الأحد، 3 أبريل 2011

الخدمة المدنية...... أقوال بلا أفعال

وأنا أقلب درجاً فى مكتبى عثرت على أوراق متعددة عمرها أكثر من ثلاث سنوات ضمن هذه الأوراق وجدت ملفاً يحتوى على أعمال ورشة عُقدت قبل ثلاث سنوات فى إحدى المؤسسات وكانت تهدف إلى التصدى لبعض التطوير فى خدمة ما تتصل بصورة مباشرة بقضايا تخص الجماهير... وكانت الورشة قد استغرقت الثلاثة أيام من المداولات والمداخلات وتقديم الأوراق ، تبارى فيها الخبراء والعلماء وآخرون من الباحثين عن ما يمكن أن يكون عليه الأمر... أذكر جيداً كيف كانت المناقشات تُدار فى هذه الورشة وكيف كانت تحتدم بين أعضاء الورشة.. وكنت أدون ملاحظاتى ومداخلات الجميع.... وفى اليوم الختامى تمت إجازة توصيات قوية براقة وتم تحديد موعد زمنى لتنفيذها... لقد هالنى مستوى الحماسة لدى المشاركين وكثرة الحديث الذى قيل... صدقت والمؤمن صدَيق ، أن تطوراً هائلاً ستُحدثه هذه الورشة فى مسيرة هذه المؤسسة الحيوية وأن الشعب السودانى موعود بتحسنٍ كبير فى خدماتها.. استفقت من إستغراقى فى تذكر الورشة التى مضت عليها ثلاثة أعوام ..ولما كانت لدى معرفة بسير الأمور فى المؤسسة المعنية ولما كان نوع الإصلاح الذى كانت تستهدفه تلك الورشة من ذلك النوع من الإصلاحات التى لايمكن أن تُخفى وجدت أن الورشة كانت مجرد حديث ذهب مع الريح أو إن شئت فقل تنظيرات ذهبت أدراج الرياح ... فلاشئ من تلك التوصيات قد وجدت طريقها إلى التنفيذ فأدركت أننا نُرسِّخ للفشل ونؤسس له..لقد حضرت العديد من الورش ولكن لم أرَ أية توصيةٍ من تلك التوصيات قد ظهرت للناس .. تلك الورش كانت مهرجاناً من الخطب والأحاديث ومحاولات للبعض لإظهار القدرة المعرفية ودرجة الثقافة.. طبعاً هذه الورش كلها تُعقد بعد تصديقات ميزانيات للمعدات المكتبية وإيجار القاعات والوجبات وبوفيهات الشاى فى البريكات الصغيرة..إضافةً إلى الحوافز التى تُقدم للمشاركين فى مظاريف إلى آخر هذه التكاليف... إذ يتضح وبصورة لاتقبل الشك أن مجموع هذه الورش تكلف الخزينة التى يتحمل تمويلها دافعو الضرائب من عامة الشعب السودانى الكثير من الأموال لتضيع هباءاً منثوراً فى أحاديث وتنظيرات ووجبات وإيجارات وحوافزو(كبارى) لعبة الثلاثة فواتير للسادة المنظمين ممن لا يهمهم سوى إنعقادها... ثم نصحو لنجد أننا كمن قبض الريح لا ظهراً أبقينا ولا بلقعاً قطعنا... لتُصبح ظاهرة الورش وإدمان بعض الخبراء لها وللسعى لحضورها مظهر سيئ يُكلف الخزينة العامة للدولة مبالغَ كبيرة والمردود منها كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماء .
رغم كل هذه الورش والسمنارات والصرف عليها «وقتاً ومالاً» إلا أن الخدمة المدنية فى السودان لا زالت متخلفة ومشوهة ولا زالت تُدار بعقلية القبيلة والجهة والفساد والإفساد والمحسوبية .. وتعيين الأقرباء وأصحاب الولاء وغمط حقوق الموظفين الذين لا يتفق معهم سيادة المدير خاصةً إذا تعلق الأمر بالمواقف السياسية .. أما التطوير وملاحقة آلياته وتعزيزها فى مجال الخدمة بالصورة التى تُريح المواطن دافع الضريبة .. فهى آخر ما يفكر فيه الذين يديرون أمر المؤسسات والهيئات ذات الصلة بمصالح الجماهير .. بل إن محاولات بعض المؤسسات التى تملك رغبة صادقة لتطوير أدائها للأسف غرقت فى بروقراطية ممجوجة إذ سعت إلى تطويل إجراءات المعاملات بصورة مقيتة .. فكرّست التعقيد فى الإجراءات بصورة تُصعِّب حياة الناس بدلاً من تسهيلها .. وتجعلهم يبغضون اليوم الذى يضطرون فيه إلى اللجوء إليها من أجل قضاء إحتياجاتهم .. فتجد المؤسسة لها أكثر من شباك وأكثر من عدة أوراق وإيصالات .. لا تتحقق المعاملة أو المصلحة إلا بعد زيارتها والتمسح فى شبابيكها والتوقيع عليها ودفع رسومها المتعددة.
كثيرٌ من الناس عندما يذهبون لقضاء معاملاتهم فى المؤسسات والهيئات التى تُعنى بذلك .. يجدون بعض الموظفين غير موجودين فى مكاتبهم .. وإذا وُجدوا فيها تراهم متجهمى الوجوه .. مكفهرة أساريرهم .. وبعضهم يتسلم طلبات وأوراق المواطنين ثم يضعها فى الدرج وهو يقول لك «تعال بكرة» وبكرة عندما تأتيه فى نفس الموعد .. تجد أن الأوراق لا زالت فى درج مكتبه .. عندئذٍ فقط يُخرجها وتشعر حينها بأنه أحس بالذنب لأنه كان بإمكانه إجراء المعاملة يوم أمس ثم يسعى فى إكمالها .. وتتساءل أنت فى حيرة وفى سرك أيضاً .. لماذا لم يفعل هذا الأمر أمس؟ لأنك لو جهرت بسؤالك هذا سيثور الرجل وربما لجأ إلى كل حيلةٍ يعلمها لتعطيلك مرة أخرى فاحذر أن تفعل ذلك حتى لا تزيد من معاناتك.
أذكر أننى ذهبت فى يوم من الأيام لإجراء معاملة فى إحدى هذه المؤسسات ، وكنت على عجلةٍ من أمرى ، وفى إحدى الشبابيك وجدت الموظف يدير ظهره للشباك وهو يتجاذب أطراف حديثٍ مع زائر له داخل المكتب .. وعندما بدأت محاولاً تنبيهه .. إستدار نحوى ودون أن تنبس شفتاه بكلمة إستدار مرة أخرى لمحدثه وواصلا حديثهما لبضع دقائق أخرى ثم إلتفت إلىّ مرة أخرى ليجرى لى المعاملة إلا إننى قد لمحت غضباً مكتوماً فى عينيه.
فى محاضرة للسيد مدير المركز القومى للدراسات الإستراتيجية الدكتور تاج السر محجوب بعنوان إستراتيجية تطوير الخدمة العامة فى الخطة القومية للإستراتيجية الربع قرنية قدم رؤية لتطوير الخدمة المدنية بما يلبى طموحات البلاد ، ورغم ما ورد فيها من ملامح لما ينبغى أن تكون عليه أوضاع الخدمة المدنية فى البلاد ، إلا أن شأن ما ورد فيها كان مصيره مصير الورش والسمنارات التى تُعقد وتخرج بتوصيات دون أن تُحرز الخدمة المدنية أي تقدم فى أدائها ، وقد ورد فى المحاضرة التركيز على محاربة اللامؤسسية ومناهضة خرق النظم والقوانين والتعامل معها والتلاعب بها والتحايل عليها وعدم احترام الهيكل التنظيمي ، وأهمية الرجل العظيم في إنتقال الشخص إلى منصب اعلى وتغير شخصيته في التعامل مع الناس ، والإستفادة من عبر الماضي وتكريس الجهود في إطار الخدمة العامة وإتقان العمل والجودة الشاملة ، والإهتمام بالعنصر البشرى وتطويره هو الوسيلة الوحيدة في صناعة الأمة ، والوصول إلى خدمة عامة محددة المعالم منحازة للأهداف العليا للوطن والأمة ، ملتزمةٌ بالسياسات وبرامج الحكومة ومنضبطة في أدائها وسلوكها ، ومتفاعلة مع نبض الجماهير المتعاملة معها ، مبادرة لرسم السياسات من أجل الوصول إلى الأهداف في تلمس المشاكل واقتراح الحلول المناسبة لها وتحليلها وما هي المشاكل التي تواجهها وحلها (التفكير الوقائي ) في حدوث المشاكل قبل وقوعها ،مبدعة في النظم الإدارية تتعدل وفق معطيات العمل ومواكبة لمتطلبات العصر في إزالة أمية العولمة وكيفية تأمين أنفسنا من مشاكلها ، وتفعيل تقنية المعلومات والتقدم العلمي السريع ومقاومة وتحديد أهداف التغيير ، والإنتفاع من تجارب الآخرين إقليميا ودوليا ومحليا ، رفع الكفاءة من خلال وصف وظيفي يزيد من عطاء الكادر البشرى وروح الفاعلية والإندفاع إلى الإنجاز وإيمانك بالعمل وأنماط التعامل مع الآخرين ، وتحقيق هيكل يُساعد على التميز والمحافظة على أخلاقيات المهنة وعدم إهدار الوقت ، تنظيم الفاعلية من خلال السلوك الادارى ، إعتماد التحسين والتطوير المستمرين من خلال كل الذين يحملون طرحاً موضوعياً . هذا مقتطف من المحاضرة إلا أن الناظر إلى أحوالنا فى الخدمة المدنية اليوم يرى أنه لايزال بيننا وبين هذه القيم بيدٌ دونها بيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق