إلى مشروع النفط.. المقاومة الشرسة.. دخول المخابرات.. العقودات.. القسمة والنسب.. كيف خرجت شيفرون؟..
هل هناك شركات دخلت من وراء حكوماتها...؟ ما هي أسرار الاستقالات والمحاسبات..؟ وهي كما ترون عناوين مثيرة (يسيل لها لعاب الفضائيات) والمؤسسات الاعلامية والغريب ان الكتاب يشعرك بأنه (سيناريو) جاهز لأي مخرج سينمائي شاطر وان تحويله إلى فيلم لا يستغرق منه جهداً كبيراً.. ولا نريد ان نفسد عليكم مطالعة الكتاب باستعراض محتواه فحلاوته في قراءته حرفا.. حرفا وسطرا سطرا وهو باختصار يحكي عن قيمة الانسان السوداني عندما تواجهه التحديات، وتحاصره المكايدات وكما قال د. الجاز في كلمته المثبتة في صدر الكتاب: (والرسالة من هذه القصة أرجو وأتمنى أن تكون ذكرى وحافزا لنا ولأبنائنا وأحفادنا في بلادنا الحبيبة والاشارة إلى ان الاوطان تُبنى ببنيها وأن الأمم تصنع بالتحديات. وان نعلم ان طغيان الانسان على أخيه الانسان باق وسيظل، فالاعتماد على الذات من بعد الله سبحانه وتعالى والثقة في النفس هي رسالتنا عبر هذه السطور المتواضعة)... انها ليست أسطراً متواضعة انها محاضرة كاملة في كلمات قليلة.
لكن لابد ان ننتهز هذه الفرصة لنتحدث عن الفائدة التي خرج بها السودان من معجزة تصدير النفط والتي نعتقد بكل صدق وتجرد انه قد استفاد الفائدة الادنى من هذه الهبة الربانية. صحيح ان البترول قد شكل ضمانات للصناديق الدولية لاقراض السودان وقد استفادت البلاد من هذه القروض في بناء صروح شامخة مثل سد مروي وتعلية خزان الرصيرص. لكن تبقى هذه المشروعات عبارة عن ديون في عنق الحكومة يجب عليها تسديدها ولو بعد حين.. فبدلاً عن القروض والديون كان من الممكن استغلال البترول استغلالاً أمثل في تشييد مشروعات البنى التحتية من طرق وجسور وخزانات وصوامع.. وكان من الممكن ان تستخدم أموال البترول في مجال الزراعة لتدعم الاقتصاد الوطني ليقف على قدمين بدلاً عن قدم البترول الواحدة والتي انهارت الآن بعد انفصال الجنوب. لكن الذي حدث هو ان أموال البترول قد استخدمت في استيراد السلع الكمالية التي لم تفعل سوى تبديد ثروة البلاد من عائدات البترول في استيراد سلع استهلاكية لا نفع فيها للسودان الذي يكابد أهله للخروج من دائرة الفقر. كما تلك السلع كانت تشكل عاملا استفز الفقراء الذين لا يستطيعون شراءها.. بجانب استيراد السيارات الفارهة الجديد منها والمستعمل فأصبحت الطرقات أضيق من أن تسع تلك السيارات، في هذا الوقت فشلت معظم المشروعات الزراعية مثل النفرة الزراعية والنهضة الزراعية في ان تصل إلى الأهداف المرجوة منها.. وتوقفت المصانع لعدم وجود التمويل اللازم لاستيراد مدخلات الانتاج وغيرها.
هذا ملمح بسيط ومختصر لعدم الاستفادة الرشيدة من أموال البترول.. وقد استمر ذلك النهج التبديدي لمقدرات البترول وعملاته الصعبة إلى ان جاء أوان الاستفتاء على حق تقرير المصير فتفاجأت البلاد كلها بأن المورد الضخم الذي كانوا ينهلون منه في طريق إلى المغادرة مثلما غادر الجنوب أرضاً وشعباً.. وقد كتبنا في هذا الأمر مراراً وتكراراً لكن حين أعلنت وزارة المالية مجموعة من التدابير التقشفية أدركتُ ان قومي لا يدركون النصح إلا ضحى الغد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق