الأحد، 7 أغسطس 2011

لى متى يدور فينا هذا الخطاب ؟

كنا نعتقد أن اقتطاع أرض الجنوب والمشكلات التي تهدد ما تبقى من الوطن المهيض ستكون صدمة تفيق على إثرها العقول من غيبوبتها، لتسأل نفسها ، أين تنكبت الطريق؟ وما هو أس الداء وسبب التراجع القهقرى؟ ، ولماذا في كل يوم نذل ونهان؟، لكن ظهر لي أن استخفاف قيادتنا بالبشر لم يترك سبيلاً إلى التصحيح والتقويم ، أو محاسبة النفس على ما اغترفت في حق الوطن من آثام، كيف لا وطاحونة الخطاب العاطفي العتيق لا زالت تدور فينا بممجوج الخطابة وفطير الكلام، على نحوٍ يفترض في المخاطبين الخفة والسفه والجهل والغباء ، وكاني بالشعب السوداني الأشم قد صار طفلاً أو معتوهاً تناط مصالحه بما يقرره الأوصياء والقيمون.
أقول قولي هذا ، وقد حزَّ في النفس مانقلته قناة النيل الأزرق يوم أول من أمس من خطاب أحد أهل الحظوة أمام جماهير رومي البكري الصبورة، خطاباً دغدغ عاطفتهم الدينية إلى أن أشمأزت، بل أصابها الذهول من هول ما سمعت، فقد فاه منشدهم «ربان الدبلوماسية السودانية» الرجل الموصوف بالرزانة والوقار ، بما تخر منه الجبال هدا، قال الرجل من غير أن يرف له جفن أو يقشعر له بدن، مخاطباً أهله يوم أول أمس: أن السيد رئيس الجمهورية ذهب إلى المدينة المنورة وأنه موجود هنالك الآن ليجدد البيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرحلة الجديدة - أو ما أسماها الجمهورية الثانية - وكانت المناسبة التي فاه فيها بهذا القول الجلل افتتاح مجمع سكني طلابي يحمل اسم أحد الشهداء ممن جادوا بدمائهم من أجل وحدة التراب السوداني الذي لم ينقص من أطرافه،وإنما انمزق ثلثه مودعاً في يوم التاسع من يوليو المشهود، من غير أن تثكله ثواكل أو تزرف الدمع عليه بواكٍ ، وإنما زفته الإنقاذ عروساً بكراً إلى بني صهيون، بلا مهرٍ ولا صداق ، وأظن أننا سمعنا ترحيب القادة الإسرائيليين بهذا الزفاف الميمون، وقد كان هذا الفشل المخيب للآمال بسبب غياب التخطيط الاستراتيجي في السياسة السودانية خاصةً على عهد الإنقاذ التي أدمنت وأفلحت في تدبيج الخطاب العاطفي الذي يستخف بالعقول ،فلن نذل ولن نهان ولن نطيع الأمريكان ، هكذا بشرونا ، إلى أن عشنا ورأينا بأم أعيننا يوم ذلنا وهواننا على أنفسنا وعلى العالمين جميعا..
إن مثل هذا الخطاب العاطفي الفج ، هو الذي أوردنا موارد الذل، وأسقانا كأس الدنيئة صاباً لا يساغ ،ولكننا تجرعناه على مضاضة ، تجرعناه وكلنا نعلم أن الأمر أمر سياسة زمنية تتطلب وضع الخطط والبرامج لتوفير الأمن الغذائي والاجتماعي ودحر الجوع والأمية والتخلف،وهذا ما يقول به الدين وتؤيده الشريعة لا بني علمان (الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف)الآية ،«اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به» رواه مسلم. ، لكن قيادتنا «الرشيدة» هربت من مواجهة هذه التحديات لتبشرنا ببيعةٍ من ورائها بيعة من ورائها مشورة ، مع أنها تعلم علم اليقين أن مشكلاتنا الحقيقية لا تعالج بمثل هذه البشريات التي تلعب على العاطفة وورقة الدين ، وإنما تعالج بدولة العدل والرعاية ، دولة المؤسسات التي مناطها الديمقراطية والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات أولاً ، وشرطها الإنتاج والتنمية المستدامة، فالحديث المجاني مأ أسهله، والخطابة ما أطيبها وما أجملها! لكن محلها الآداب والفنون ، لا السياسة العملية التي ينبغي أن تطعم الناس ، وتوفر دواؤهم وكساؤهم ، وتؤمنهم من الخوف والوجل،فأين نحن الآن في السودان من كل هذه المعاني والتحديات؟.
لينظر من بشرنا بالبيعة عند نبي الرحمة المعصوم صلى الله عليه وسلم - لينظر إلى المسكنة التي حلت بأهل الجزيرة بعد تدمير مشروعهم عماد الاقتصاد السوداني، مشروعهم الذي باض البوم وأفرخ في قناطره ، وذهبت بمحالجه وسككه الحديدية عاديات الزمن، لينظر خطيبنا إلى مرفق السكة الحديد كيف سكتت قاطراته عن الرزيم ، في وقتٍ اتجه فيه كل العالم إلى تطوير هذا المرفق الهام بما في ذلك الدول البترولية من مثل السعودية وغيرها من دول الخليج ، هام لأن أهميته يعرفها المنتجون المخلصون ،لا الحالمون بالاقتصاد الريعي والثراء بالمجان، لينظر محدثنا ومبشرنا إلى حال الصحة والتعليم وكل ما يهم المواطن من أمر معاشه، ولو فعل لما وجد سبيلاً واحداً يقنع به هذا الشعب «المغفل» بعد التفريط في ترابه وتهديد وحدة ما تبقى من بلاده ، في عهدٍ استحال فيه كل أمرنا إلى بوار، فالرسول الأمين المستجار بحماه لأجل البيعة ما بات يوماً وجاره جوعان، وهو الذي وقف عن صلاته بعد أن رفع يديه لتكبيرة الإحرام ، وقال : إن في بيت آل محمد درهمٌ ،وإني أخشى أن ألقى الله وأنا كانز، فلم يصلِ وقته عليه السلام إلا بعدما أنفق ما في يديه من دريهمات ،فيوم أن نغتدي سيرته في كل أمرنا، حق لنا في ذلك اليوم أن نقف أمام قبره الشريف لنبايع رؤساء ومرؤوسين، أما وأمرنا كله أمر دنيا وسياسة زمنية ركبنا فيها مراكب ميكيافيلي وروبسبير وتصارعنا فيها صراع المصالح والأهواء والانتصار للذات ، فإنه لمن البوار والخسران أن نتخذ منه صلى الله عليه وسلم سلماً لتبرير سلوكنا السياسي المجافي لسيرته العطرة، و الله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق