رأي |
نلمس بوضوح نهج محاولات الإصلاح الجارية حاليا على قدم وساق في مختلف مناحي الحياة السودانية، مع رياح الثورات التي تعصف بالمنطقة، وربما بدا أي حديث عن الإصلاح، في معزل عن حالة الفوران الثوري حولنا، بعيدا عن الواقع.
وينصب الاهتمام الحكومي حاليا على جملة من المعالجات لمشكلات مزمنة مدفوعا في ذلك بتأثيرات المد الثوري الذي يجتاح المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، وبإفرازات حالة الفوران ومطالبها واستحقاقاتها، مع جهد مضن لاستباق ما يحدث، أو ما قد يحدث من تطبيقات للنماذج التونسية والمصرية، ولربما حتى الليبية، على ضوء حقيقة انتشار السلاح والتململ في انحاء البلاد.
ومن محاولات المعالجة بالجملة، برنامج لتشغيل وتدريب مئات الآلاف من الخريجين، باستثمارات تبلغ حوالي «200» مليون جنيه، دون أن يتبين على وجه التحديد الجهات التي ستستوعبهم، ويتم تدريب بعضهم لاطلاق مشروعات خاصة بهم على أسس تجارية، وإن بدا أن الزراعة تستأثر بالنصيب الأوفر منهم، وذلك على الرغم من الوضع المزري للزراعة نفسها، وسط محاولات لا تنقطع لرفعها من كبواتها المتلاحقة.. وقد عكست تظاهرة لعاطلين عن العمل في رجل الفولة بجنوب كردفان في الأسبوع الأول من أبريل الجاري، أن الحملة بشأن معالجة أوضاع الخريجين العاطلين عن العمل لم تمتد إليها..
وهناك حملة لتدريب حوالي «38» ألفا من موظفي الخدمة المدنية التي تأذت كثيراً منذ عقود، وتفاقمت أوضاعها في السنوات الأخيرة بسبب مشكلات تقديم الولاء على الكفاءة، ومن ثم فقدان الآلاف وظائفهم، حيث تفيد معلومات أن عشرة آلاف شخص فقدوا وظائفهم منذ بداية عهد الإنقاذ، بسبب عدم موالاتهم للنظام، دون اعتبار لما يتمتع به بعضهم من خبرات نادرة ومستويات رفيعة من الأداء المهني، ويعرف الذين تولوا تنفيذ تفاصيل حملات التمكين والصالح العام، أن زملاءً لهم، لهم باع طويل في الخدمة المدنية، ولكنهم مع ذلك راحوا ضحية تلك المجازر الوظيفية البشعة.
وهذه مشكلة جوهرية في كامل الشأن السوداني، لكن النتائج الفادحة لها تظهر بشكل واضح على الخدمة المدنية، حيث تعين على الكثيرين من المفصولين من نوابغ الخدمة، وكانوا في قمة عطائهم الوظيفي، الانخراط في أعمال لا تتناسب مع مؤهلاتهم واستعدادتهم، ولا مع إمكانياتهم المعرفية والوظيفية، ومن ثم فقد رضوا بالقليل، وفضلوا مجاهدة الظروف الصعبة. وقد هزت حملات الفصل من الخدمة ثوابت وقناعات المجتمع، وأثرت في تطلعات الأبناء وطموحاتهم، بعد أن أدركوا أن التميز في الأداء وحده لا يكفي لسد الرمق في سودان اليوم.
ولأن الخدمة المدنية هي العمود الفقري لكامل إدارة شؤون العباد والبلاد، فإن المهمة التي تنتظر الذين يحاولون إعادتها للعمل بصورة فاعلة جد عظيمة ومكلفة وتحتاج إلى جهد غير عادي، وإلى إرادة سياسية واعية تستوعب متطلبات الوضع السوداني بذهن مفتوح لا يقفز على النقاط الجوهرية في إصلاح ينبغي أن تكون له صفة الشمول ويرقى لمستوى الفعل الثوري، حتى وإن لم تكتمل تجهيزات ميدان التحرير السوداني.
وبالطبع كانت هناك محاولات لإصلاح ذلك الوضع المعوج في ما يتصل بالمفصولين، ومنها تلك التي قام بها عام 2007م الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى وزير الدولة بوزارة العمل يومها، لكنه واجه هجوما عنيفا أجبره على التخلي عما يسعى اليه، حسبما ذكر الإكاديمي حافظ محمد حميدة في مقال نشر له في ذلك العام. وأضاف «ثم تقرر فيما بعد الغاء الفصل من الخدمة للصالح العام، وهذا الالغاء «حق أريد به حق» أم «حق أريد به باطل»، ذلك ان كل المعارضين قد تم ابعادهم بالفعل، وأن المتبقين هم من أنصار النظام، وهذا القرار سيوفر لهم الحماية».
وتفيد كامل المعالجات التي تتم حالياً على صعيد الخدمة المدنية أو في ما يتصل بالخريجين أو مكافحة الفساد، أن النظام الإداري بكامله يستوجب التغيير والتطوير، وأن الاعتراف بذلك واجب على الحكومة الحالية، إذ أن الإصلاح في كل شأن من هذه الشؤون يستوجب وجود قيادات تدرك حجم هذه المشكلة ولديها الاستعداد للعمل، ولديها الكفاءة اللازمة لانجاز ذلك، وعلى سبيل المثال لا يمكن محاربة الفساد ومكافحته بما يتوفر حاليا من قيادات ولغ بعضها في مستنقع الفساد، ولم تعد تعرف غير الأساليب الفاسدة في تسيير مختلف الشؤون.
وكذلك الحال في مختلف المجالات.. الأمر الذي يستدعي تغييرا شاملا في الشخوص وفي الأساليب، وهذا هو الهدف النهائي للثورات التي تحدث حولنا، وقد أدرك أهل النظام في السودان أن هناك حاجة قوية للتغيير، لكنهم يريدون أن يحدث ذلك بذات العقلية الإدارية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه الآن من فشل في مختلف القطاعات، كما يريدون أن تتولى الكوادر الحالية عملية التغيير، ولا ننكر أن بينهم المؤهلين ولكننا نخشى دائماً من عقلية «الولاء أولاً» المسيطرة، ونشير إلى الجيوش الجرارة من اللامعين في الخدمة المدنية، الذين يهيمون على وجوههم بحثاً عن لقمة عيش كريمة، ولماذا لا يستفاد من خبراتهم وإرثهم الإداري الثمين وبعضهم خارج البلاد، فالإدارة، كما نظن، ترتبط بمعايير واخلاقيات ومثل تتوفر لدى الكثيرين من الذين نعنيهم والذين هم خارج الخدمة، وقد أسهم أولئك في إرساء تقاليد راسخة لخدمة مدنية سودانية أصيلة، بعد أن ورثوا مقوماتها الأساسية من الاستعمار البريطاني، الذي تركزت أولوياته على خدمة مصالحه، ولهذا سعى لاقامة ذلك النظام الخدمي المدني المتين، غير أن أساطين الخدمة المدنية من السودانيين أضفوا لمستهم الخاصة على ذلك الوضع، وأفلحوا في تقديم ذلك النموذج السوداني المتميز.. لكن هذه الخدمة تضررت طوال عقود وعهود عسكرية تحت شعار «التطهير واجب وطني». وكان ذلك هو المسمار الأول في نعشها، وتبعه في عهد مايو شعار «لا حياد مع مايو»، وفي عهد الانقاذ نشط شعارا «التمكين» و«الصالح العام»..
وربما لذلك تطل السياسة برأسها كل حين وآخر، إذ أن الإصلاح المنشود سيكون فاعلاً في إطار صيغة قومية حقيقية للحكم تنقذ الخدمة المدنية وغير الخدمة المدنية من حالة التردي العامة في الأداء.
كما يستدعي الأمر أن يعمد النظام إلى إسناد المهمة إلى العناصر المشهود لها بالكفاءة في هذا المجال، حتى تلك خارج دائرته، وهي متوفرة، وإفساح حرية العمل أمامها بعيداً عن التدخلات السياسية، ولعل النهج الذي يتبعه النظام في ما يتصل بالإحجام عن اشراك القوى السياسية الأخرى في الحكم، بطريقة كافية، يعطي فكرة عما يمكن أن يحدث في أي شأن آخر ذي صبغة قومية يستدعى مشاركة الجميع.
وينصب الاهتمام الحكومي حاليا على جملة من المعالجات لمشكلات مزمنة مدفوعا في ذلك بتأثيرات المد الثوري الذي يجتاح المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، وبإفرازات حالة الفوران ومطالبها واستحقاقاتها، مع جهد مضن لاستباق ما يحدث، أو ما قد يحدث من تطبيقات للنماذج التونسية والمصرية، ولربما حتى الليبية، على ضوء حقيقة انتشار السلاح والتململ في انحاء البلاد.
ومن محاولات المعالجة بالجملة، برنامج لتشغيل وتدريب مئات الآلاف من الخريجين، باستثمارات تبلغ حوالي «200» مليون جنيه، دون أن يتبين على وجه التحديد الجهات التي ستستوعبهم، ويتم تدريب بعضهم لاطلاق مشروعات خاصة بهم على أسس تجارية، وإن بدا أن الزراعة تستأثر بالنصيب الأوفر منهم، وذلك على الرغم من الوضع المزري للزراعة نفسها، وسط محاولات لا تنقطع لرفعها من كبواتها المتلاحقة.. وقد عكست تظاهرة لعاطلين عن العمل في رجل الفولة بجنوب كردفان في الأسبوع الأول من أبريل الجاري، أن الحملة بشأن معالجة أوضاع الخريجين العاطلين عن العمل لم تمتد إليها..
وهناك حملة لتدريب حوالي «38» ألفا من موظفي الخدمة المدنية التي تأذت كثيراً منذ عقود، وتفاقمت أوضاعها في السنوات الأخيرة بسبب مشكلات تقديم الولاء على الكفاءة، ومن ثم فقدان الآلاف وظائفهم، حيث تفيد معلومات أن عشرة آلاف شخص فقدوا وظائفهم منذ بداية عهد الإنقاذ، بسبب عدم موالاتهم للنظام، دون اعتبار لما يتمتع به بعضهم من خبرات نادرة ومستويات رفيعة من الأداء المهني، ويعرف الذين تولوا تنفيذ تفاصيل حملات التمكين والصالح العام، أن زملاءً لهم، لهم باع طويل في الخدمة المدنية، ولكنهم مع ذلك راحوا ضحية تلك المجازر الوظيفية البشعة.
وهذه مشكلة جوهرية في كامل الشأن السوداني، لكن النتائج الفادحة لها تظهر بشكل واضح على الخدمة المدنية، حيث تعين على الكثيرين من المفصولين من نوابغ الخدمة، وكانوا في قمة عطائهم الوظيفي، الانخراط في أعمال لا تتناسب مع مؤهلاتهم واستعدادتهم، ولا مع إمكانياتهم المعرفية والوظيفية، ومن ثم فقد رضوا بالقليل، وفضلوا مجاهدة الظروف الصعبة. وقد هزت حملات الفصل من الخدمة ثوابت وقناعات المجتمع، وأثرت في تطلعات الأبناء وطموحاتهم، بعد أن أدركوا أن التميز في الأداء وحده لا يكفي لسد الرمق في سودان اليوم.
ولأن الخدمة المدنية هي العمود الفقري لكامل إدارة شؤون العباد والبلاد، فإن المهمة التي تنتظر الذين يحاولون إعادتها للعمل بصورة فاعلة جد عظيمة ومكلفة وتحتاج إلى جهد غير عادي، وإلى إرادة سياسية واعية تستوعب متطلبات الوضع السوداني بذهن مفتوح لا يقفز على النقاط الجوهرية في إصلاح ينبغي أن تكون له صفة الشمول ويرقى لمستوى الفعل الثوري، حتى وإن لم تكتمل تجهيزات ميدان التحرير السوداني.
وبالطبع كانت هناك محاولات لإصلاح ذلك الوضع المعوج في ما يتصل بالمفصولين، ومنها تلك التي قام بها عام 2007م الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى وزير الدولة بوزارة العمل يومها، لكنه واجه هجوما عنيفا أجبره على التخلي عما يسعى اليه، حسبما ذكر الإكاديمي حافظ محمد حميدة في مقال نشر له في ذلك العام. وأضاف «ثم تقرر فيما بعد الغاء الفصل من الخدمة للصالح العام، وهذا الالغاء «حق أريد به حق» أم «حق أريد به باطل»، ذلك ان كل المعارضين قد تم ابعادهم بالفعل، وأن المتبقين هم من أنصار النظام، وهذا القرار سيوفر لهم الحماية».
وتفيد كامل المعالجات التي تتم حالياً على صعيد الخدمة المدنية أو في ما يتصل بالخريجين أو مكافحة الفساد، أن النظام الإداري بكامله يستوجب التغيير والتطوير، وأن الاعتراف بذلك واجب على الحكومة الحالية، إذ أن الإصلاح في كل شأن من هذه الشؤون يستوجب وجود قيادات تدرك حجم هذه المشكلة ولديها الاستعداد للعمل، ولديها الكفاءة اللازمة لانجاز ذلك، وعلى سبيل المثال لا يمكن محاربة الفساد ومكافحته بما يتوفر حاليا من قيادات ولغ بعضها في مستنقع الفساد، ولم تعد تعرف غير الأساليب الفاسدة في تسيير مختلف الشؤون.
وكذلك الحال في مختلف المجالات.. الأمر الذي يستدعي تغييرا شاملا في الشخوص وفي الأساليب، وهذا هو الهدف النهائي للثورات التي تحدث حولنا، وقد أدرك أهل النظام في السودان أن هناك حاجة قوية للتغيير، لكنهم يريدون أن يحدث ذلك بذات العقلية الإدارية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه الآن من فشل في مختلف القطاعات، كما يريدون أن تتولى الكوادر الحالية عملية التغيير، ولا ننكر أن بينهم المؤهلين ولكننا نخشى دائماً من عقلية «الولاء أولاً» المسيطرة، ونشير إلى الجيوش الجرارة من اللامعين في الخدمة المدنية، الذين يهيمون على وجوههم بحثاً عن لقمة عيش كريمة، ولماذا لا يستفاد من خبراتهم وإرثهم الإداري الثمين وبعضهم خارج البلاد، فالإدارة، كما نظن، ترتبط بمعايير واخلاقيات ومثل تتوفر لدى الكثيرين من الذين نعنيهم والذين هم خارج الخدمة، وقد أسهم أولئك في إرساء تقاليد راسخة لخدمة مدنية سودانية أصيلة، بعد أن ورثوا مقوماتها الأساسية من الاستعمار البريطاني، الذي تركزت أولوياته على خدمة مصالحه، ولهذا سعى لاقامة ذلك النظام الخدمي المدني المتين، غير أن أساطين الخدمة المدنية من السودانيين أضفوا لمستهم الخاصة على ذلك الوضع، وأفلحوا في تقديم ذلك النموذج السوداني المتميز.. لكن هذه الخدمة تضررت طوال عقود وعهود عسكرية تحت شعار «التطهير واجب وطني». وكان ذلك هو المسمار الأول في نعشها، وتبعه في عهد مايو شعار «لا حياد مع مايو»، وفي عهد الانقاذ نشط شعارا «التمكين» و«الصالح العام»..
وربما لذلك تطل السياسة برأسها كل حين وآخر، إذ أن الإصلاح المنشود سيكون فاعلاً في إطار صيغة قومية حقيقية للحكم تنقذ الخدمة المدنية وغير الخدمة المدنية من حالة التردي العامة في الأداء.
كما يستدعي الأمر أن يعمد النظام إلى إسناد المهمة إلى العناصر المشهود لها بالكفاءة في هذا المجال، حتى تلك خارج دائرته، وهي متوفرة، وإفساح حرية العمل أمامها بعيداً عن التدخلات السياسية، ولعل النهج الذي يتبعه النظام في ما يتصل بالإحجام عن اشراك القوى السياسية الأخرى في الحكم، بطريقة كافية، يعطي فكرة عما يمكن أن يحدث في أي شأن آخر ذي صبغة قومية يستدعى مشاركة الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق