على رأي نيتشة ( ليس الشك، وإنما اليقين ، هو الذي يقتل ) ،بمعنى وجوب امتحان الفكرة بالشك فيها، لمعرفة مدى صلاحها قبل التعاطي معها، وقريبٌ من هذا، قول علماء المناهج : (إذا ضَمُر الخيال،فإن إدراك الفكرة لا يكون إلا بعيشها شعوراً)، بمعنى، إذا انكمش خيالنا ولم يبلغ بنا إدراك العلاقات بين الأشياء، فإننا لن نعرف أننا في طريقنا إلى الأزمة إلا إذا داهمتنا الأزمات، وعشناها واقعاً وشعوراً، بدلاً من إدراكها بعين الخيال، شأننا في ذلك شأن الطفل الذي لا يدرك أن الجمرة من طبعها الإحراق، إلا إذا وطأتها منه الأقدام.
للأسف على مثل هذا النهج الطفولي، سارت سياستنا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وبوجه أخص في عهد الإنقاذ، فاليوم كلنا نجأر بالشكوى من الغلاء، ومن شح النقد الأجنبي اللازم لتوفير الضروريات، لكننا قليلاً ما نقف عند السياسات التي أدت إلى ذلك، وللأسف، حين تصدت قيادة الدولة (لأزمة) الغلاء، وقفت بنا عند قشور المشكلة وظواهرها، وطفقت تبحث عن علاج للنتائج والآثار، غاضةً الطرف تماماً عن جذور الأزمة (الغلاء) التي ظللنا نعاني منها منذ أن نبذنا اقتصادياتنا التقليدية قصيا، ثم لم نوجد لها بديلاً ناجحاً يعيننا على الت?امل مع تعرجات الاقتصاد العالمي،وتشابكاته،التي تحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث والدراسة، للتعاطي معه بما يعود علينا بالنفع، ويدفع عنا الجوع والمثقبة.
نعم،لقد كان الخطل أننا يوم أن اخترنا لأنفسنا منهجاً اقتصادياً ، تورطنا بلا وعي منا في داء التقليد والمحاكاة، ولم نبدع حلولاً تلائم واقع مواردنا الطبيعية والبشرية، فتلفتنا يمنةً ويساراً بحثاً عن نموذج نحاكيه، فلم نجد - في ظل العهد الإنقاذي - نموذجاً اقتصادياً نحتذي به إلا نموذج الاقتصاد الريعي ( الخليجي)، المشجع لثقافة الاستهلاك، والنابذ حد المقاطعة لعملية الإنتاج، فهجرنا نتيجةً لذلك صروحاً إنتاجية قائمة (مشروع الجزيرة مثالاً)، ودمرناها بوعي أو بلا وعي، سيراً وراء خرافة البترول، وأدهى من ذلك وأمر ، أن?ا ورطنا أنفسنا في سياسة نقدية اعتمدنا فيها وسائل شكلانية خدعنا أنفسنا بزعمنا أنها إسلامية، وسلمنا لها رسن الإئتمان المصرفي ( الإقراض)، لتنتهي بنا إلى اقتصاديات المضاربة التي بطبيعتها تجافي حقول الإنتاج ، وتوادد حد العشق مضارب استغلالٍ لا يشبع نهمه، ولا يروى ظمأه، حتى لكأني بالماركسية السودانية حنت وصبت من جراء فحشه إلى الرأسمالية التقليدية العطوفة التي كانت تدور مصانع غزلها ونسيجها وزيوتها وصابونها ..إلخ بمواد أولية سودانية ،وبإمكانيات وطنية، فتح من خلالها رجالٌ في قامة السيد فتح الرحمن البشير، والشيخ مص?فى الأمين، وغيرهم من الأفاضل، بيوتاً، ووفروا عن طريقها للشباب وظائفَ، (نساءً ورجالا)، وحافظوا بوسيلة الإنتاج على كتلة النقد الأجني من التآكل، فكانوا بذلك أحنَّ وارفق بالغلابة من دولة الحراسة الإنقاذية، التي ما فتئت تتفرج على أزمة العملية الاقتصادية وعذاب المكتوين بنارها، وكأن الأمر لا يعنيها، شأنها في ذلك شأن (عبد التام) الذي كبر وفترت همته ..إلخ، وفق رواية (سالم ود السما،) لأستاذنا/ الطيب الزبير الطيب أمدَّ الله في أيامه، وكل هذه (الفرجة) تمت بدعوى أن فاعلية قانون العرض والطلب ستفعل فعلها لإنتاج التوازنات?الكفيلة بتدوير العملية الاقتصادية، في بلدٍ يعلم الجميع أنها تنقصها شروط اقتصاديات السوق وتعوزها أدوات انجاح الحرية الاقتصادية ، فكانت النتيجة هذا الغول الذي مصَّ دماء الغلابة والكادحين.
حقاً،إن قيادتنا في بلاد السودان المنكوبة بمتعلميها، قد ضاق خيالها أو أعماها هواها (لا أدري) عن إدراك أن ثمرة اقتصاديات المضاربة والفهلوة الاقتصادية هو الحصرم الذي نتجرعه الآن ولا نكاد نستيغه، وبسبب هذا العمى زادت إمعاناً في تشجيع هذا الضرب من الاقتصاديات غير المنتجة، إلى درجة أن حكومتنا (الرشيدة) ذات نفسها طفقت تنافس القطاع الخاص بطرحها لسندات الخزانة والتصكيك (شهامة وغيرها)، وتفتح سوقاً للأوراق المالية لم نر فيها أوراقاً أو سندات سوى صكوك شركات الخدمات غير المعنية بالإنتاج، فهل يا ترى كانت قيادتنا تأم? أن تحصد من الشوك العنب؟.
نعم لقد شاد بعضنا العمارات الشواهق،وامتلك الشركات والأرصدة، ولكن أين الأمن الغذائي؟، وأين الاستقرار السياسي والاقتصادي؟ ، اللذان هما شرطا التمجد والتنعم بتلك المقتنيات،هذا إذا علمنا ضرورةً أنه في غياب الأمن الغذائي عادةً ما ينبعج صمام الأمن حال كون الجوع الكافر، وينبهل وعاء التماسك الاجتماعي، فطبع الفقر دوماً إذلال الرجال، وتمريغ كرامة ذوي الكرامة، فما بالك بالقوارير المحروسات بعنت الرجال وشقائهم، في مجتمع تقليدي لا يزال يراوح مكانه في سلم التطور الاجتماعي والاقتصادي.
حقاً، إن الإنسان العاقل ليعجب، أن يجأر المسؤولون بالشكوى من معضلة الغلاء،مع أنهم هو الذين صرفوا النظر عن التعاطي مع أس مشكلتنا الاقتصادية ، (أزمة هجر الإنتاج)، المؤدية ضرورةً إلى الضغط على كتل النقد الأجنبي ( إن كانت لدينا كتل)، عبر إستيراد الحليب وصلصة الطماطم، ومن أين؟ للأسف من فلوات الدول العربية وصحاريها، إلى بلادٍ قيل لنا في سالف العصر والأوان: إنها سلة غذاء العالم، والرأي عندي - إذا صدقت النوايا،وحيدت المصالح والأهواء - أن إدراك (الأزمة) لا يحتاج إلى كبير عناء، وعلاجها لا يحتاج إلى مثل هذه الهرجلة ا?تي ظللنا نتابعها في هذه الأيام ، لكنه يكمن في إعادة النظر في السياسة النقدية والتحكم فيها بأدوات تصرفها عن اقتصاديات الفهلوة والمضاربة، وتوجهها إلى الإنتاج، ذلك أن السياسة النقدية المتبعة في بلادنا، ظلت تراكم التضخم يوماً بعد يوم، عبر وسائل الإئتمان (الإقراض)، وأدوات التمويل الشكلانية، المنسوبة مواربةً إلى الشريعة الإسلامية (مضاربة، مرابحة، تورق، تصكيك..إلخ)، والتي في جوهرها، تعمل في اتجاه يسير بعكس اتجاه غايات الشريعة، بما ينتج عنها من حبس المال عن العملية الإنتاجية، وجعله دولةً بين الأغنياء دون الكادحين،?وقد سبق في هذا الصدد أن حذر بعض النابهين من خطورة مثل هذه الوسائل التمويلية على الاقتصاد الكلي للبلاد، ومن أولئك على سبيل المثال المرحوم/ صلاح الدين الصديق المهدي، الذي قاد مع رفاقٍ له حملة لا هوادة فيها - على أيام الديمقراطية الثالثة - ضد ما أسماه (المصرفية الطفيلية)، التي لا تخدم قضية الاقتصاد والإنتاج في شيء، فجوبه بتهم الزندقة والمروق على الدين، مع أن رأيه عليه رحمة الله جاء بصدد مسائل فقهية فرعية لا علاقة لها بأصول الدين، هذا إذا علمنا أن وسائل التمويل الشكلانية الإسلامية هذه، أصبحت الآن محل مراجعة م? كثير من الفقهاء الذين سبق لهم أن نافحوا عنها بدافع الوازع الديني، والآن انضموا (بحق) إلى منتقديها، لما رأوا فيها من عيوب وسلبيات بعد تجريبها عملياً، فقد اتضح للكثيرين منهم أنها رغم استنادها إلى تخريجات بعد فقهاء السلف، إلا أن تطبيقاتها العصرية لم تؤد إلى تحقيق مراد الشارع ، ولم تصلنا بمقاصد الشريعة، ولم تحقق الغاية من تحريم الربا ،الذي يعود عند الفقهاء إلى علل عديدة، من بينها أنه يؤدي عملياً إلى حبس المال عن التداول النافع للإنسانية، ومن ثم يعطل العملية الإنتاجية، فقل لي بالله عليك: ماذا يستفيد الاقتصاد?الكلي من استثمارات مضارب جرت عادة البنوك أن تشترط عليه تصفية صكوكه خلال عام واحد، هل مثل هذا المضارب سيخطر بباله ولو لماماً أن يؤسس بهذا المال مصنعاً، أو يحي به أرضاً مواتاً (زراعة)، لا والله ، وفقاً لظروف الحال والواقع، فإنه لا محالة سيتجه بهذا المال مباشرةً إلى اكتناز عقارات أو احتكار منتجات لم يساهم في إنتاجها ليغلي سعرها على الناس، ويفيد فرق السعرين، وهو بهذا الصنيع في حقيقة الأمر، لم يقدم لمجتمعه لا سلعة ولا خدمة ، لكنه في المقابل تلقى من المجتمع سلعاً وخدمات لم يدفع عنها ثمناً ولا مقابلا ، ولم يبذل?أي جهد سوى مقارفة التمويل بالتضخم ليفيد منه على حساب مجتمعٍ مفجوع بأدوات السخرة والاستغلال.
هذه هي الحقيقة لمن يبحث عنها، وهذا الذي ذكرناه هو سبب تدمير اقتصادنا السوداني،أن تجمع البنوك الودائع من صغار المدخرين وتعيد ضخها في عمليات تضخمية عبر وسائل حرة وطليقة (تورق وتصكيك ومضاربات ومرابحات..الخ) هي بحق سبب الغلاء الذي بتنا نشكو منه جميعاً، لذلك إن أردنا لاقتصادنا فلاحاً أو صلاحاً، فإن العلاج ينبغي أن يلامس جذور المشكلة ، بوضع الأدوات النجيحة التي تمكن البنك المركزي من ضبط البنوك وتوجيه الكتل النقدية التي تتلقاها من المودعين إلى الإنتاج، وتشذيب أدوات التمويل الإسلامي من السلبيات وضبطها بما يجعله? تحقق مقاصد الشرع الحنيف، وكذلك بتشجيع وإحياء البنوك المتخصصة مثل البنوك الصناعية والزراعية..إلخ، إحياءاً حقيقياً بضخ الدم فيها على نحو يحقق التوزيع العادل للمال عبر وسيلة دعم العمل المنتج ، وقبل كل ذلك زيادة الربط الضريبي على القطاعات التي تعمل في مجالات ذات عوائد ناعمة أو سريعة ،وخفضه أو رفعه بالمرة عن الفئات المنتجة (رعاة،وزراع ، وأصحاب مصانع، ومغتربين...إلخ)، وبغير انتهاج مثل هذه السياسات لن يجدي نفعاً استيراد الفراخ لمكافحة غلاء اللحوم ، ولن يفيدنا في شيء الحل التجزئيي ، في ظل الطلب المتزايد على ا?دولار نتيجةً لتجفيف منابع الإنتاج، وكيف لا يتزايد هذا الطلب ونحن الآن نستورد حتى الزيت والمكرونة والحليب؟، وكل ذلك على حساب الكتلة النقدية الضعيفة التي يوفرها أكثر أهل السودان فقراً ومرضاً وجدباً ( الرعاة والمزارعون )، في الوقت الذي ينعم فيه الطفيليون العاطلون عن الانتاج بما لذ وطاب، ولا شك عندي أن هذه المفارقة هي التي أدت إلى توقف الطبقة الكادحة حتى عن انتاج النذر القليل الذي كانت تنتجه عبر طريقتها التقليدية الموروثة من الأسلاف (تربية حيوان/ طق صمغ/زراعة تقليدية ..إلخ)، كيف لا، وقد اكتشف الكادحون البسطاء ?مرور الزمن أنهم يعملون بنظام السخرة في ظل سياسة نقدية لا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، ووبولا تعبا بهم ولا بحقوقهم المهضومة، لذلك فإن مكافحة الغلاء تبدأ بإعادة النظر في هذه السياسة،بإنصاف المنتج،وتحفيز العمل اليدوي الماهر،لا بزيادة إنتاج أدوات الاستغلال، ولا بتوريد الأبقار والطيور، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
للأسف على مثل هذا النهج الطفولي، سارت سياستنا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وبوجه أخص في عهد الإنقاذ، فاليوم كلنا نجأر بالشكوى من الغلاء، ومن شح النقد الأجنبي اللازم لتوفير الضروريات، لكننا قليلاً ما نقف عند السياسات التي أدت إلى ذلك، وللأسف، حين تصدت قيادة الدولة (لأزمة) الغلاء، وقفت بنا عند قشور المشكلة وظواهرها، وطفقت تبحث عن علاج للنتائج والآثار، غاضةً الطرف تماماً عن جذور الأزمة (الغلاء) التي ظللنا نعاني منها منذ أن نبذنا اقتصادياتنا التقليدية قصيا، ثم لم نوجد لها بديلاً ناجحاً يعيننا على الت?امل مع تعرجات الاقتصاد العالمي،وتشابكاته،التي تحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث والدراسة، للتعاطي معه بما يعود علينا بالنفع، ويدفع عنا الجوع والمثقبة.
نعم،لقد كان الخطل أننا يوم أن اخترنا لأنفسنا منهجاً اقتصادياً ، تورطنا بلا وعي منا في داء التقليد والمحاكاة، ولم نبدع حلولاً تلائم واقع مواردنا الطبيعية والبشرية، فتلفتنا يمنةً ويساراً بحثاً عن نموذج نحاكيه، فلم نجد - في ظل العهد الإنقاذي - نموذجاً اقتصادياً نحتذي به إلا نموذج الاقتصاد الريعي ( الخليجي)، المشجع لثقافة الاستهلاك، والنابذ حد المقاطعة لعملية الإنتاج، فهجرنا نتيجةً لذلك صروحاً إنتاجية قائمة (مشروع الجزيرة مثالاً)، ودمرناها بوعي أو بلا وعي، سيراً وراء خرافة البترول، وأدهى من ذلك وأمر ، أن?ا ورطنا أنفسنا في سياسة نقدية اعتمدنا فيها وسائل شكلانية خدعنا أنفسنا بزعمنا أنها إسلامية، وسلمنا لها رسن الإئتمان المصرفي ( الإقراض)، لتنتهي بنا إلى اقتصاديات المضاربة التي بطبيعتها تجافي حقول الإنتاج ، وتوادد حد العشق مضارب استغلالٍ لا يشبع نهمه، ولا يروى ظمأه، حتى لكأني بالماركسية السودانية حنت وصبت من جراء فحشه إلى الرأسمالية التقليدية العطوفة التي كانت تدور مصانع غزلها ونسيجها وزيوتها وصابونها ..إلخ بمواد أولية سودانية ،وبإمكانيات وطنية، فتح من خلالها رجالٌ في قامة السيد فتح الرحمن البشير، والشيخ مص?فى الأمين، وغيرهم من الأفاضل، بيوتاً، ووفروا عن طريقها للشباب وظائفَ، (نساءً ورجالا)، وحافظوا بوسيلة الإنتاج على كتلة النقد الأجني من التآكل، فكانوا بذلك أحنَّ وارفق بالغلابة من دولة الحراسة الإنقاذية، التي ما فتئت تتفرج على أزمة العملية الاقتصادية وعذاب المكتوين بنارها، وكأن الأمر لا يعنيها، شأنها في ذلك شأن (عبد التام) الذي كبر وفترت همته ..إلخ، وفق رواية (سالم ود السما،) لأستاذنا/ الطيب الزبير الطيب أمدَّ الله في أيامه، وكل هذه (الفرجة) تمت بدعوى أن فاعلية قانون العرض والطلب ستفعل فعلها لإنتاج التوازنات?الكفيلة بتدوير العملية الاقتصادية، في بلدٍ يعلم الجميع أنها تنقصها شروط اقتصاديات السوق وتعوزها أدوات انجاح الحرية الاقتصادية ، فكانت النتيجة هذا الغول الذي مصَّ دماء الغلابة والكادحين.
حقاً،إن قيادتنا في بلاد السودان المنكوبة بمتعلميها، قد ضاق خيالها أو أعماها هواها (لا أدري) عن إدراك أن ثمرة اقتصاديات المضاربة والفهلوة الاقتصادية هو الحصرم الذي نتجرعه الآن ولا نكاد نستيغه، وبسبب هذا العمى زادت إمعاناً في تشجيع هذا الضرب من الاقتصاديات غير المنتجة، إلى درجة أن حكومتنا (الرشيدة) ذات نفسها طفقت تنافس القطاع الخاص بطرحها لسندات الخزانة والتصكيك (شهامة وغيرها)، وتفتح سوقاً للأوراق المالية لم نر فيها أوراقاً أو سندات سوى صكوك شركات الخدمات غير المعنية بالإنتاج، فهل يا ترى كانت قيادتنا تأم? أن تحصد من الشوك العنب؟.
نعم لقد شاد بعضنا العمارات الشواهق،وامتلك الشركات والأرصدة، ولكن أين الأمن الغذائي؟، وأين الاستقرار السياسي والاقتصادي؟ ، اللذان هما شرطا التمجد والتنعم بتلك المقتنيات،هذا إذا علمنا ضرورةً أنه في غياب الأمن الغذائي عادةً ما ينبعج صمام الأمن حال كون الجوع الكافر، وينبهل وعاء التماسك الاجتماعي، فطبع الفقر دوماً إذلال الرجال، وتمريغ كرامة ذوي الكرامة، فما بالك بالقوارير المحروسات بعنت الرجال وشقائهم، في مجتمع تقليدي لا يزال يراوح مكانه في سلم التطور الاجتماعي والاقتصادي.
حقاً، إن الإنسان العاقل ليعجب، أن يجأر المسؤولون بالشكوى من معضلة الغلاء،مع أنهم هو الذين صرفوا النظر عن التعاطي مع أس مشكلتنا الاقتصادية ، (أزمة هجر الإنتاج)، المؤدية ضرورةً إلى الضغط على كتل النقد الأجنبي ( إن كانت لدينا كتل)، عبر إستيراد الحليب وصلصة الطماطم، ومن أين؟ للأسف من فلوات الدول العربية وصحاريها، إلى بلادٍ قيل لنا في سالف العصر والأوان: إنها سلة غذاء العالم، والرأي عندي - إذا صدقت النوايا،وحيدت المصالح والأهواء - أن إدراك (الأزمة) لا يحتاج إلى كبير عناء، وعلاجها لا يحتاج إلى مثل هذه الهرجلة ا?تي ظللنا نتابعها في هذه الأيام ، لكنه يكمن في إعادة النظر في السياسة النقدية والتحكم فيها بأدوات تصرفها عن اقتصاديات الفهلوة والمضاربة، وتوجهها إلى الإنتاج، ذلك أن السياسة النقدية المتبعة في بلادنا، ظلت تراكم التضخم يوماً بعد يوم، عبر وسائل الإئتمان (الإقراض)، وأدوات التمويل الشكلانية، المنسوبة مواربةً إلى الشريعة الإسلامية (مضاربة، مرابحة، تورق، تصكيك..إلخ)، والتي في جوهرها، تعمل في اتجاه يسير بعكس اتجاه غايات الشريعة، بما ينتج عنها من حبس المال عن العملية الإنتاجية، وجعله دولةً بين الأغنياء دون الكادحين،?وقد سبق في هذا الصدد أن حذر بعض النابهين من خطورة مثل هذه الوسائل التمويلية على الاقتصاد الكلي للبلاد، ومن أولئك على سبيل المثال المرحوم/ صلاح الدين الصديق المهدي، الذي قاد مع رفاقٍ له حملة لا هوادة فيها - على أيام الديمقراطية الثالثة - ضد ما أسماه (المصرفية الطفيلية)، التي لا تخدم قضية الاقتصاد والإنتاج في شيء، فجوبه بتهم الزندقة والمروق على الدين، مع أن رأيه عليه رحمة الله جاء بصدد مسائل فقهية فرعية لا علاقة لها بأصول الدين، هذا إذا علمنا أن وسائل التمويل الشكلانية الإسلامية هذه، أصبحت الآن محل مراجعة م? كثير من الفقهاء الذين سبق لهم أن نافحوا عنها بدافع الوازع الديني، والآن انضموا (بحق) إلى منتقديها، لما رأوا فيها من عيوب وسلبيات بعد تجريبها عملياً، فقد اتضح للكثيرين منهم أنها رغم استنادها إلى تخريجات بعد فقهاء السلف، إلا أن تطبيقاتها العصرية لم تؤد إلى تحقيق مراد الشارع ، ولم تصلنا بمقاصد الشريعة، ولم تحقق الغاية من تحريم الربا ،الذي يعود عند الفقهاء إلى علل عديدة، من بينها أنه يؤدي عملياً إلى حبس المال عن التداول النافع للإنسانية، ومن ثم يعطل العملية الإنتاجية، فقل لي بالله عليك: ماذا يستفيد الاقتصاد?الكلي من استثمارات مضارب جرت عادة البنوك أن تشترط عليه تصفية صكوكه خلال عام واحد، هل مثل هذا المضارب سيخطر بباله ولو لماماً أن يؤسس بهذا المال مصنعاً، أو يحي به أرضاً مواتاً (زراعة)، لا والله ، وفقاً لظروف الحال والواقع، فإنه لا محالة سيتجه بهذا المال مباشرةً إلى اكتناز عقارات أو احتكار منتجات لم يساهم في إنتاجها ليغلي سعرها على الناس، ويفيد فرق السعرين، وهو بهذا الصنيع في حقيقة الأمر، لم يقدم لمجتمعه لا سلعة ولا خدمة ، لكنه في المقابل تلقى من المجتمع سلعاً وخدمات لم يدفع عنها ثمناً ولا مقابلا ، ولم يبذل?أي جهد سوى مقارفة التمويل بالتضخم ليفيد منه على حساب مجتمعٍ مفجوع بأدوات السخرة والاستغلال.
هذه هي الحقيقة لمن يبحث عنها، وهذا الذي ذكرناه هو سبب تدمير اقتصادنا السوداني،أن تجمع البنوك الودائع من صغار المدخرين وتعيد ضخها في عمليات تضخمية عبر وسائل حرة وطليقة (تورق وتصكيك ومضاربات ومرابحات..الخ) هي بحق سبب الغلاء الذي بتنا نشكو منه جميعاً، لذلك إن أردنا لاقتصادنا فلاحاً أو صلاحاً، فإن العلاج ينبغي أن يلامس جذور المشكلة ، بوضع الأدوات النجيحة التي تمكن البنك المركزي من ضبط البنوك وتوجيه الكتل النقدية التي تتلقاها من المودعين إلى الإنتاج، وتشذيب أدوات التمويل الإسلامي من السلبيات وضبطها بما يجعله? تحقق مقاصد الشرع الحنيف، وكذلك بتشجيع وإحياء البنوك المتخصصة مثل البنوك الصناعية والزراعية..إلخ، إحياءاً حقيقياً بضخ الدم فيها على نحو يحقق التوزيع العادل للمال عبر وسيلة دعم العمل المنتج ، وقبل كل ذلك زيادة الربط الضريبي على القطاعات التي تعمل في مجالات ذات عوائد ناعمة أو سريعة ،وخفضه أو رفعه بالمرة عن الفئات المنتجة (رعاة،وزراع ، وأصحاب مصانع، ومغتربين...إلخ)، وبغير انتهاج مثل هذه السياسات لن يجدي نفعاً استيراد الفراخ لمكافحة غلاء اللحوم ، ولن يفيدنا في شيء الحل التجزئيي ، في ظل الطلب المتزايد على ا?دولار نتيجةً لتجفيف منابع الإنتاج، وكيف لا يتزايد هذا الطلب ونحن الآن نستورد حتى الزيت والمكرونة والحليب؟، وكل ذلك على حساب الكتلة النقدية الضعيفة التي يوفرها أكثر أهل السودان فقراً ومرضاً وجدباً ( الرعاة والمزارعون )، في الوقت الذي ينعم فيه الطفيليون العاطلون عن الانتاج بما لذ وطاب، ولا شك عندي أن هذه المفارقة هي التي أدت إلى توقف الطبقة الكادحة حتى عن انتاج النذر القليل الذي كانت تنتجه عبر طريقتها التقليدية الموروثة من الأسلاف (تربية حيوان/ طق صمغ/زراعة تقليدية ..إلخ)، كيف لا، وقد اكتشف الكادحون البسطاء ?مرور الزمن أنهم يعملون بنظام السخرة في ظل سياسة نقدية لا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، ووبولا تعبا بهم ولا بحقوقهم المهضومة، لذلك فإن مكافحة الغلاء تبدأ بإعادة النظر في هذه السياسة،بإنصاف المنتج،وتحفيز العمل اليدوي الماهر،لا بزيادة إنتاج أدوات الاستغلال، ولا بتوريد الأبقار والطيور، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق