الجمعة، 12 أغسطس 2011

إصلاح الحزب .. ضرورة (1)

إصلاح الحزب .. ضرورة (1)
مشاركات
لاشك أن بقاء حزب أو سمّه حركة في السلطة لمدة طويلة يلقي بظلاله الكثيفة التي تؤثر على مجمل الأداء والكسب السياسي، وهذا ما تعاني منه الحركة الإسلامية في السودان بطيفها الواسع خلال العقد الأخير، فالسلطة لها حساباتها الخاصة، وبالتأكيد الحكم ليس بنزهة، وهذا ما وعته الحركة الإسلامية من أول شهر حكمت فيه البلاد، فهي أمانة عظيمة لا تكفيها التقوى فقط وإنما معها الاحتراف والمهنية العالية، وهذا ما عولت عليه بعض التنظيمات الأخرى التي أقسمت أن لا تقوى الإنقاذ على الصمود في حقل السياسة الحاكمة إلا قليلًا، خصوصًا وأن في ذلك الحين لم يكن لها حليف خارجي تستمد منه العون السياسي والرعاية، وهذا عادة القاسم المشترك لكل الحركات التي تتسنم الحكم حديثًا في أي مكان، لابد أن تستند لحليف خارجي يشد من أزرها ويهيء لها الأجواء في تعاطيها مع المجتمع الدولي ومؤسساته، وهذا هو التحدي الذي واجه الإنقاذ في بداياتها إبان أزمة الخليج التي في إثرها عُزلت الخرطوم عربيًا وضُيّق عليها لحد كبير، رغم أن الحكومة نجحت في تجنب حالة الاستقطاب الحادة في محاور الدول العربية التي صاحبت تلك الفترة ونظرة الشركاء العرب للسودان حينها باعتباره (مستجد) سياسة دولية ومتلهف لأحضان أي حليف يقدمه للعالم ويساهم في فك أزماته الداخلية الموروثة. فجأة وجدت قيادات الحركة الإسلامية نفسها أمام تحدّي إدارة دولة وهي دولة مُثقلة بالجراح وعبّر عن ذلك البشير بأنها (جنازة بحر) في بداية استلامه السلطة، تحدّي أمني، وآخر اقتصادي، ومعترك سياسي دولي متشابك وموتور. وكان لزامًا على قيادات الحركة فوق كل هذه التحديات العمل من خلف الكواليس، وعبّر عنها الترابي لاحقًا (ذهب البشير للقصر رئيسًا وذهبتُ للسجن حبيسًا)، وفوق هذا وذاك عليها أن تنقل لقياداتها الوسيطة وقواعدها وتعرفها بالحالة والمرحلة الجديدة، فقد مر زمن طويل حتى وعت القواعد معادلة (القصر والسجن)، فلم يكن من المقدور عليهم معرفة العلاقة الحقيقية أهي مسايرة للنظام الجديد في سبيل اتقاء شره ومعرفة توجهاته، أم علاقة تحالف بيّن لها حدودها، أم (ديل ناسنا)، على العموم حالة فقدان التوازن هذه كان لها أثرًا بالغًا في في الهياكل والبرامج وبالتالي عملية الاستقطاب للعضوية الجديدة، ولاحقًا رغم تحفظات العمل التنظيمي بدأت حالة النزف في الكوادر من الهياكل التنظيمية لسد ثغرات الدولة، من ينتقل لهيكل الدولة سيجد نمطًا آخر للعمل وسط مجتمع متداخل المصالح، فالعمل العام فيه من هو معك متعاطف، وفيه من هو معك منافق غاشًا لك وباشًا في وجهك، وفيه من هو عدو سياسي لا متوارٍ ولا مستخفٍ. وقعت هذه الكوادر في لجة بحر الدولة المتلاطم وفُرض عليها أداء مهني منضبط لقيادة الدولة لبر الأمان، لاشك أن العمل داخل تكوينات الهياكل التنظيمية له لون ورائحة وطعم آخر، فأنت تعمل مع عضوية منضبطة لها طاقة روحية عالية وسامية، ملتزمة بالبرامج والتوجيهات وهي واحدة من أدبيات التنظيم الحافل بالقيم. إذن السلطة أخذت من التنظيم من أول يوم مأخذًا عظيمًا. ومع استمرار النزف في اتجاه مرافق الدولة واجه التنظيم حقيقة كيف يُرسي قيمه وشعاراته في هذا المعترك الكبير، فقديمًا قبل السلطة كان ينطبق عليه قول (الفي البر عوّام)، أما وقد قصد البحر لخوضه فعليه أن يُحسن (العوم) ويجنب مشروعه العريض (الشَرَق) والغرق، فلا فرصة للتنفس تحت الماء، ولا تجدي حينها حتى رسالة من تحت الماء. لاشك أن أداء الحركة السياسي كان مميزًا كعهدها مع العمل السياسي، فخطابها العام كانت الجماهير له مهيئة من خلال عملها السابق وسط الأحياء وفي المدارس والجامعات، لكن هذا لم يخفف النزف في اتجاه خدمة وحماية الدولة رغم حالات الاستقطاب الواسع والتعاطف الذي ربحته الحركة في ذلك الحين بعد انقضاء مرحلتها الأولى، فقد زادت حالات النزف لمجابهة التحديات الأمنية في جنوب السودان، فقد احتسبت الحركة أبرك وأميز أبناءها شهداء في تلك الحرب، وهو ما أفادها من ناحية أخرى فقد تبين للمواطن مدى صدق قيادات الدولة والحركة بهذه التضحيات، فلم يُلقَ بالجيش وحده في أتون تلك الحرب المستعرة وحده. ما سميناه (نزفًا) صار بمرور السنين يؤثر على هياكل التنظيم فأغلب الكوادر عميقة الفهم، عالية الهمّة، كثيرة التدريب، خرجت من الهياكل مع هذا النزف، فلم يعد الأداء فيها منضبطًا كما كان، وتحوّل فقه العمل الجماعي الذي بنت به الحركة هياكلها وتمارس به الشورى والتقويم الذاتي، أصبح في الغالب منهكًا و شارد الذهن في انتظار توجيهات القائد على نظرية (تعليمات الجيش). وهذا ما بدا ضرره جليًا في المعترك السياسي في الجامعات، فتراجع الأداء، فأصبح الذي يتبنى فكر الجماعة وتوجهها السياسي، الحصيف المتعمق في عمله داخل الجامعات، أصبح عملة نادرة، لم يعد العمل في الجامعات عملًا ذاتيًا، من الطلاب إلى الطلاب، وإنما الطلاب في غالب الأمر متلقين وملقنين، وهناك من يعمل بالنيابة عنهم من خارج أسوار الجامعة. وهذا على مستوى جميع التنظيمات ومنها من غزاها هذا الوهن منذ زمن مبكر. أبرز حدث وشاهد على تأثير السلطة على أداء الحركة الإسلامية هو انشقاقها، فلم يكن ذلك لشيء سوى السلطة، بغض النظر عن هل الخلاف في كيف نحكم؟ أو من يحكم؟ المهم أن المحصلة هي أثر السلطة على مجمل الخلافات. إذن الحديث حول تحميل السلطة كل هذا الوهن في الأداء الآن ومستقبلًا، هل يعني هذا أن وقوع الحركة في السلطة كان خطأً استراتيجيًا؟ وهذا ببساطة فهم مقلوب وليس صحيحًا، فقبل عقدين لم تكن للحركة الإسلامية تجربة عملية في الحكم، والآن لها خبرات متراكمة في إدارة الدولة وتسيير الشأن العام، وهذا مكسب كبير لم يُحظَ به تنظيم سياسي في السودان، وقيمة كبيرة في المسار السياسي تعطي أفضلية النجاح في المستقبل، بالتالي الحديث ينحصر في إصلاح وترميم ما نتج من عاديات السلطة على الحزب، ودعنا من هنا نصطلح عليه بمسمى الحزب، لأن المرحلة الآن تتطلب العمل كحزب سياسي هدفه إدارة الدولة وفق منهج يحقق مصالح المسلمين فيها، فالحزب لا يبتلع الدولة والدولة لا ينبغي لها أن تبتلعه. فترميم الحزب لابد أن نقر أنه أمر طبيعي وحتمي إن أراد الحزب المكوث طويلًا داخل دائرة الفعل السياسي الإيجابي في السودان حاملًا قيمه التي يستمدها من تعاليم الدين لكل الناس، ولابد بداية أن لا تنزعج القيادة في الحزب من كلمة إصلاح، فهي غالبًا غير مهضومة وكأنها تعبر عن انقلاب في المفاهيم والتقاليد واستبدال للأدوار، وأنا لا أرى غضاضة إن كان انقلابًا أبيضًا من خلال المؤسسات، فذلك نوع من التوارث والمدافعة التي قضت بها حكمة الله في الأرض. ولن يكون الإصلاح ناجحًا ما لم يكن مقبولًا ومحسوسًا بأهميته، وهذا ما نجحت فيه الحركة الإسلامية على مدى عمرها الطويل من لدن حركة الإخوان المسلمين ومرورًا بجبهة الميثاق والجبهة الإسلامية وإلى المؤتمرين الشعبي والوطني أخيرًا، فالسمة الغالبة هي التعامل مع الواقع كما هو واحترام كل معطياته في الساحة مع بقاء الأهداف صامدة، ولا ضير إن وزعت على الزمن وحُفظت في الصدور لأجل ذلك. ولابد أيضًا أن نفهم أن إصلاح الحزب يفضي بالتأكيد لحسن إدارة الدولة، كإصلاح النفس الذي يفضي لصلاح المجتمع. إن أردنا دولة قوية لابد من حزب، بل أحزاب قوية، فليس تكتيك شق الأحزاب المنافسة وإضعافها إلى حد الموت السريري، هو تكتيك بعيد النظر وحكيم، من أراد أن يكون قويًا عليه أن يقبل أن يعيش وسط أقران أقوياء. وهذا ما يُعبر عنه ب(حزب قائد لوطن رائد)، فإذن غاية الإصلاح أن يحسن هذا الحزب قيادة هذا الوطن الرائد.(بقلم: م/عمار الحسين)..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق