تناولنا في المقالات الثلاث السابقة من هذه السلسلة الخماسية مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية "وهو المصطلح الذي أصبح شعار الحركات الإسلامية في أعقاب الربيع العربي" وتبناه المؤتمر الوطني في مؤتمراته التنشيطية في أكتوبر الماضي. وقد ذكرتُ أن عدم تحديد سمات هذه الدولة في ظل المصاعب والتناقضات الفكرية التي تعاني منها هذه الحركات يهدد بإفراغ المفهوم من محمولاته الإيجابية. ومن ثمّ شرعنا في تعريف الدولة المدنية بوصفها الدولة التي تضمن الحقوق المتساوية للفئات الوطنية الثابتة: كالنساء، والجماعات الدينية والمذهبية، والمجموعات العرقية والثقافية. وأوضحنا أن هذه الدولة تتأسس على ثلاثة أركان هي: سيادة الشعب لا الحاكمية؛ لأن الحاكمية هي سيادة مجموعة محدودة، وحقوق المواطنة لا العقيدة؛ لأن تأسيس الحقوق على العقيدة يميز ضد النساء وأصحاب العقائد الأخرى؛ وأن مرجعية هذه الدولة هي المجتمع المسلم الحرّ لا أجهزة الدولة؛ لأن هذه تمارس الإكراه في الدين الذي يتناقض مع طبيعة الإيمان. وسيكون وضح من ما جاء في المقالات السابقة ومن طبيعة هذه الأركان الثلاثة للدولة المدنية أنها لا تتفق مع (أحكام دار الإسلام)، التي ينادي بها مشروع الدستور المقترح، الذي وردت الإشارة إليه فيما سبق، ولا مع الفهم السلفي للإسلام الذي يريد إحياء الشكل ذاته لحياة السلف، ولا مع المذهب التشريعي القائم على استنساخ تشريعات المجتمع الإسلامي الأول (وأنا مدين بمصطلح "التشريع الاستنساخي" للدكتور الطيب زين العابدين). فهذه جميعاً تُعيد لحزمة من القوانين مثل: الجزية وقوانين الأحوال الشخصية تميز ضد الفئات التي تهدف الدولة المدنية لحماية حقوقها المتساوية. غير أن ذات الأركان تتطابق تماماً مع مقاصد وغايات الشريعة الإسلامية، والتي هي الأصل في الإسلام. فكما ورد في القرآن الكريم في أماكن عديدة تتنزل الشرائع السماوية "كتاباً وحكمة" أحكام ومقاصد لهذه الأحكام، وسائل موصلة لغايات؛ لأن الحكمة هي "إصابة الحق بالعلم والعقل"، كما يقول الراغب الأصفهاني في معجم مفردات ألفاظ القرآن. فالمقاصد والغايات هي الآيات المحكمات أم الكتاب. بينما الأحكام هي الآيات المتشابهات، وسائل ظرفية نحو هذه المقاصد والغايات، محكومة بالشروط التاريخية لمجتمعها، لا يؤدي الإصرار عليها بعد انقضاء أجلها إلا إلى الفتنة كما أكد القرآن الكريم، وبرهن عليها واقعنا الأليم في السودان. فقيم الكرامة والعدالة والحرية التي تعبر عنها أركان الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هي ذاتها أسمى ما قدّم القرآن الكريم للبشرية في القرن السابع، عندما أمر بالعدل، وكرّم بني آدم‘، وقضى لهم بالحق في حرية الاختيار، وحرّم الإكراه في الدين والرأي.. هي ذاتها قد أصبحت حقوقاً للإنسان تقررها المواثيق الدولية وتتبارى الدساتير في النص عليها. إنها بضاعتنا رُدت إلينا فيا عجبي من الذين يتنكرون لها منا! غير أن تأكيد قرابة الدرجة الأولى بين الدولة المدنية وومقاصد الإسلام وغاياته ليست إلا نصف المهمة، إذ يتبقى نصف آخر هو جمعهما في بيت واحد؛ لأن الدولة المدنية تحقق ذاتها عبر مؤسسات ترعى الحقوق المتساوية، وتؤمِّن الحريات، وتسهر على إقامة العدل، ولكنها لا تفعل ذلك من تلقاء نفسها بصورة آليةبحيث يكفي النصّ عليه في دستور البلاد وحسب. إذ تتطلب الكفاءة التشغيلية والاستدامة لهذه المؤسسات ما يُعرف بالمواطنة الفاعلة: أي حرص المواطنين على حقوقهم المتساوية وعلى الحرية والعدالة، والتوافق عليها ومشاركتهم الفعالة في تحقيقها والحفاظ عليها، وإيجاد الأحوال المجتمعية الملائمة لها، والتخلص من المعيقات الفكرية والمادية التي تقف في طريقها. ولا سبيل لذلك في تقديري، وكما ذكرتُ مراراً إلا بالإصلاح الديني، فهو السبيل الوحيد لجمع الناس مع قيم دينهم الكلية مرة أخرى بعد أن غرّبتهم السلفية عنها قرون عدداً، ورفع الحرج عمن يحسبون أن هذه القيم لا تتفق مع معتقداتهم، وترسيخ قناعات المواطنين بأن مؤسسات ومبادئ الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هي ذات مقاصد وغايات الإسلام للمجتمعات البشرية. دون هذا الإصلاح الديني سيكون هناك تناقض أساسي بين الدولة المدنية والإسلام سينتهي إما إلى دولة مدنية سلطوية تستخدم العنف والقوة لفرض مدنية ستكون منقوصة، كما كان الحال مع تركيا الكمالية، وإما إلى دولة دينية تستخدم القوة والعنف لسلب الناس حقوقهم المدنية، وتسوق الناس إلى إجماع زائف كما هو حالنا في السودان. وقد شهدنا كيف أن تأخر الإصلاح الديني عن ثورات الربيع العربي قاد إلى المأزق الخطير الذي تعاني منه الثورة المصرية اليوم، والذي أفرز فيما أفرز المبادئ فوق الدستورية التي احتوتها وثيقة علي السلمي نائب رئيس الوزراء في وزارة عصام شرف المستقيلة، والتي أدت محاولة إقرارها إلى الثورة المصرية الثانية ضد العسكريين. إذ إن هذه المبادئ فوق الدستورية ليست شيئاً سوى إقرارٌ للحقوق المتساوية للفئات الثابتة من نساء وأقباط في مواجهة كتلة الأغلبية الانتخابية المسلمة، وهي حقوق تقع مهمة إقرارها وحمايتها على المجتمع والقوى السياسية في المجتمعات الحديثة. إلا أن جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية المصرية و لأنها لم تُخضع منطلقاتها الفكرية بعد للمراجعات الأساسية التي نسميها هنا الإصلاح الديني، لم تتصالح مع فكرة المبادئ التي تقيد ممارسة سلطات الحكومة بما يحفظ ويتوافق مع الحقوق الأساسية لهذه الفئات الثابتة وللمواطنين عامة، وأعطت بذلك الفرصة للجيش ليعلن تصديه لحماية هذه الحقوق ويمرر معها جملة من المبادئ التي ترسخ لإفلاته من الخضوع لسلطة المدنيين، إحدى مبادئ الدولة المدنية. واليوم وبعد سقوط الوثيقة (والتي مثلت في جانبها الحقوقي مخرجاً إسعافياً لحين تبنيها مجتمعيا)، وبعد فوز الإخوان المسلمين وجماعة النور فلا زال المأزق قائماً. لأن الحقوق التي تضمنتها الوثيقة ليست قابلة للتفاوض من قبل المطالبين بها، ولا يبدو بعد أن الأغلبية الانتخابية مستعدة لإقرارها، الأمر الذي وضح بقوة من رفض الإخوان المنزعج لنصيحة أردوغان للمصريين بتبني الدولة المدنية في زيارته لمصر في سبتمبر الماضي؛ مما يرشح مصر للمزيد من عدم الاستقرار والاحتقان الطائفي. وهو ما تمكنت حركة النهضة في تونس من تجاوزه بتوقيعها على وثيقة مبادئ فوق دستورية باسم "طريقنا إلى الديمقراطية" منذ 2010، كما سبقت الإشارة ولم يطال شيء منه تركيا؛ لأن حزب العدالة والتنمية تبنّى مجمل المبادئ العلمانية الأتاتوركية الأساسية. ولكن في كلتا الحالتين تنتظر الحركات الإسلامية هناك مهمة "تأصيل" هذه المبادئ بالإصلاح الديني وتحويلها إلى تيّار اجتماعي عريض لضمان استدامتها. إذ لا تتعدى المرجعية الإسلامية للدولتين في ظل هذه الأحزاب حتى الآن حقيقة أن معظم قادة وعضوية هذين الحزبين هم من الإسلاميين. وقد سبقت الإشارة أيضاً إلى أن حياد الدولة المدنية تجاه الأديان لا يعني انقطاع تأثير الدين على سياسات الدولة والحكومات التي تتولى إدارة الدولة، إذ يستحيل منع الناس من الاستهداء بقيم دينهم في رؤاهم وبرامجهم السياسية. غير أن أسلوب هذا التأثير هو أسلوب مدني أيضاً بما يُعرف بـ"المنطق المدني" وليس دينياً. ويعود تطوير وتقديم هذا المفهوم إلى العالم السوداني د. عبد الله أحمد النعيم وإلى كتابه الذائع حول "الإسلام وعلمانية الدولة". إذ يُعرّف د. النعيم المنطق المدني على أنه ضرورة أن تكون مشروعات القوانين ومقترحات السياسات مستندة على ذلك النوع من المنطق الذي يمكن لعامة المواطنين أن يقبلوه أو لا يقبلوه عبر الحوار العام، الذي لا ينتهك حقاً لأحد، ودون نسبته لهذا المعتقد الديني أو ذاك (ص 144). وفي تقديري فإن المنطق المدني هو الامتداد لـ"الحجة البالغة" في القرآن الكريم. إذ أفحمت هذه الحجة القرآنية الناس الذين نزل عليهم القرآن بمنطقهم المعروف لديهم، وبالحجج التي يعقلونها ويدركونها، وبمستوى المعارف والعلوم التي حازوا عليها. الذي يميز الحجة البالغة عن المنطق المدني هو أن الحجة البالغة هي منطق خالص بسبب مصدرها الإلهي لا يشوبها ما قد يشوب المنطق المدني من أهواء البشر وأوهامهم، ومن خطأ في التقدير أو انحياز للمصالح. لذا فإن التعامل مع النصوص المقدسة بدءاً من التنزل الأول هو جهد بشري خاضع لهذا المنطق المدني؛ ولأنه جهد بشري فلا يمكن أن ينعقد عليه إجماع، بل إن هناك من الدارسين من يرى أن الإجماع دليل على تخلف المجتمع. فالتعددية الفكرية هي التي تنمي الفكر وتغذيه، وتنمي المجتمعات وتطورها. ويتبع ذلك أن حرية التنظيم وحرية الفكر والنشر والتعبير ليست حريات إسلامية أصيلة فحسب، وإنما هي ضرورة دينية وجزء لا يتجزأ من النظام السياسي في الإسلام. وهذه السمات الأخيرة هي التي تُكسب الدولة المدنية لازمة الديمقراطية كما يكسبها الإصلاح الديني صفة الحداثة. كذلك لا يمنع حياد الدولةَ المدنية دعمها المتساوي للأديان وتدريس المناهج الدينية التي تنمي الحوار وقيم العيش المشترك. هنا أيضاً تكمن مهمة لا يمكن إنجازها إلا بإصلاح ديني يفتح الإسلام على غاياته، ويقدم من ثمّ أدوات منهجية تسمح بتنقيح المنهج المدرسي لاستبعاد كل إشارة تحوي انتهاكاً لحق من حقوق المواطنة. وهو أمر غير ممكن بالصيغة السلفية السائدة للإسلام؛ ولهذا السبب لم تتمكن الجالية الإسلامية الكبيرة في ألمانيا من الاستفادة من حقها في تدريس الإسلام لأبناء وبنات المسلمين في المدارس الحكومية الألمانية حتى اليوم؛ لأنها لم تتمكن من وضع منهج ديني يراعي مسؤولية الدولة في حماية الحقوق المتساوية لجميع مواطنيها (Neue Gesellshaft FH, 4,2011)؛ ولأن كل واحدة الطوائف الإسلامية المختلفة أرادت أن يكون لها التأثير الأكبر على المنهج! ولكن مالنا نذهب بعيداً إلى ألمانيا، فقد كنت أراجع مع ابنتي التي تدرس في السنة الأولى بمرحلة الأساس منهج الفقه الإسلامي استعداداً لامتحانات الفترة في سبتمبر من هذا العام. وكان المنهج يشمل شرحاً لبعض كلمات سورة الفاتحة، ولكن الذي أعد المنهج اختار بدلاً من "الذين علموا الحق ثمّ تركوه" لشرح معنى "المغضوب عليهم"، أو"الذين أضاعوا العلم" لشرح كلمة "الضالين"، كما هو موجود في التفاسير، اختار بدلاً عن ذلك: "اليهود" للمغضوب عليهم، و"النصارى" للضالين. تذكرتُ الكرام الأفاضل من الإخوة والأخوات النصارى الذين يدعوننا إلى بيوتهم ويزوروننا في بيوتنا حاملين الهدايا لأطفالنا، ومنهم هذه التي تجلس أمامي. فقررت أن أتجاهل هذا الجزء من المادة حتى لا أسمم على ابنتي حياتها وتصوراتها عن الناس وهي التي ستعيش في زمان غير زماننا. وخطرت بذهني كلمات الشيخ محمد عبده الذي قال إنه درس في الأزهر أربع سنوات ولكنه قضي عشرة أخرى لينظف ما علق به من أوساخ في السنوات الأربع. ولكن كان لوالدتها – د. ناهد محمد الحسن وهي مهتمة بالإضافة إلى كتاباتها الصحفية، ونشاطاتها النقابية بالقضايا التربوية، وقد صدر لها حديثاً بالتعاون مع معهد حقوق الطفل ووزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم "دليل البدائل التربوية للعقوبة الجسدية" كان لها رأي آخر. فقد كانت ترى أنه لا يمكن تحميل البنت مسؤولية نظام تعليمي كامل، كما أن تخلفها في درجات الامتحانات نتيجة لتجاهل أجزاء من المنهج قد يؤثر على معنوياتها، وأن الأفضل هو أن نقوم نحن بتعديل مثل هذه المعلومات بأحاديث في المنزل. من المؤكد أنه لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية بينما تهدد المدرسة أهم مؤسسات المواطنة أسس التعايش المشترك بين الناس. فالمرجعية الإسلامية للدولة المدنية مرتبطة بغايات ومقاصد الإسلام وليس بأحكامه. وفي المقال الأخير نتناول الشرط الثاني للدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية. نواصل.. (بقلم: شمس الدين الأمين ضو البيت ).. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق