الجمعة، 8 أبريل 2011

حيرة المؤتمر الوطني بين حتمية التغيير الذاتي والخوف من تبعاته


لا اعتقد أن قيادات المؤتمر الوطني على جهل بأن الثورات التي اجتاحت الدول العربية من أقصاها إلى أدناها، فأطاحت بحكومات بعضها، ولا زال الجهد مستمرا لتلحق بها الأخريات، سوف لن تطالها، خاصة وهى تعلم علم اليقين، ان كل الأسباب التي قادت إلى ثورة الشعوب العربية تلك، تتوفر بالسودان وبأكثر مما توفرت بغالبيتها. وكل الاختلاف ان حكومة المؤتمر الوطني أفلحت في تقييد أرجل شعبها، حتى لا يتمكن من الخروج إلى الشارع العام، كما وأفلحت في تكميم أفواهه حتى لا يسمعها رأيه فيها. وبموجب تلك القيود ونتائجها، رسمت حكومة المؤتمر الوطني صورة لشعب يتمسك بحكومته، ويقف معها وخلفها، وهو ما يخالف الحقيقة ويجافى الواقع تماما. وهنا أيضا لا أشك في أن قيادات المؤتمر الوطني تؤمن بأن الشعب السوداني لم يخرج عليها رغبة منه، ولكن بسبب القيود التي قيدته بها، والتي متى تحلل منها فلن يحول دون خروجه وتحقيق أهدافه حائل. وقد أقرَّ أحد مسؤولي مستشارية الحوار، التي هي إحدى محاولات المؤتمر الوطني في اتجاه الانحناءة لعاصفة التغيير، بأن المؤتمر الوطني ليس بمأمن من ذلك التغيير، وأضاف بأن «العاقل من اتعظ بغيره» ومن بعد طالبه بتقديم تنازلات حقيقية، وإحداث تغيير جذري في السياسات العامة للحزب، لإنجاح فرص الحوار الاستراتيجي الذى تديره تلك المستشارية، والذي ستصبح مخرجاته جاهزة بحلول التاسع من يوليو، لتصبح خريطة طريق للدولة الجديدة بعد انفصال الجنوب. فهل يتعظ الحزب الحاكم بغيره؟
مشكلة حكومة المؤتمر الوطني إنها متنازعة بين الإقبال على التغيير الذى سيكلفها فعل الكثير مما لا تهوى، وبين الأمل في حدوث معجزة تخمد تلك الثورات قبل التاسع من يوليو نهاية حوارها مع الآخرين، ومن ثم تكفيها شر التنازل ولو بالقليل من سلطتها. وهكذا ظللنا نستمع إلى الكثير من الوعود في اتجاه التغيير قولا، دون ان نشاهدها فعلا حتى الآن، إن لم نشاهد العكس تماماً، إذ لا زالت بعض تصرفات النظام الحاكم تؤكد على إصراره على السير في ذات طريقه القديم، الذى يقود إلى تثبيت أقدامه على ارض سلطته، بل والسعي لجعلها خالصة له ولمنسوبيه، اليوم ومستقبلا. وليس أدل على ذلك من الإعلان عن تكوين كتيبة استراتيجية للمؤتمر الوطني بولاية الخرطوم، وهى التي كثر الجدال حولها وحول مهامها، بعد التصريحات التي أدلى بها د. مندور المهدي بإمكانية استخدامها لسحق المعارضة، إن فكرت في الاقتراب من سلطة حكومته. حيث صرح صاحب فكرة إنشائها، بأنها ستعيد المواطنين للعهد الأول من الإسلاميين، من ناحية الحفظ والتلاوة والصيام والقيام، وغير ذلك، ورغم جهلنا بالعهد الأول للإسلاميين الذى ستعيد هذه الكتيبة المواطنين إليه، إلا ان الهدف من إنشائها تجلى في القول بأنها «نواة للكادر المثالي الذى يتم إعداده لسودان المستقبل». يعنى المؤتمر الوطني لم يكتف بحكم الحاضر منفردا بسلطته، لكنه يعمل على إعداد كوادره الشابة، لترث الحكم مستقبلا. الغريب ان أحزاب المعارضة قد تقدمت بشكوى لمجلس الأحزاب حول ذات الكتيبة، باعتبارها إحدى المليشيات العسكرية الممنوع امتلاكها بواسطة الأحزاب السياسية، ومن ثم طالبت بأن يوقف المجلس نشاطات المؤتمر الوطني استنادا على ذلك الاتهام. وقد أجاب د. نافع على طلب المعارضة ذاك، بأنه من حقها ان تطالب بما طالبت به، ولكنه أردف «وعليها ان تنتظر الإجابة». ولعل المعارضة فهمت المقصود من ذلك الانتظار الذى قطعا سيطول، فمجلس الأحزاب هو من صنع ذات المؤتمر الوطني، الذى تنتظر ان ينصرها عليه حتى ان كانت محقة في ما ذهبت إليه. كما ونسأل أحزاب المعارضة عن الفرق بين هذه الكتيبة الاستراتيجية وغيرها من الكيانات الأخرى التي تعج بهم الساحة السياسية، من دفاع شعبي ولجان شعبية ودبابين، ثم لجان مجتمعية هي أيضا حديثة التكوين، لأجل التمكين، وجميعها من صنع المؤتمر الوطني ومن أجل حمايته، فيصبح المطلوب، بدلا من شكوى المؤتمر الوطني لنفسه، التي هي مجلس الأحزاب، لماذا لا تعمل أحزاب المعارضة على الرد عليه بذات أسلوبه، بحيث تعمل على تكوين كتائبها الخاصة بها لأجل حمايتها من كتائب المؤتمر الوطني، الذى لن يستطيع حينها، ان يقف في طريقها أو يمنعها مما أباح لنفسه، فهل ستفعل؟
والمؤتمر الوطني يحاول ان يسد بعض الثغرات في أسلوب حكمه، ولكن بصورة تكلفه شيئا خاصة الانتقاص من سلطته.. فقد كثر الحديث عن حكومته التي انفردت بالجهازين التنفيذي والتشريعي، ومن ثم جردت الجهاز التشريعي من أي وجود لقوى معارضة بداخله، والتي هي الدليل الأول على ديمقراطية الحكم والتبادل السلمي لسلطته. فلمعالجة ذلك الخلل خرجت علينا مجموعة من شبابه يقول بأنها بصدد تكوين معارضة داخل البرلمان من بينها، لم ندر حتى الآن كيف سيصبح للحزب الحاكم معارضة من بين عضويته، التي خاضت الانتخابات وفق برامجه، وكسبت مقاعدها بمساندته؟ ثم كيف لهذه المجموعة المعارضة حتى ان صدقت في مسعاها، ان تؤثر في حق النقض الممنوح لحزبها، متى رأت الوقوف ضد أي من قراراته؟ ثم إن كانت تلك المجموعة ستعارض حكومتها فعلا، فلماذا لا تنسلخ عنها نهائيا، بدلا من هذه اللعبة المكشوفة؟
ثم كثر الحديث عن الفساد أخيرا، فرأت الحكومة ان تغلق هذا الباب أيضا، ولكن بعد ان أصبحت للفساد مناهج ومدارس وتخصصات، من العسير إغلاق أبوابها بمثل ما نرى ونسمع من جعجعة بلا طحن. فالحكومة ركبت موجة النقد الجماهيري المتصاعد عن الفساد بإعلاناتها المتكررة عن محاربة الفساد والمفسدين، ولم تنس ان تمتد حربها لتشمل المحسوبية أيضا. وكالعادة في إرسال الوعود ومن بعد إهمالها، فقد وعدت الحكومة بأنها بصدد تكوين مفوضية لمحاربة الفساد، كنا نتوقع الإسراع بتكوينها نسبة لأن الفساد مثله مثل أمراض السرطان، ان لم يتم اكتشافه مبكرا فلا سبيل إلى اجتثاثه لاحقا. ولكن لم تخرج تلك المفوضية المنوط بها شن تلك الحرب للوجود حتى الآن. كما وان بعض المسؤولين لا زال بين الشك واليقين حول وجود فساد بمؤسسات الدولة، بدليل مطالبتهم الجمهور بأن يمدهم أو يدلهم على مواقع الفساد والفاسدين، رغم أن اكتشاف الفساد لن يكون عسيرا عليهم ان نظر أي منهم حوله، وقرر ان يستجلى بعض الحقائق عن بعض الظواهر التي لم يعرفها السودان من قبل، ولم يألفها السودانيون أيضا، مثل الأبراج التي شهقت تناطح السحاب، وبغالبية طرقات ولاية الخرطوم، وتساءلوا، من أين أتى مالكوها بكل تلك الأموال لتشييدها؟، لتكشف لهم الكثير المثير الخطر عن بعض ملاكها. وقلنا من قبل، ان هنالك بعض من أثرياء اليوم، كانوا بالأمس من بين موظفي الدولة العاديين، ولكنهم استطاعوا بين عشية وضحاها ان يصبحوا من بين أصحاب الثراء العريض جدا، ففي معرفة الكيفية التي تحقق لهم بها كل ذلك الثراء، ما سيدل المسؤولين عن نوع آخر من أنواع الفساد الذى اتبعه هؤلاء الأثرياء الجدد، الذين تمكنوا من تحقيق ثرائهم على حساب إفقار الشعب وإفلاس خزينته.
أما تقارير المراجع العام التي يتم تعويمها في كل عام، من اجل ستر فساد الأقربين، فهي لا تحتاج إلى دليل اضافى لمواقع الفساد وحجمه بل وحماته مرتكبيه، الم يقل المراجع العام بأنه قد أشار إلى بعض الفاسدين وحدد مواقعهم بولاية الخرطوم، ولكن السلطات المعنية غضت الطرف عنهم، فظلوا في فسادهم يعمهون؟ ثم آخر صيحة في الفساد الذى كشفه ما أعلنته السلطة عن عزمها التخلص من كل الشركات الحكومية، التي اعترف بعضهم بأن عددها لا يعلمه إلا الله، وكانت البداية الإعلان عن تصفية «23» شركة، قيل إن الغرض من ذلك هو استكمال خروج الحكومة من النشاط الاقتصادي المباشر. فالحكومة التي سارعت بالتخلص من عدد من مؤسسات القطاع العام، في بداية عهدها، ومنها ما كان رابحا، فباعتها بأبخس الأثمان، استجابة لسياستها الاقتصادية الجديدة التي لم تثمر نفعا، كانت في ذات الوقت تنشئ شركاتها الخاصة، التي يحق للمواطن الآن ان يتعرف على كيفية نشأتها، ومصادر تمويلها، ومن يقف على رأسها، وأين تذهب عائداتها، ودون أن يسدل الستار عليها بقرار تصفيتها، حتى ان تم تطبيقه كاملا وشاملا؟ ويبدو ان هذه الشركات هي التي عناها المراجع العام بعدم الالتزام بالخضوع لمراجعته السنوية،التي كانت ستكشف الغطاء عن أنواع من الفساد ما انزل الله مثله، وبالطبع فإن لمثل تلك الشركات السرية كل الحماية والحصانة من الحكومة التي أنشأتها. حتى تستمر في خدمة أهدافها من خلف ظهر المواطن ولولا الظروف العالمية الضاغطة في اتجاه التغيير، لاستمرت تلك الشركات، القائمة منها والوهمية في ذات حالها ما دامت حكومة الإنقاذ قائمة.
أما المحسوبية، التي برزت الدعوة لمحاربتها أخيرا، تعتبر من أكثر العوامل التي أدت إلى خراب الخدمة المدنية وتدميرها، ومن بعد قادت إلى تزايد أنواع الفساد وحجمه. فالذي يجلس على مقعد ليس من حقه، ولكنه أتاه محمولا على أكتاف غيره من المسؤولين الكبار، قطعا لن يأبه بالعبث بمسؤولياته الإدارية أو المالية استنادا على الظهر الذى مكن له من الموقع الذى يحتله، إلا من رحم ربى طبعا. فإن كانت الحكومة جادة حقا في محاربة المحسوبية، فلا أظنها ستحقق نصرا في حربها تلك، ما لم تقرر بداية إبعاد كل الذين أتت بهم لقيادة الخدمة المدنية من كوادرها، ليحتلوا مواقع من قذفت بهم إلى الشارع العام، خاصة أصحاب الكفاءة والخبرة. وبالطبع قد لا يكون ذلك ممكنا الآن، وبعد مضى أكثر من عقدين من الزمان على ارتكاب تلك الجريمة، فتصبح الجدية في الحرب على المحسوبية أن تسارع الحكومة بالعمل على إنصاف كل الذين تعرضوا لذلك الظلم البائن بدلا من هذه الوعود المكررة والممجوجة التي لم يشرع في تنفيذها حتى اليوم.
ثم هنالك نوع خاص من المحسوبية تتمثل في منح المقربين كل الفرص التي تضاعف من دخولهم، وغالبيتها في غير حاجة لمزيد. فالتعيين بمجالس الإدارات بمختلف المؤسسات، خاصة تلك ذات العطاء المجزئ، حيث أصبحت عضوية تلك المجالس حصرية لصالح المقربين، وقد لا يكتف احدهم بعضوية مجلس واحد، بل مثنى وثلاث ورباع، في حين يحرم من ذلك الامتياز هم أحق منهم به كفاءة وحاجة أيضا. فإن كانت الحرب على المحسوبية جادة، فلتبدأ بمراجعة عضوية منسوبي الحزب الحاكم بمختلف مجالس إدارات المؤسسات المختلفة، وإعادة توزيع تلك العضوية بناءً على معيار الكفاءة والخبرة وبعيدا جدا عن معيار الولاء للحزب أو العشيرة وغيرها، حتى نطمئن على جدية الحرب على المحسوبية وإمكانية الانتصار فيها.
وهنالك الرشوة، كإحدى مظاهر الفساد التي أصبحت ضريبة ملازمة لكل أمر يريد المواطن قضاءه بأى من مؤسسات الدولة. والرشوة قد تزايدت وتيرتها بسبب تدهور الخدمة المدنية، بجانب تدهور مرتبات العاملين، التي لا علاج لها إلا بإعادة النظر في الحد الأدنى لرواتبهم. إلا ان هنالك الرشوة التي ينفرد بها الكبار، والتي ترتفع قيمتها بارتفاع درجة قابضها. وبصرف النظر عن العطاءات والتلاعب بها، فهنالك نوع جديد من الرشاوى تفرضها مجموعة، واصلة، وبنسبة معينة، على كل من يريد ان يصل إلى حق من حقوقه المالية وبأي من مؤسسات الدولة، التي أصبح من العسير تحقيق ذلك بأى منها، دون إتباع تلك الطرق الشائكة. فالمبالغ التي يقدمها صاحب الحق بعد الحصول على حقه، يتم تقاسمها بين المجموعة الواصلة وبعض المسؤولين بالمؤسسة المعنية الذين يسروا مهمة الوصول إلى المبالغ المطلوبة. وما خفي أعظم.
المهم، ان الأمر لا زال بيد حكومة المؤتمر الوطني حتى الآن، إن أحسنت إدارته وبالسرعة والجدية اللازمة، ربما كفاها شر المطالبة برحيلها. وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق