الخميس، 4 أغسطس 2011

الوزير عبد الرسول والتراجع الكبير

الراي 14(الأرشيف)
أنا اعتقد أن اغلبية أفراد الشعب السوداني رجالاًً ونساءً وشيباًً وشباباًً تتمتع بمقادير عالية من الكبرياء وعزة النفس، وهي على استعداد لبذل كل التضحيات الممكنة لانتشال السودان من الفقر والتخلف. ولكن وللأسف الشديد فشلت حكومات السودان المتعاقبة في توظيف هذا الاستعداد في الأخذ بسياسات اقتصادية رشيدة تحشد وتوجه الموارد البشرية والمالية إلى التنمية وبناء سودان غنى وقوى.
وقد يعود ذلك الى أن بعض تلك الحكومات لم يكن معنياًً أصلاًً بالتنمية، أو لأن حكومات أخرى عانت من الضعف وعدم القدرة على ادارة الدولة بفاعلية، أو لأن من كانوا على كراسي الحكم لم يكونوا على استعداد لإعطاء المثال في التضحية، الأمر الذي سلبهم كل الحجج السياسية والأخلاقية لمطالبة افراد الشعب العاديين بها. أو لأن الأنظمة التي حكمت السودان لفترات طويلة كانت معنية بأمر واحد فقط هو البقاء في كرسي الحكم، ولذلك كان تركيزها على استرضاء سكان المدن وخاصة العاصمة. وقد فرحت وربما فرح غيري لسماع عمر البشير يكرر الحديث أخيراً عن التنمية وعن تخفيض الصرف على الهياكل الادارية للدولة، وتوجيه المزيد من الموارد إلى الصرف على خدمات التعليم والصحة وإلى التنمية. ولكن أخشى ألا تدوم فرحتنا طويلاً، لأن هناك ما يشير إلى أن حليمة سوف تعود إلى قديمها.
الوزير عبد الرسول ونذر التراجع
فقد دعا السيد علي محمود عبد الرسول وزير المالية والاقتصاد الوطني السوداني رؤساء تحرير الصحف السودانية في أول فبراير 2011م إلى لقاء تنويري وتفاكري حول الاوضاع الاقتصادية في السودان ولا استطيع أن أحدد تاريخ عقد اللقاء أو مكانه بالضبط وذلك لأن الصحف السودانية تعاني كلها بالتقريب من عيب أساسي هو عدم الدقة في كتابة زمان ومكان وقوع الاحداث، إذ تكتفي مثلاً بالقول «بالأمس» أو «اليوم» او «الشهر الماضي» بدون تحديد دقيق لتاريخ أو مكان وقوع الحدث.
وسوف اتناول بالتعليق في هذا المقال بعض ما جاء في حديث الوزير عبد الرسول اعتماداً على ما جاء في النسخة الالكترونية لكل من جريدة «الصحافة» وجريدة «أخبار اليوم». وسوف اركز على النقاط التالية:
أولاً: القول بأن الوزير عبد الرسول قد نفى بشدة وجود أي اتجاه لزيادة الضرائب أو رفع الدعم عن المحروقات.
وثانياً: قول الوزير عبد الرسول بأن البرنامج الإسعافي يركز على الدعم الاجتماعي للشرائح الضعيفة وذوي الدخول البسيطة.
وثالثاً: قول الوزير عبد الرسول إنهم سوف يعملون على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع صناديق التمويل العربية والصين وتطوير العلاقات مع بقية الدول الصديقة، وعلى رأسها الهند وماليزيا وتركيا.
ويعرف القارئ الكريم أن الشخص المسؤول عن إدارة الدولة في السودان وخاصة إدارة الاقتصاد القومي، هو الرئيس عمر البشير، أما السادة الوزراء مثل السيد عبد الرسول وغيره فهم مجرد مساعدين له. وقد صدرت عن عمر البشير أخيراً بعض الاحاديث التي تشير إلى انه بدأ يستوعب قضايا الاقتصاد السوداني، فقد قال عمر البشير في لقائه بالشباب والطلاب والمرأة في المركز العام لحزب المؤتمر الوطني بتاريخ السابع من فبراير 2011م، قال: «إننا نحتاج من أجل بناء السودان لتسخير كل الامكانات للتنمية وتحقيق الأمن والاستقرار». وأرجو ان يلاحظ القارئ ما قاله البشير عن «بناء السودان» وعن الحاجة إلى تسخير «كل الامكانات» للتنمية وتحقيق الامن والاستقرار. كما قال البشير في نفس اللقاء: «ان ما فرض من زيادات على اسعار الوقود وبعض السلع برفع الدعم عنها، تم من أجل توجيه الدعم بصورة مباشره للفقراء والمساكين وذوي الدخل المحدود ووقف التهريب»، وما قاله البشير قول صائب ويتفق تماماً مع ما طالبت به في مقالي بعنوان «نعم للترشيد ولكن أين هي سياسات الوزير عبد الرسول» الذي نشر بجريدة «الصحافة» بتاريخ الاربعاء الثالث من نوفمبر 2010م، حيث قلت: «وإذا ما كان الوزير عبد الرسول جاداً فعلاً في دعوته إلى ترشيد الاستهلاك فإن عليه أن يزيل التشوهات distortions التي أدخلتها وعملت على إبقائها الحكومات السودانية المتعاقبة، وفي مقدمتها سياسات دعم الرغيف والوقود والكهرباء، لأنها سياسات خاطئة وغير رشيدة تشجع الاستهلاك وتأخذ موارد مالية كبيرة كان يمكن أن تصرف على الاستثمار في بناء الطاقات الانتاجية والصرف على التعليم والصحة، وفوق ذلك سياسات ظالمة، لأن الأغنياء وسكان المدن يستفيدون من تلك السياسات على حساب المزارعين الفقراء الذين يكدحون في الريف ويشكلون اليوم حوالي 80% من سكان السودان». ولكن نجد وللأسف الشديد أن الوزير عبد الرسول ينفي بشدة وجود أي اتجاه لرفع الدعم، وسواء كان هذا هو موقفه الشخصي أم موقف رئيسه عمر البشير، ولكن في كل الاحوال فإنه موقف خاطئ، وينم عن الضعف والاضطراب وتراجع عن السير في الاتجاه السليم. وربما يكون ذلك التراجع بسبب المناخ السياسي العام في البلاد العربية هذه الايام، أو رد فعل للضجة التي أحدثتها أحزاب المعارضة التي طالبت بالتراجع عن سياسات واجراءات رفع الدعم عن بعض السلع، وبدون أن تقترح اية اجراءات بديلة لزيادة ايرادات الدولة او تخفيض المصروفات.
وحديث الوزير عبد الرسول مؤشر خطير جداً، يوضح أن حكومة عمر البشير سوف تسير في نفس الطريق التي سارت عليها هي وكل الحكومات السودانية الفاشلة في السابق، وهو العمل بسياسة استرضاء سكان المدن بالسياسات والإجراءات الخاطئة والظالمة التي ادت إلى ان يكون السودان من اكثر بلدان الدنيا فقراًً وتخلفاًً، بدلاً من أن يكون من أغناها، لأن موارد السودان الطبيعية واستعداد أهله للتضحية ببعض الاستهلاك لبعض الوقت، كفيلان بإحداث نقلة كبيرة جداً في وقت وجيز، لو أن الحكومات ركزت على استقطاع الأموال من الاستهلاك وتوجيهها إلى الاستثمار في بناء المقدرات المادية والبشرية لإنتاج السلع والخدمات، بالصرف على تشييد الطرق، ودعم وتشجيع انتاج ونقل وتوزيع الكهرباء، وتشييد مواعين تخزين المياه، وبناء المدارس والمستشفيات في أقاصي الأرياف السودانية، بدل الحديث عن دعم الشرائح الضعيفة في بلد 95% من سكانه شريحة ضعيفة. ولكن الوزير عبد الرسول لم يقل كلمة واحدة عن توجيه الموارد للاستثمار والتنمية، في الوقت الذي يقول فيه عمر البشير بتسخير كل الامكانات للتنمية. والادهى والأمر هو أن الوزير عبد الرسول يركز على «مد القرعة» إلى الخارج للحصول على التمويل بالحديث عن العلاقات الحسنة مع صناديق التمويل العربية، وعن الصين وغيرها من الجهات التي يتوقع أن يحصلوا منها على قروض، وكأننا لم نتعلم الدرس بعد. فسياسة «مد القرعة» للحصول على المنح grants أو القروض، قد أدت إلى تراكم القروض وفوائدها حتى وصلت اليوم إلى حوالي «36» مليار دولار امريكي، ولم نجن منها غير الفقر والتخلف والتفريط في سيادة السودان واستقلال قراره.
المطلوب الإصرار والحزم والحسم في حشد الموارد من أجل التنمية:
قلت أعلاه إن قناعتي الشخصية هي أن غالبية أفراد الشعب السوداني عزيزة النفس وذات كبرياء، وعلى استعداد لأن تضحي وتأكل «القرض» من أجل بناء السودان وتطويره ليكون في مقدمة الدول الغنية، لأن موارده الطبيعية تؤهله لذلك.
ولهذا أرى أن يسير عمر البشير بإصرار وحزم وحسم في طريق حشد الموارد من أجل التنمية، بزيادة ايرادات الدولة عن طريق الضرائب ورفع جميع اشكال الدعم، لأن الدعم سياسة خاطئة وظالمة، وان يبرهن لأفراد الشعب السوداني أن تضحية أي منهم بالقليل من السكر او البنزين او الرغيف لن تذهب إلى جيوب محاسيب ومناسيب المؤتمر الوطني من وزراء وأمناء أمانات ومن في شاكلتهم. وذلك عن طريق الايقاف الكامل لجميع أشكال تمويل حزب المؤتمر الوطني من الخزينة العامة، وإجراء جراحة عميقة يقوم بمقتضاها بالتخلص من جميع الأجهزة الموازية للوزارات المركزية وإدماجها فيها، وتقليص الوزارات المركزية إلى اثنتي عشرة «12» وزارة فقط، والإلغاء الكامل لمناصب وزراء الدولة والمستشارين، وأن يراجع كل بنود الصرف في الميزانية المركزية للتخلص من جميع أشكال تبديد المال العام، ويستطيع بذلك أولاً أن يضاعف الدعم للولايات لزيادة الصرف على خدمات التعليم والصحة، ويستطيع ثانياً أن يوفر أموالاً لتمويل برنامج قومي للاستثمار يركز على أربعة مجالات أساسية، هي: أولاً تشييد الطرق التي تربط أطراف السودان جنوبه وشماله وشرقه وغربه. وثانياً تشييد مواعين تخزين المياه. وثالثاً دعم وتشجيع القطاع الخاص بالإعفاءات الضريبية والمنح grants للاستثمار في انتاج ونقل وتوزيع الكهرباء لإدخال الكهرباء في كل بيت سوداني، ونقلاً للمدينة إلى الريف. ورابعاًً إصلاح وتقويم التعليم العالي بتحويل اليافطات إلى جامعات حقيقية تقوم بأربع وظائف أساسية هي: «أ» التدريس و«ب» التدريب و«جـ» تقديم الاستشارات و«د» البحث العلمي.
واستطيع أن أراهن على أن عمر البشير سوف يحصل من أفراد الشعب السوداني على تحمل أية تضحية يطلبها منهم، إذا ما قام بحزم وحسم ونزاهة وعدل بإزالة جميع أشكال الدعم وزيادة الضرائب، لحشد الموارد المالية وصرفها على التنمية، وبناء السودان وانتشاله من الفقر والتخلف. ولكنه لا يستطيع أن يطلب من السودانيين التضحية إذا كانت الأموال سوف تذهب إلى جيوب محاسيب ومناسيب المؤتمر الوطني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق