زين العابدين صالح عبد الرحمن(الأرشيف) |
البشير واختيار الطريق الثالث لحل الخلافات مع دولة الجنوب
جوبا, أصبحت واقعا, بعد ما قبل السيد رئيس الجمهورية الدعوة الموجهة إليه من السيد سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان لزيارة جوبا. والحوار حول القضايا المختلف عليها, وإنهاء حالة القطيعة بين الدولتين, وإزالة التوتر على الحدود, والخلاف على عملية تصدير النفط, كلها كانت سبباً كبيراً في زعزعة أمن البلدين, واستفحال الأزمة الاقتصادية, التي تعاني منها البلدان, نتيجة لقرار دولة الجنوب بوقف تصدير نفطها, عبر الأراضي السوداني, وبسبب الخلاف حول رسوم العبور والخدمات, التي يقدمها السودان قبل عملية التصدير. كانت لكل دولة إستراتيجية خاصة للضغط على الدولة الأخرى, بهدف إجبارها على قبول شروطها, والتي تراها مرضية, وتخدم مصالح شعبها, ولكن تلك الإستراتيجيات قد فشلت بفشل المحادثات وعدم تحقيق أي من الدولتين أهدافها. كانت دولة الجنوب تعتقد أنها تمتلك من العلاقات الدولية ما يحقق مقاصدها, خاصة مع كل من الولايات المتحدة والدول الغربية, التي سوف تهب لنجدتها وتقدم لها المساعدات والمعونات والهبات التي تحتاج لها, عندما تقرر وقف تصدير النفط, أو أنها سوف تمارس الضغط على حكومة السودان, لكي توافق على كل الشروط التي تقدمها دولة جنوب السودان. وفي ذات الوقت فإن عملية وقف التصدير سوف تزيد من الأزمة الاقتصادية في الشمال السودان, وتساعد على زيادة عوامل الانتفاضة، وفي ذات الوقت احتفظت دولة الجنوب بالحركات المسلحة كأدوات ضغط على السودان, تستطيع أن تتفاوض عليهم, ولكن زيارة رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت إلى المفوضية الأوربية, وبسبب البحث عن دعم اقتصادي مستعجل لم يثمر, بالصورة التي كانت تتوقعها حكومة جنوب السودان, كما إن الولايات المتحدة نصحت الدولة الوليدة في الوصول لاتفاق مع السودان حول القضايا العالقة, خاصة عملية تصدير النفط, وأيضاً نصحت دولة الجنوب أن الأزمة التي تعاني منها أمريكا لا تجعلها تستطيع أن تقدم الدعم الذي يعوض دولة الجنوب, ويغطي احتياجات الدولة, وفي ذات الوقت كانت هناك نصائح قدمت من قبل عدد من الخبراء في شؤون النفط, في الولايات المتحدة والدول الأوروبية, وقالوا إن وقف تصدير النفط ليس في مصلحة دولة جنوب السودان, وليس في مصلحة صناعة النفط عموماً وآلياتها, كما أكدوا أن الخيار الذي تراهن عليه دولة جنوب السودان في بناء خط ناقل عبر الأراضي الكينية والإثيوبية والجيبوتية هو خط مكلف جدا, ويستهلك مليارات الدولارات, كما إنه سوف يواجه تحديات أمنية بالغة الخطورة, لا تستطيع كل تلك الدول أن تؤكد أمن وسلامة الأنابيب الناقلة, وربما أيضاً تشرع دولة جنوب السودان في بناء الخط وتواجه نفس الخلاف حول الرسوم, إذا لم يكن حالياً فسيكون في المستقبل. كل تلك الإشكاليات, كان يجب أن تناقشها حكومة جنوب السودان بجدية, ومن خلال خبراء يعملون في شؤون النفط والإستراتيجية الأمنية, فكانت الإجابات هي إعادة النظر في طريقة التفاوض والرهان على عملية السلام, وبناء علاقات جيدة مع دولة السودان, لكي تساعد البلدين في عملية السلام والاستقرار والتنمية. كان السودان أيضاً يبني إستراتيجيته في التعامل مع دولة جنوب السودان, باعتبار أن النفط يشكل 98% من ميزانية الدولة الوليدة, وأنها لا تستطيع أن توقف تصدير النفط, وبالتالي ليس أمامها خيار سوى قبول ما يقوله السودان حول الرسوم, وإذا لم تقبل يجب أن تضغط الدولة الوليدة, خاصة أن الدول التي يمكن أن تقدم لها إعانات مالية هي نفسها تواجه إشكاليات اقتصادية, إن كانت الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي, ثم حاولت حكومة السودان البحث عن دعم مالي من قبل الدول العربية النفطية, ولكنها أيضاً لم تجد الدعم الذي يخفف أزمتها الاقتصادية, كما إنها من خلال العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوربية لا تستطيع أن تتعامل مع المؤسسات الاقتصادية العالمية, وحتى عملية الاستثمار الأجنبي التي توقعت أنها سوف تتدفق عليها لم تكون بالصورة التي تسهم في حل المشكلة الاقتصادية, وتوقف تدهور قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار, ثم جاءت الحرب في كل من جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان, إضافة إلى دارفور, لكي تفرض تحدياً آخر, وتأزم المشكلة الاقتصادية أكثر, واتهمت الخرطوم جوبا بأنها وراء انفجار تلك الحرب, وقيام التحالف العسكري بين الحركات الدارفورية المسلحة والحركة الشعبية قطاع الشمال, كل تلك التحديات الجديدة ساهمت في إجهاض إستراتيجية الحكومة السودانية في إدارة الصراع, كما أجهضت إستراتيجية دولة جنوب السودان في إدارة الصراع. هذا الإجهاض الذي أصاب الطرفين, كان لابد أن يخلق واقعاً جديداً في التفكير, والوصول إلي إستراتيجية القواسم المشتركة للمصالح, وواقعية الحل بما يتوفر في إرادة الطرفين, هو الذي جعل باقان موم يقول إن الإستراتيجية الجديدة في التفاوض, تغنينا عن الوساطة الأجنبية. إن الأزمة الاقتصادية, وعدم الاستقرار السياسي, خلق نوعاً من التذمر المكبوت في الدولتين, لذلك ليس هناك من خيار غير التمسك بالإستراتيجية الجديدة, والتي قال عنها باقان أموم رئيس وفد التفاوض مع حكومة السودان لبرنامج مؤتمر إذاعي الذي تبثه الإذاعة السودانية: (إن القمة كمبادرة مشتركة من وفدي التفاوض في البلدين الهدف منها خلق فرصة للدولتين لتغيير التوجه الحالي ونقل الدولتين لمرحلة مختلفة يبتعد فيها الطرفان من حالة فقدان الثقة إلى تعبيد طرق جديدة لخلق الثقة والأجواء الايجابية وتغيير منهج التفاوض من المواجهة والصراع إلى الشراكة بين الطرفين). وفي ذات الموضوع, قال إدريس عبد القادر رئيس وفد السودان للتفاوض مع دولة الجنوب: (إن الطرفين اتفقا على تغيير المنهج التفاوضي في محاولة لحل القضايا بروح الشراكة بدلاً عن روح التضاد الأمر الذي يحتاج إلى أجواء إيجابية وروح التفاهم بعد الإعداد الجيد لنجاح القمة والانتقال بالدولتين للوصول إلى النجاح). كانت الإستراتيجيات السابقة للدولتين في إدارة الصراع, تعتمد على الاستقطاب, سواء أكان في إطار المحيط الإقليمي, أو الدولي. وكانت أيضاً تعتمد على موقفين, تأييد الحكومة في موقفها, أو يجب أن تدان بالخيانة العظمى, كما بدأت تصرح بعض القيادات النافذة في البلدين, دون تبصُّر. ثم كان الطريق الثاني, طريق الوساطة, سواء أكانت إقليمية أو دولية, إلى طريق ثالث يبعد الناس عن دائرة الاستقطاب, ويخلق رؤية جديدة في الحوار, تركز على مصلحة الشعبين والبلدين, باعتبارها مصالح دائمة, وليست مؤقتة بدوام الجغرافية, التي لم ولن تتبدل في جوار الدولتين, كما إن الطريق الثالث هو طريق الاختراق والاتصال المباشر في الحوار بين قيادة البلدين والنظر للمصالح المشتركة, وما يؤدي للتواصل بين الشعبين, وكما قلت في المقال السابق, فإن هناك مصالح أخرى غير النفط سواء أكان في التكامل الزراعي أو الحيواني وغيرهما. اختار الرئيس البشير الطريق الثالث, كما اختار رئيس دولة الجنوب سلفاكير الطريق الثالث, على أن يحدث اختراق في لقاء الرئيسين, وأن يكون الحوار بأفق المصالح المشتركة, وحتى إذا لم تحسم القضايا في اللقاء المقبل, ولكنه سوف يفتح أبواباً ونوافذ جديدة للحوار, وأعتقد أن هذا المنهج لن يرفضه المجتمع الإقليمي والدولي, حيث سارعت الولايات المتحدة الأمريكية, وعلى لسان الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية, فيكتوريا نولاند والتي طالبت بالآتي: (إن الولايات المتحدة دعت دولة جنوب السودان لإنهاء أي دعم عسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال والعمل مع حكومة السودان بشأن التوصل إلى سبل مشتركة لإحلال السلام في المناطق الحدودية بين البلدين على أن يكون لقاء الرئيسين المرتقب لقاء يحسم القضايا المختلف عليها) وهذه إشارة إيجابية تدعم الطريق الثالث في الحوار. قرار الرئيس بالموافقة على دعوة رئيس دولة جنوب السودان, قد حسم جدلاً دائراً داخل السودان, من قبل بعض الفئات التي لا ترغب في تحسين العلاقات بين البلدين, والمتوجسين من اللقاء, مثل منبر السلام برئاسة الطيب مصطفى, وعدد من أئمة المساجد, الذين اتخذوا من منابرها محطات لرفض الدعوة, وتحريض الرئيس بعدم الذهاب, حيث تقول الصحف الصادرة في الخرطوم (إن أئمة المساجد ينصحون الرئيس البشير بعدم زيارة جوبا, وأشار بعضهم أن أمريكا وإسرائيل تديران المؤامرة ضده بجوبا, وغيرها من الأحاديث التي تجعل أن هناك مؤامرة تحاك, بهدف القبض على البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية). وهؤلاء يعتقدون أن هناك مؤامرة تقوم بها دولة جنوب السودان, بهدف تسليم الرئيس للمحكمة الدولية, وهي كانت دعوات قد خرجت من بعض منظمات في دولة جنوب السودان وهم أيضاً لا يريدون بناء علاقة مع السودان وهذه رؤيتها, كما أن نفس الأئمة لهم رؤيتهم التي تلتقي مع قناعات منبر السلام التي لا ترغب في علاقة أيضا, ولكنها تختلف مع العديد من المؤسسات وقطاع جماهيري واسع راغب في العلاقة. ولا أعتقد أن دولة الجنوب سوف تقدم على خطوة تسليم الرئيس أو حياكة مؤامرة ضده, بسبب أن الرئيس سلفاكير نفسه قال في المفوضية الأوروبية في بروكسل إنه يطلب من الاتحاد الأوربي أن يقنع الرئيس البشير بالحضور لجوبا, من أجل حسم القضايا الخلافية, ورئيس دولة جنوب السودان كان يعلم أن الدول الأوروبية هي التي تقف وراء المحكمة, وانتزاع مثل هذا التأكيد منهم لكي يطمئن الخرطوم, وموافقة الاتحاد الأوروبي الذي يقف وراء المحكمة يبعد شبح حياكة المؤامرة, وهي نقطة زكية من الرئيس سلفاكير, ولا أعرف كيف فهمتها الخرطوم, خاصة الذين يرفضون دون أفق سياسي للمشكلة وأبعادها, ثم جاءت تصريحات وزير الإعلام في دولة جنوب السودان برنابا بنجامين الذي قال فيها: (إن الحديث عن إمكانية اعتقال حكومته للرئيس عمر البشير لدى زيارته المرتقبة لعاصمتها جوبا والاستجابة لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية في هذا الشأن غير واردة إطلاقاً وأن جوبا سوف توفر ضمانات كافية لسلامة البشير وهي لا تلتزم بقرار المحكمة في هذا الصدد). ودولة الجنوب تسعى لحل مستعجل, لكي تحل مشاكلها الاقتصادية, وهي في أمس الحاجة لربح الزمن, وليس الدخول في مؤامرة لا تعرف ردود فعلها, وفي نفس الوقت فإن الخرطوم أيضاً تريد حلاً للمشكلة الاقتصادية والأمنية, لذلك تصبح القيادتان في البلدين, حريصتان على إنجاح اللقاء والحوار, للخروج من عنق الزجاجة, الذي أدخلا نفسيهما فيه, وقبول الرئيس البشير للدعوة يعتبر قطعاً لنصف المسافة, ونسأل الله أن يوفقهما في النصف الآخر.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق