الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

قصاصة تنويرية في فشل الدولة الوطنية في بناء الاقتصاد والمجتمع


قصاصة تنويرية في فشل الدولة الوطنية في بناء الاقتصاد والمجتمع
التيار
من تقصيرنا نعرف طريقنا: قصاصة تنويرية في فشل الدولة الوطنية في بناء الاقتصاد والمجتمع د.عبد الباسط سعيد (مستشار اقتصادي متفرغ)، 1-8-2011 (0918076906) "الإنقاذ" كانقلاب عسكري، لم تكن ضرورية، لأنها كانت رمية خارج مجرى التأريخ، حتى وإن جاءت في ظل أزمة حكم كانت تتسنمها حكومة منتخبة ديمقراطيًا. ذلك لأن للديمقراطية آليات رقابية فوق-انقلابية، وذات قدرات جماهيرية لتصحيح مسار الحكم الديمقراطي، مقيمة في بنيتها الشعبية، تفرض على الحاكم الرجوع عن أخطاءه، "والرجوع إلى الحق فضيلة". أما الإنقاذ كنظام حكم، فلم تستوعب مقتضيات دهرها الذي برزت فيه، وعبرت بجدارة عن أزمة بناء الدولة الوطنية في السودان، بل كرستها؛ فضاعفت من خيبات النخب التي ظلت تتسابق إلى محور السلطة منذ الاستقلال. فالإنقاذ أدخلت "حرب الجنوب"، التي ورثتها، في نفق مظلم، فحولتها من نزاع "شمال-جنوب" إلى حرب عمَّت جميع روافد وادي النيل، حتى استحقت بأن توصف بـ، "حرب أعالي النيل في القرن العشرين". و الإنقاذ دفعت المحاربين في الجنوب للمطالبة بحق تقرير المصير. و الإنقاذ جعلت من حرب الجنوب حربًا ذات أبعاد إقليمية، وجعلت لها محاور دولية تتنافس على أرض السودان وموارده، وتشبه في تركيبها المحور الذي أسقط الدولة المهدية في القرن التاسع عشر. ونراها الآن تتجرع الهزيمة، على استحياء. أما مدخل الإنقاذ للتنمية من باب الخصخصة والتحرير الاقتصادي فقد قل نفعه للفقراء بسبب أخطاء التنفيذ. وفشل الخصخصة حمل في طياته فشل "الاستراتيجية القومية الشاملة" (1992-2002) في تحقيق أهدافها الكمية، وإخفاقها عن تحقيق المؤشرات الرقمية التي رسمتها. كذلك فشلت بسبب ما اعتراها من الفساد وهدر موارد الوطن على قلتها؛ وقعد بها التقصير في التخطيط، فغابت عنها عدالة توزيع فرص التنمية. لهذه المجموعة من العوامل المكملة للقهر المنظم للمواطن من قبل الدولة، غابت الرقابة الحميدة، وشحّ رأس المال المستثمر في التنمية البشرية، وضعفت الموازنة العامة، وحل بها عجز مؤشرات الميزان التجاري، وتعاظم الدين الخارجي إلى 38 بليون دولار. ولأن مواقع مشروعات الإنقاذ للتنمية الاقتصادية ضعيفة الإدارة، فقد أصبحت جزرًا منعزلةً، بمزاج انتقائي فج، نراها مبعثرة كأنها "قطرة في بحر" من التخلف والفقر بسبب البطالة والنزوح والتشرد، والجهل والمرض، ونقص القوت وبؤس المأوى، وتدهور البيئة. فوق كل ذلك، حدث تراجع مريع بانفراط الأمن وتأجيج القتال في أصقاع البلاد، شرقها وغربها. فقد أذكت الإنقاذ الانتماءات الضيقة، القبيلية والإثنية والجهوية الفجة، فأوشك أن ينفرط حبل الدولة كلها، خاصة بعد أن نادى بعض قادة الإنقاذ بفصل الجنوب في مساحات الصحف اليومية. ملامح الأزمة التي أشرنا إليها، جعلت العلاقة مشروخة بين الحاكم والمحكوم. أما الحاكم فقد جفت مجاري أفكاره، وتصلبت شرايين دفعه في ابتداع الحلول، فطفق يجأر بالشكوى من كثرة مطالب المحكومين بتحسين المعيشة بالتشغيل والكسب أو تزويدهم بالخدمات الأساسية في التعليم والصحة والمياه المأمونة والقوت والمأوى، حيث هربت الدولة عن مسؤولياتها تجاه المواطن. فشلت خطط التنمية عن تحقيق أهدافها في عهد عبود ومن بعده مايو ثم الإنقاذ. ذلك لأنها انطوت على الشمولية وحكم الفرد، وادعاء احتكار الطهر و الحكمة للنظام، ونفيها عن "الآخر المعارض"؛ ووصمه بكل الصفات النابية، مثل الخيانة للوطن أو إفشاء أسرار القوات المسلحة، أو التخذيل عن المسيرة الوطنية، أو الرجعية أو موالاة الأجنبي، أوالتآمر على المصالح العليا للدولة؛ مما نتج عنه الانتقام من المناوئين السياسيين بإشانة السمعة والتصفيات الجسدية، والإسراف في القتل عند المواجهة. لعل هذا التقييم السريع يصور أحوال الأزمة الداخلية في السودان من حيث مشكلات فشل التنمية والغبن والصراع الاجتماعي والسياسي، التي عمقناها بتكرار تقصيرنا في بناء حلول مستدامة نعترف بها ونحترمها جميعًا. وباتجاه المستقبل في نفس الوقت يجب أن نعزل الآليات السياسية التي كان يستخدمها بعض قادتنا في السودان القديم، والمعاصرون منذ فجر الاستقلال، تعويضا عن شرعية ناقصة، وتغطية للظلم السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً، واحتواءً للصراع الظاهر والمستتر. أما أحوال المحكومين، في علاقتهم المشروخة مع الحاكم، فنلخص صفاتهم في الآتي: مجتمع ممزق بصراعات مريرة على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؛ مجتمع ساد فيه منطق القوة والغلبة على مستوى السيادة، بانقطاع التواصل الطبيعي بين الحاكم والمحكوم، بسبب تجاوز منطق التراضي والتصالح الوطني والتدافع السلمي؛ مجتمع يحل فيه التجافي السياسي محل التآخي والتعاضد، وأصبح القتال والثأر هو السائد؛ قيادة اعتبرت السلطة حقًا لها، ولم تجعل وزنًا للخيارات الديمقراطية لشعبها، ففرضت نفسها بالانقلابات، "أعطونا سلطاننا / شحوا علينا بحقنا"؛ فتجاوزت حدود العدل والحكم بالقسط؛ مما أفقدها ثقة الجماهير، "وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد"، فصارت تتحسب للثورات في كل وقت "فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا". انتفاضات شعبية وبؤر احتراب تشتت جهد القوات المسلحة في الشرق والغرب والأواسط، وأحزاب سياسية كثيرة وضعيفة وصغيرة وفقيرة، متضاربة الأهداف، ولكل منها وجهته "ومع كل إنسان منهم شيعته"؛ فهي لا تعرف العمل المشترك، ولا تجتمع على الحد الأدنى الذي يمكن أن يوحد بينها؛ نفاق يعمّ المنتديات العامة، حيث يظهر كل متحدثٍ للآخر غير ما يبطن؛ فتظهر العلاقة المشروخة بين الحاكم والمحكوم، "فأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد"، في غياب "الحكمة والموعظة الحسنة". من هنا، من قاعدة تراكمات الغبن الاقتصادي والاجتماعي والتمييز المستتر، تجدد انبعاث الإثنيات، ومطالبتها بحقوقها المتساوية في المواطنة، والمطالبة بالقسمة العادلة في السلطات والثروات القومية والتنمية. ولعل ملف القوميات والإثنيات شأن قديم، فتحته تأريخيًا الدولة العثمانية، منذ أعطت حق حماية الأقليات الدينية لدول أجنبية فيما عُرِفَ بنظام "الامتيازات". والدولة السودانية بعد الانفصال، مهددة أكثر من غيرها من الدول العربية أو الإفريقية بخطر "حروب الانتماءات الجهوية"، وقد تؤدي لتفتيت السيادة أو انتزاعها، إذا وقع تحالف محاربي دارفور و"المناطق الثلاث". فقد أضاف الصراع في دارفور بعدًا جديدًا لتعقيدات الحروب الجهوية، بمعنى أن الصراع لم يعد بين الشمال والجنوب ذي الأقليات الدينية، بل أصبحت هناك (2002) مجموعات تدين بالإسلام وهي متعددة الانتماءات القبيلية والإثنية، وقد عقدت عزمها على محاربة الدولة حتى يتحقق لهم العدل الذي يريدون، لكنهم لم يطعنوا البتة في وحدة تراب السودان. فالمحاربون في دارفور مسلمون، ينتمون لدين الأغلبية في البلاد. وقد نشأت بينهم "حركة العدل والمساواة" وغيرها. إذن وجب على الدولة الحذر الشديد؛ لأن انبعاث هذه الانتفاضات الإثنية أو الجهوية قد يؤدي لانفراط عقد الدولة، حيث تنهار التوازنات الاقتصادية والسكانية والثقافية والاجتماعية التي كان يستند إليها المجتمع. أما واجب الدولة فهو التهدئة، وليس القمع بحد السيف، للصراعات الإثنية والقبيلية والدينية التي تهدد سلطتها الوطنية. إن هذا الدور لابد أن يواكبه تغيير في بنى السلطة وتحديث مؤسساتها، وصهر التكوينات الاجتماعية المختلفة ذات المنبت القبيلي أو العشائري أو الطائفي أو الجهوي في بنى اجتماعية جديدة تعلو على كافة التعدديات الصغرى، وتحقيق الانتماء للوطن، والتوزيع العادل جهويًا لفرص التنمية ومنافعها ومكاسبها، وتطوير المشاركة السياسية، وتطوير علاقات المواطنة، وإرساء أسس الديمقراطية الثقافية والسياسية التي تعترف بحق الاختلاف الثقافي وتنمية الحقوق الثقافية واللغوية. بقلم:- عبدالباسط سعيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق