الأحد، 7 أغسطس 2011

مستحقات التوافق الوطني في الجمهورية الثانية

ورد مصطلح «الجمهورية الثانية» لأول مرة على لسان الدكتور جون قرنق صبيحة توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005م قصد به أن سودان ما بعد الاتفاقية سيكون مختلفاً عن ما قبلها. كان الأمر كذلك بالنسبة لجنوب السودان الذي استولت فيه الحركة على كل مواقع السلطة العسكرية والتنفيذية والتشريعية وأصبح الحزب الحاكم في الخرطوم مهمشاً في الجنوب. وتحسن الأمر قليلاً بالنسبة للشمال في مجال حرية التعبير والتنظيم إلا أن هيمنة المؤتمر الوطني على الحياة العامة ظلت باقية كما هي بنفس الشخوص السابقين وبذات التكتيكات الانتهازية وأساليب الرشا أو الكبت للخصوم السياسيين وشق صفوفهم وتماهي الدولة مع الحزب حتى ما عاد يعرف من يتحدث باسم الحزب ومن يتحدث باسم الدولة. وتردد المصطلح مرة ثانية بعد انفصال الجنوب على لسان الأستاذ علي عثمان تلقفته منه وسائل الإعلام الرسمية حتى أصبح شعاراً لها. ولم يتغير شيئ في أرض الواقع لا في منهج الحكم ولا سياساته ولا شخوص القائمين عليه حتى نظن أن عهداً مختلفا أطل، الشئ الوحيد الجديد الذي نراه هو تلك الخريطة القبيحة (المشرتمة) لدولة السودان التي يضعها مذيع التلفزيون خلفية لنشرة الأخبار، ونلحظ بحزن أن تراجعا بدأ يحدث في هامش الحرية المتاح ذهبت ضحيته عدة صحف وعدد من الصحفيين إما إلى بيوتهم أو إلى السجن، وأصبح قادة الحكم أكثر انفعالاً في اتخاذ القرارات المصيرية وأكثر نفاقاً في التمسح بالدين حتى أصبح برنامج «أغاني وأغاني» قضية دينية كبرى!
ونحن نستعمل مصطلح «الجمهورية الثانية» في هذا المقال بقدر كبير من التفاؤل لا تسنده وقائع الحال في الساحة السياسية ولكنه أمل نريد أن نعيش عليه بعد أن وئدت أحلامنا في قيم الإسلام النبيلة عدالة وطهارة وحرية وشورى وذوداً عن البيضة وكرامة للإنسان. نعني بهذا المصطلح دولة جديدة في منهجها وفي سياساتها وفي تعاملها مع المواطنين، وفي رعايتها لحقوق الإنسان وصون كرامته، وفي احداث التحول الديمقراطي المرغوب الذي يؤطر لتداول السلطة سلمياً دون اللجوء إلى حمل السلاح ودون تدخل خارجي في شئون البلاد ودون قادة مطلوبين للعدالة الدولية. وهناك من يسأل: من يفعل ذلك؟ وكيف يفعل ذلك؟ لن نتحدث عن ثورة شعبية تقلب الأمور رأساً على عقب فقد تأتي أو لا تأتي، وإن كانت ليست بعيدة كما يظن أهل الحكم وربما لا تكون قريبة كما تريد قوى المعارضة للسلطة. نتحدث عن الجائز والممكن في ساحة الشد والجذب داخل المعادلة السياسية القائمة، أيضاً بقدر من التفاؤل. الحزب الحاكم لا يستطيع ولا يريد بحكم تاريخه ومنهج قيادته وثقته الزائدة في قوته وخوفه من المجهول أن يغير طريقته في الحكم ولا في الأوضاع المأزومة القائمة في البلاد، بل قد لا يعترف أن هناك أوضاعاً مأزومة! والهدف بالنسبة له أوضح من الشمس وهو الاستمرار في السيطرة على حكم البلاد مهما كان الثمن وبكافة الوسائل المتاحة له (ليس عنده قشة مرة)! إن كان هذا حال الحزب الحاكم فما هي القوة القادرة على التغيير أو التي يمكن أن تجبر الحزب الحاكم على التغيير؟ كل أحزاب المعارضة مجتمعة ليست لديها القدرة التنظيمية والجماهيرية لتغيير الأوضاع، اللهم إلا إذا بلغ الاحتقان بالجماهير الذبى وبدأت تتحرك فستلحق بها حينئذ الأحزاب وتقودها في اتجاه التغيير المطلوب. وهذا احتمال لا يبنى عليه فهو لا يختلف عن الثورة الشعبية التي تقلب الأوضاع.
الاحتمال الأقرب للنجاح وتغيير الأوضاع إلى الأحسن هو تلاحم القوى المنظمة السياسية والمدنية والنقابية حول كيفية معالجة قضايا السودان الراهنة، وهي معلومة للكافة: كيفية صناعة الدستور المقبل ومحتواه، التحول الديمقراطي، تعزيز النظام الفدرالي، معالجة القضايا الآنية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حل القضايا العالقة مع الجنوب، محاربة الغلاء الطاحن، تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، محاربة الفساد واستغلال النفوذ واهدار المال العام، إصلاح القضاء والخدمة المدنية، خدمات التعليم والصحة، النهضة بالزراعة والصناعة. ينبغي أن تبدأ التحرك في هذا الاتجاه أحزاب المعارضة الكبيرة (نسبياً): حزب الأمة القومي، الاتحادي الديمقراطي، الحركة الشعبية قطاع الشمال، المؤتمر الشعبي، الحزب الشيوعي. تستعين هذه الأحزاب بعدد من الخبراء وأهل العلم لوضع تصور عام لمعالجة كل تلك المشاكل وتطرح ذلك التصور للتنظيمات السياسية الأخرى ولمنظمات المجتمع المدني ولعامة المواطنين، وتستمع لما يقترح عليها من الجهات المختلفة وتضمن ما تراه مناسباً في وثيقة المعالجة الوطنية. وتكون تلك الوثيقة بمثابة برنامج تفاوض باسم كل تلك القوى مع الحزب الحاكم حين يدعوها للمشاركة معه في حكومة الجمهورية الثانية. ويرغب الحزب الحاكم بشدة في مشاركة الأحزاب الكبيرة، تحديداً الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، في الحكومة القادمة حتى لا يبوء وحده بوزر انفصال الجنوب وحتى تصمت هذه الأحزاب عن تحميله ذلك الوزر. وبالطبع يريد المؤتمر الوطني أن يكون التفاوض حول محاصصة المقاعد التنفيذية وليس حول برنامج الحكومة حتى يتمكن بأغلبيته الميكانيكية من فرض الحلول التي يراها، وتخطئ الأحزاب خطأ جسيماً إن هي قبلت المشاركة دون الاتفاق على برنامج لمعالجة قضايا البلد الكبرى، ودون أن تفتح المجال للتحول الديمقراطي وتعزيز النظام الفدرالي وإصلاح الخدمة المدنية والقضاء. ولن تبدأ الأحزاب من الصفر في إعداد مثل تلك الوثيقة الجامعة فقد بذلت مجهودات كبيرة داخل الجامعات ومراكز البحوث وفي منظمات المجتمع المدني لمعالجة معظم القضايا المذكورة.
والقضية العاجلة التي ينبغي الاتفاق عليها هي كيفية صناعة الدستور. يبدو أن الحكومة متعجلة لتكوين لجنة «قومية» لكتابة الدستور مثل ما صنعت في دستور 1998، وبعد أن تؤدي اللجنة المهمة المطلوبة منها تدخل تلك المسودة إلى مطبخ الحكومة ثم تخرج في صيغة مختلفة لتجاز بسهولة ويسر دون تعديل كلمة واحدة من قبل برلمان أحمد إبراهيم الطاهر! ينبغي الاصرار على أن البرلمان الحالي لا يمثل السودان تمثيلاً حقيقياً وغير مؤهل لإجازة دستور البلاد المقبل، وينبغي للدستور المقبل أن يكون محل حوار شعبي شامل مهما استغرق ذلك من زمن مثل ما حدث في حالة دستور جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا حتى يكون محل اتفاق واسع بين كافة أقاليم السودان وأهله. ولقد ظهرت أهمية الحوار الشعبي حول الدستور بوضوح في الملتقى التشاوري لصناعة الدستور الذي نظمه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد حضره ثلاث خبراء من جنوب إفريقيا وكينيا ومليزيا قدموا فيه حصيلة تجارب بلادهم الثرة في صناعة الدستور. وأن تشكل لجنة مختصة بإجراء الحوار الشعبي حول الدستور وأن تقدم ما تجمعه من أفكار وأراء، خاصة في القضايا الأساسية، للجنة القومية التي يوكل إليها صياغة الدستور قبل أن يقدم للبرلمان ودون أن يدخل مطبخاً ما في طريقه إلى البرلمان! وقد يعني هذا تأجيل وضع الدستور لمدة سنتين أو نحو ذلك قبل إجراء انتخابات عامة تأتي بجمعية تأسيسية هي التي تتولى إجازة الدستور وعرضه على استفتاء عام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق