الأربعاء، 3 أغسطس 2011

الإنقاذ.. 22 عاماً من قوة العين!


غرباً بإتجاه الشرق-مصطفى عبدالعزيز البطل
غرباً بإتجاه الشرق

مقالات سابقة

الأرشيف


free counters
غرباً بإتجاه الشرق
الإنقاذ.. 22 عاماً من قوة العين!


هناك مؤشرات عدة تُنبئ بأن نظام العُصبة المنقذة يجتاز مرحلةً مفصلية في تاريخه المديد الشديد. فأما كونه مديداً فذلك مما لا ينتطح عليه عنزان. بل يزكيه واقع الحال والمآل. تمددت سنواته، صيفاً وشتاء، فقافلته اليوم تحث خطاها بإذن الحميد المجيد نحو يوبيلها الفضي. وأما كونه شديداً، فهو مما يندُّ بدوره عن الجدل، فقد عُرف النظام عبر مراحله المتجددة وطبعاته المتعددة بمضاء البأس وشدّة الجبروت. ولكنني زعيمٌ في يومي هذا بأنّ من أخصّ الخصائص وأصفى الصفات التي طبعت نظام العصبة المنقذة وميّزتها عن نظيراتها من الأنظمة هي: قوة العين! وفي الحكمة الشعبية السودانية «المفارق عينو قوية». الغريب أن العصبة المنقذة لا تفارق أبداً. فهي مثل «أدروب»، ولوفة، تكره الفراق، فتقيم بين ظهراني شعبها ما أقام عسيبُ.
(2)
الأنظمة المتغلبة التي تبسط سلطانها على أسنة الرماح، وتعزز شوكتها تحت جبروت السلاح، وتتخندق في سُدد الحكم عنوة واقتدارا، عرفت في جماع أمرها، وعلى مدار التاريخ البشري كله، بقوة الشكيمة ووعورة المراس. فهي تتهادى وتتراضى مع كل هديٍّ رضي، يُخلّي بينها وبين غاياتها، ويُميل البصر عن غواياتها. ولكنها لا تني تضرب بيدٍ من حديد، لكأنها شيطانٌ مُريد، حين تدلهم الليالي وتنوب الخطوب. ونظام الإنقاذ هنا يمتح من ذات البئر. بئر الشمولية. فهو متّبع لا مبتدع. هو في مدرسة اليد الحديدية تلميذٌ نجيب، لا شيخٌ مؤسس! ولكن العصبة المنقذة - كما ذكرنا - زادت على غيرها من رصيفاتها وامتازت. فأضافت الى شدة البأس، قوة العين!
والعين تقتل من قوتها وجرأتها، كما تقتل من براءتها ورقتها. قتلت جرير بن عطية التميمي القائل: (إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا/ يصرعن ذا اللبِّ حتى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله إنسانا). غير أنّ عين الإنقاذ، التي ليس في طرفها حورٌ، ظلت تصرع القوى السياسية السودانية المناهضة، خريفاً إثر خريف، وتقتلها على مدى عقدين ونيف، حتى لم يعد بها حراك! وعن «قوة عين» الإنقاذ حدّث ولا حرج!
(3)
لدي شخصياً تجربة مباشرة، كانت هي أولى تجاربي الذاتية مع «قوة عين» الإنقاذ. أصفها وفق مقتضى الحال، فهي أحياناً طريفة، وأحياناً أخرى أقول إنها تجربةٌ غريبة! عند أول مقدمها الى الحكم العام 1989م، محمولةً على ظهور الدبابات، حلفت العصبة المنقذة برأس أبيها أنه لا صلة لها من قريب أو بعيد بحزب الجبهة الإسلامية القومية. بل إنها بخلاف شيخ الحركة الذي أودعته السجن حبيساً، مع غيره من القادة السياسيين، فإنها قامت باعتقال عدد من الرموز القيادية الجبهوية الإسلاموية ووجهت اليها تهماً بالفساد والمحسوبية والرشوة، وشكلت المحاكم العسكرية لتأخذ بناصيتها. كان من بين هؤلاء المغفور له القيادي الجبهوي الإسلاموي البارز الدكتور مجذوب الخليفة.
ألقت العصبة بالرجل في غيابات الجب سجيناً، ثم أوقفته أمام محكمة عسكرية متهماً بالفساد والسرقة، وكان قد شغل قبل الانقلاب بعدة أشهر منصب نائب والي الولاية الشمالية. كانت بعض جلسات المحاكمة تبث على الهواء، إذاعةً وتلفزة، ضمن نشرات الأخبار. بعد أيام وربما أسابيع قليلة من انقلاب العصبة المنقذة، شهدت البلاد أحداث إضراب الأطباء الشهير، الذي انتهى بإصدر حكم الإعدام على رئيس نقابة الاطباء الدكتور مأمون محمد حسين. وهو الحكم الذي جرى تخفيفه واستبداله لاحقاً.
في ذروة تفاعلات إضراب الأطباء المزمع، وجهود العصبة المنقذة اللاهثة والمضنية لمنع الإضراب وتطويق وضبط الحركة المتصلة لكادرات المعارضة النشطة، سعت الحكومة العسكرية الإنقاذوية المتقلبة الى تشكيل كيانات موازية للنقابة الشرعية، وطفقت تطلق عليها أسماء مثل تجمع الأطباء الوطنيين وما شابه. وذلك في مسعىً محموم لإخصاء التحرك المعارض وقهره. وكانت أيضاً تقوم بإصدار بيانات باسم هذه الكيانات تذاع على الأطباء وعلى الملأ اأجمعين، تخذّل عن الإضراب وتحذر من مغبته.
كنت وقتها أعمل بديوان الرئاسة عندما هاتفني أحد الزملاء بأن هناك بياناً يتم إعداده، وقد يُراد مراجعة صياغته ثم الإشراف على اذاعته من محطتي الإذاعة والتلفزة. ذهبت الى الطابق الأول، من مبنى الرئاسة السابق حيث مكتب الوزير. قيل لي إن البيان تجري صياغته في غرفة ملحقة بقاعة اجتماعات مجلس الوزراء. دخلت الى تلك الغرفة.. ويا للعجب. وجدت أمامي الدكتور مجذوب الخليفة، بشحمه ولحمه. كان يرتدي جلباباً قميئاً شديد الاتساخ، هو نفسه رداء السجن. ذات الجلباب الذي يقيم به داخل الزنزانة مخفوراً. رأيته جالساً وحوله أجهزة الاتصالات، يجري المكالمات ويتلقاها، ويدير من مكانه ذاك نظاماً متكامل الحلقات للسيطرة على إضراب الأطباء. وكان قد أكمل صياغة البيان المراد توزيعه، وقد وردت في مقدمته عبارة «بيان من تجمع الأطباء الوطنيين»، أو شيء مثل ذلك!
غادر المرحوم الدكتور مجذوب الخليفة بعدها في سيارة خاصة الى محبسه في حراسة القسم الشمالي في مبني مديرية الخرطوم القديم، ليقضي بقية الليل مستلقياً على أرضية الزنزانة الحجرية، ثم ليشخص في اليوم التالي امام المحكمة التي كانت جلساتها تتواصل يوما بعد يوم لمحاكمته بتهم الفساد والسرقة. هل هناك ثمة داعٍ لأن أقول إن المحكمة العسكرية أصدرت حكمها لاحقاً بتبرئة الراحل من التهم الموجهة اليه؟!
الذي يهمني هنا هو أن الخيط الأبيض كان قد تبين امامي من الخيط الاسود، وذلك بعيد أيام فقط من انقلاب الإنقاذ، في وقت كان فيه كثير من أهل الخرطوم قد التبس عليهم «الساس والراس»، فما انفكوا يضربون الأخماس والأسداس. بيد أنه لم يكن عندي ما أهتف به على شفتي كلما ذكرت ما انطوى عليه قلبي من أسرار سوى (يا لقوة عين الإنقاذ.. الرجل يقف أمام المحكمة العسكرية متهماً بالفساد والرشوة نهاراً أمام كاميرات التلفاز، ثم يجلس في دار الحكم يدير أمور البلاد من وراء الستور ليلاً)؟!
(4)
من نوادر قوة عين الإنقاذ انها ذات يوم من عام 1999م جاءت بشاب صغير اسمه النور جادين، كان يعمل قبل الانقلاب محرراً ثانوياً في صحيفة «صوت الأمة»، التي كانت تنطق بلسان حزب الأمة. أغرت العصبة ذلك الشاب بتسجيل حزب الأمة وفق قانون «التوالي السياسي»، الذي كانت قد أصدرته على عجل، وتسجيل اسمه رئيساً لذلك الحزب عند مسجل الأحزاب. ففعل المسكين وهو لا يدري من أمره شيئاً. وهكذا أصبح المدعو النور جادين بين غمضة عين وانتباهتها رئيساً لحزب الأمة، ذي التراث العريق وذي الأمجاد التاريخية. ولعهدٍ طويل كان الناس يسمعون في نشرات الإذاعة والتلفزيون الحكوميين أخباراً من شاكلة: (استقبل السيد رئيس الجمهورية بمكتبه بالقصر الجمهوري ظهر اليوم السيد النور جادين رئيس حزب الأمة)!
بل إن العصبة المنقذة مضت قدماً فقامت بتجميع بعض المواطنين كيفما اتفق من مواقف البصات في الأقاليم المجاورة للعاصمة، فأطعمتهم وأشربتهم، ثم أتت بهم الى الخرطوم داخل حافلات مستأجرة، حيث جعلت علي رأسهم احد السياسيين المنشقين علي حزب الامة والملتحقين بالانقاذ، هو الاستاذ عبد الله محمد احمد. فأخذوا يهذون، امام كاميرات التلفاز، هذيان المجاذيب، بهتافات لا يفقهون منها شيئاً. كان الإمام الصادق المهدي وأركان حزبه وقادة كيان الأنصار يومها أسرى المعتقلات. وفي المساء أذاعت العُصبة على الناس في نشرات الأخبار المصورة: (جماهير الأنصار تبايع الرئيس عمر البشير). هل رأيت أعزك الله - في طول حياتك الرحيبة بإذن الله وعرضها - قوة عين أكثر من هذا؟! يقولون: الإنقاذ حكمت البلاد بالحديد والنار عقدين من الزمان. وأنا أقول: كلا. بل حكمتها بقوة العين!
(5)
وقد توالت المظاهر المناظرة في نهج العصبة المنقذة بعد ذلك مثنى وثلاث ورباع. ثم تفاحشت حتى أصبحت سلوكاً سياسياً يومياً راتباً، فبات الحياء هو الاستثناء، وأضحت قوة العين هي الأصل. وبتوالي الأزمان وتعاقب الحقب صارت الإنقاذ في جماع أمرها مزيجٌ محض من الجرأة، و»قوة العين»، وأدب «التيرسو» والمدرجات الشعبية، من شاكلة «ألحس كوعك»!
أكثر ما يشغلني ويحيرني في أمر قوة عين العصبة المنقذة في يومنا هذا هو إيمانها العقيدي وتمسكها الحديدي بعدد من التنظيمات السياسية البهلوانية التي صنعتها بأيديها، تماماً كما فعلت مع حزب الأمة بقيادة «الرئيس الإمام النور جادين»، إبان عشرية الإنقاذ الأولى. وقد فلحت الإنقاذ وبرعت بعد ذلك في صناعة الأحزاب والتنظيمات البهلوانية، وبلغت شأواً بعيداً، فبزّت في ذلك المضمار الفنان المصري العالمي عمر الشريف، الذي كان يصنع العرائس بنفسه في فيلم «الأراجوز»، للمخرج هاني لاشين!
والعصبة المنقذة، «أم عيناً قوية»، تعلم علماً نافياً للجهالة، كما يقول أهل القانون، أن هذه التنظيمات البلهوانية الورقية لا تمثل أحدا، ولا تجسد فكراً، ولا تكرس مشروعية. ومع ذلك فإنها ما برحت تستمسك بها، واستملحت أن تحملها على رقاب الناس كل هذه السنوات داخل منظومة الجهاز التنفيذي الاتحادي والولائي، لا لشيء، إلا غاية توفير الغطاء السياسي الشكلاني لدعاويها بأن حكوماتها القائمة إنما هي «حكومات وحدة وطنية»، تجسّدُ وتعبر عن الوان الطيف الوطني السوداني. وتلك بدورها دعاوى بهلوانية باخ سحرها، وانطفأ بريقها، فما تفعل في النفوس أكثر من أنها تذهب بوقار السلطان، وتحيل الواقع السياسي بأسره الى سيرك تراجيكوميدي عبثي، يستعصي على الوصف.
(6)
بين يدي طائفة من الأخبار حملتها الصحف والوكالات قبل أيام قلائل حول خطاب رئيسنا المفدَّى المشير عمر البشير أمام الجلسة الافتتاحية لاجتماعات اللجنة المركزية للحزب الاتحادي الديمقراطي بقاعة الصداقة بالخرطوم. ونحن نعلم، كما يعلم رئيسنا المفدَّى، ان هناك حزباً واحداًَ فقط يعرفه شعب السودان في هذا البلد اسمه الحزب الاتحادي الديمقراطي. وان هذا الحزب لم تجتمع لجنته المركزية، ولم يعقد أية اجتماعات بقاعة الصداقة!
حقيقة الأمر ومنتهاه أن المغفور له الشريف زين العابدين الهندي كان عند انشقاقه وخروجه مغاضباً من التجمع الوطني الديمقراطي ومن حزبه الأصل، في زمن قديم، قد أنشأ جناحاً عرف باسم «الحزب الاتحادي الديمقراطي جناح الشريف الهندي». ولم يكتب الله لذلك الجناح المُغاضب فلاحاً يُذكر، أو نجاحاً يُشار اليه في الحياة السياسية. وإنما كان شأنه شأن غيره من الأجنحة المتفرعة المتناحرة التي ألف الناس أمر خروجها من عباءة حزب الحركة الوطنية العتيد بين الفينة والاخرى، ثم موتها بعد ذلك بسبب ضمور الأعصاب أو السكتة القلبية. الفارق الوحيد بالنسبة لجناح المغفور له الشريف زين العابدين الهندي هو أن العصبة المنقذة نفخت من روحها في الجناح المغاضب المهيض، ومنحته صكاً مشروطاً للحياة عندما قامت باستئجار الحزب مفروشاً، ووظفته لأغراض أجندة تأصيل دعوي «حكومة الوحدة الوطنية»، التي تتماهى داخلها - افتراضاً - غالب الأحزاب والقوى الوطنية السودانية. كل ذلك والعصبة المنقذة تعلم، تمام العلم، انه ليس هناك حزب ولا من يحزنون، وإنما «قردين وحابس». يا لقوة العين!
وعند وفاة الشريف زين العابدين في العام 2002م انقلب ما تبقى من أعضاء الجناح «تجاراً» يضرب بعضهم رقاب بعض. يتلاحون جهاراً نهاراً، ويتصارعون صراع الديكة حول حصة ضئيلة من المناصب الحكومية ظلت العصبة المنقذة تبذلها لتلك الثلة عاماً بعد عام، مقابل حق استخدام اسم الحزب الاتحادي الديمقراطي. خلاصة الأمر باختصار شديد هي أن السيد جلال الدقير، رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، المتوالي في حكومة العصبة المنقذة، يلعب في حقيقة الأمر دوراً يشابه الى حد كبير الدور الذي لعبه فيما مضى «الرئيس الإمام» النور جادين رئيس حزب الأمة في إحدى طبعات الإنقاذ القديمة. ذات الدور الذي يلعبه حالياً بعض السياسيين المتلفحين غصباً برداء حزب الأمة، من أصحاب الشقق والدكاكين السياسية المبذولة للإيجار. والتي يتلقى أصحابها قيمة الإيجار الشهري إما في شكل مناصب سياسية داخل هياكل الجهاز التنفيذي الاتحادية والولائية، وإما في شكل مدفوعات مالية.
وهكذا، ربما من قبيل التأثر بالمثل الشعبي السائر «السياسي على راسو ريشة»، أو المثل الآخر «الفي بطنو حرقص... «، فقد حمل خطاب السيد جلال الدقير أمام لجنته المركزية، كما نقلته عدد من الصحف صباح الأحد الماضي، نصاً جاء فيه: (وإن مشاركتنا كانت عبر مواثيق وعهود. وقد أخذنا المسؤولية بقوة، ولم نكن تمومة جرتق)!! لكأن الرجل بادر - في مظهر نادر من مظاهر قوة العين - فتطوع من تلقاء نفسه، بتقديم وصف دقيق، مستمد من الثقافة المحلية الأصيلة للظاهرة التي يمثلها هو شخصياً: ظاهرة الدكاكين السياسية، أو الشقق الحزبية المفروشة!
(7)
قرأت قبل سنوات حواراً أجرته صحيفة سودانية مع الأستاذ أحمد عقيل أحمد، الذي كان قد أعلن استقالته من حزب السيد مبارك الفاضل المهدي «المتفرع من حزب الأمة الأصل» (ومعلوم للكافة أن حزب السيد مبارك الفاضل كان قد جرى تأسيسه بالتضافر بين الأخير ودهاقنة العصبة المنقذة، عندما تلمظ الرجل للسلطة، التي عرف مفاتنها وداق عسيلتها إبان الديمقراطية الثالثة، ولكن تأبى عليه الإمام الصادق المهدي والقطاع الغالب في حزبه الأصل). سألت الصحيفة السياسي المستقيل، أحمد عقيل، عن مسوغات الاستقالة. فجاء رد الرجل بأنه كان قد أبلغ بواسطة قيادة حزبه أنه سيتم تعيينه في منصب وزير دولة بوزارة المالية ضمن حصة حزب السيد مبارك الفاضل. ولكن عند إعلان تشكيل الحكومة، جاء التشكيل الوزاري خلواً من اسمه. وكان هذا هو سبب استقالته من الحزب! وقد انتابتني يومها حالة من الضحك الهستيري كادت تزهق روحي. لم أكن أعرف أن الولع والدلع في طلب الوزارة من قبل رجال ونساء الأحزاب البهلوانية قد بلغ مثل هذا المبلغ من السفور؟!
وبعدها بوقت قليل، عندما غضبت العصبة على السيد مبارك الفاضل وأقالت عثرته، فعزلته عن منصب مساعد رئيس الجمهورية، وهو منصبٌ كان يشغله اسماً ورمزاً، بغير سلطات حقيقية، طارت في مجالس المدينة شائعات متكاثفة حول أسباب العزل. من ضمن الأقاويل المترددة آنذاك طرقت أذني رواية تقول إن خلافاً دبّ بين مبارك وبين واحد من النافذين، إذ سأله مبارك غاضباً بعد أن التوى القيادي النافذ على صاحبنا في أمر دفعيات مالية ارتقبها فتأخرت: ماذا تفعلون بأموال البترول؟ فرد القيادي الإنقاذوي من فوره: «نشتري بها أمثالك»!!
وكنت قد طرحت تلك الرواية يومذاك جانباً ولم أعرها اهتماماً، إذ إنني عملت ردحاً من الزمان بين دكك السلطة والسلاطين، وعرفت يقيناً أن كثيراً مما يشيع بين الورى عن مدارات الحديث في تلك الدوائر إنما هو من مخترعات الأخيلة وافتراعات المبتدعة. ولكن ذات الرواية عادت بأخرة لتنتقل من مستقرها في الجزء الخلفي من دماغي لتستقر في مقدمته. وذلك بعد أن تناهى اليّ من مصادر متواترة ملأت فضاء الشبكة الدولية قبل حين، ثم تبادر الى مسمعي من شهودٍ عدول، سعيت اليهم مستوثقاً، أن نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم ومساعد رئيس الجمهورية، الدكتور نافع علي نافع، قد ذكر أمام الجمع ممن حضر مجلسه التداولي العامر، مع ثلة من أبناء وبنات الجالية السودانية بمقر السفارة بلندن، قبيل أسابيع قليلة، عبارة شانئة في أمر المعارضة وأحزابها وتنظيماتها، فحواها أن هذه الأحزاب والتنظيمات غير ذات بال، وانه لا يقيم لها وزنا. ثم مضى لا يلوي على شيء فادَّعى، ويا لهول ما ادعى، أن نظام الإنقاذ قد «اشترى» قطاعاً كبيراً منها! هل سمعت أعزك الله؟ يقول: اشترى!
إذن فالإنقاذ «أم عيناً قوية»، لا تشتري السياسيين والأحزاب فقط. بل إنها أيضاً لا تستنكف أن تعالن بذلك في الآفاق، ولا تجد بأساً في أن تجاهر به على الملأ! يا لقوة عين المشترِي بكسر الراء، ويا لرقة عين المشترَى بفتحها. ويا لبؤس الحركة السياسية الوطنية السودانية، وضعفها، وهوان أمرها على الناس!
(8)
ماذا نريد أن نقول؟ ما هو مبتغانا؟ يقول الإصوليون: (إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح). مبتغانا أن نناصح أحبابنا من دهاقين الإنقاذ بغير تأخير، حتى لا نقع تحت طائلة القبح، فنقول لهم: كفى مراءً، وكفى لجاجاً. وكفى عنادا. الفرنجة إذا ضاقوا بأمر من الأمور وبلغت الروح منهم الحلقوم هتفوا: Enough is enough. وبمثل ذلك نهتف نحن اليوم. وقد ضقنا ذرعاً، وأيّم الحق، بهذه الأكشاك الكرتونية التي نصبتها لنا العصبة المنقذة في عقر المشهد السياسي السوداني، ثم وضعت عليها لافتات الأحزاب الكبرى كحزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي!
كانت الغاية في الزمن القديم - كما عرفنا - هي احتطاب السند الشكلي السياسي في ليل الشرعية المدلهم. وقد أدّت هذه الأكشاك غرضها وأوفت بعهدها على أكمل وجه، فكان الظن أن يُعطي أصحاب الأكشاك حقهم قبل - أو بعد - أن يجف عرقهم، ثم يصرفون راشدين، يضربون في الأرض بحثاً عن رزق جديد. ولكن العُصبة المنقذة نسيت في زحمة المشغوليات والمهام الجسام، أن البلاد قد شهدت انتخابات ديمقراطية حرة مباشرة، وأن الشعب - وفق دعواها - قد منح حزب المؤتمر الوطني الحاكم 310 مقعداً في الانتخابات النيابية بنسبة 99%، ونصب رئيسنا المفدى المشير عمر البشير رئيساً للجمهورية بأغلبية تصل الى 77% من أصوات الشعب السوداني. الأمر الذي يعني واقعياً أن همّ الشرعية قد زال، وأنّ هاجس «القاعدة العريضة» قد انزاح!
(9)
ترصد موسوعة غينيس للأرقام القياسية مسرحية «مصيدة الفيران»، عن قصة الأديبة البريطانية الراحلة أجاثا كريستي، بحسبانها المسرحية التي جرى عرضها على المسرح بشكل متواصل لأطول مدى زمني في التاريخ. فقد ظلت المسرحية تُعرض في إحدى مسارح لندن على مدى خمسين عاماً، امتدت من العام 1952م وحتى العام 2002م. إذا كان في نية نظام الإنقاذ أن يدخل المنافسة لإقصاء مسرحية أجاثا كريستي عن موقعها القياسي في موسوعة غينيس، وإحلال مسرحية «الأكشاك الحزبية البهلوانية الإنقاذوية» مكانها، فلا بأس. نحن مع كل عمل يصبو الى رفعة السودان ويستقصد إعلاء شأنه بين الأمم. أما اذا كان الأمر مجرد سهو، فإننا نود أن نذكر أحبابنا في المؤتمر الوطني بأنهم يحوزون على ثقة 99% من ابناء الشعب وبناته. والحال كذلك فإنه لم تعد هناك من حاجة لتجديد تراخيص الاكشاك السياسية القائمة، أو ثمة داعٍ للاستمرار في نهج وممارسات البيع والشراء والمقايضة السياسية. ولم يعد هناك مبرر للتعامل مع المشهد الوطني السوداني كأنه سيرك استعراضي!

د. نافع ولقاء لندن
أبعث بهذا الملحق في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء بتوقيت الخرطوم، في وقت أقدّر أن أوراق الصحيفة ربما تكون قد استقرت بين تروس المطبعة. فإذا كتب الله لهذا التوضيح أن يصلك - أعزك الله - صباح الأربعاء، فذلك من لطف المولى. وإذا كانت الثانية فلا أملك إلا أن أقول: الله غالب.
أشرت ضمن مقالي الأسبوعي المعنون «22 عاماً من قوة العين» الى حديث منسوب للدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية، يتضمن معنى أن نظام الإنقاذ قد قام بـ»شراء» بعض التنظيمات المعارضة. والواقع أن ذلك الحديث كان تم نشره على نطاق واسع في منابر الشبكة الدولية، باعتباره جزءاً من وقائع اللقاء، الذي انعقد في السادس من يوليو الماضي، بين الدكتور نافع وبعض منسوبي الجالية السودانية بلندن. وبناء على تواتر النشر، وعدم صدور نفي، فقد استقر في يقيني أن الحديث صحيح فعلاً. وعندما خطر لي أن أشير الى ما هو منسوب للمسؤول القيادي في متن مقالي الأسبوعي، فإنني قمت بمخاطبة عدد من خاصة أصدقائي بالعاصمة البريطانية بغية المزيد من الاستيثاق التثبت. وقد جاءتني الردود بالفعل موثقة ومثبتة.
غير أنني فوجئت بعد كتابة المقال وإرساله للنشر برسالة من الإعلامي والصحافي السوداني المعروف الأستاذ إمام محمد إمام، يذكر فيها أنه كان من ضمن حضور اللقاء، ويقطع فيها بلغة حازمة جازمة أن تلك العبارة لم ترد على لسان الدكتور نافع علي نافع. وأضاف الأستاذ إمام إنه مثلي قرأ العبارة منسوبة الى الرجل ضمن النثير الغزير الذي طفحت به منابر الشبكة الدولية، ولكنه يقرر بأنها لا تجاوز كونها تزيدات، من إضافات المتكثرين، الذين لا يرقبون قول الله سبحانه وتعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسؤولا).
تأسيساً على ما تقدم فإنني لا أجد ما يناسبني في مقامي هذا سوى أن اقول بأن موقفي من هذا الحال الذي لا يُحسد عليه أحد هو المزيد من التحري والتقصي في بحر هذا الأسبوع. وستلقاني - بإذن الله - صبح الأربعاء القادمة، وقد جئتك بالخبر اليقين المستند الى ثمرة البحث والاستقصاء الأكثر دقة. كما إنني طلبت الى إدارة الصحيفة أن تبعث مندوباً عنها إلى مكتب الدكتور نافع تلتمس تصريحاً وتوضيحاً حول الحديث المنسوب إلى سيادته. ولا أزيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق