• دولة الأفندية: التقطت كاميرا التلفزيون المصري مشهدا مثيراً.. بعد سقوط الرئيس المصري حسني مبارك.. لقطة تبيّن أحد عمال مجلس الوزراء المصري يدخل إلى قاعة الاجتماعات لتجهيزها لأول جلسة يعقدها مجلس الوزراء.. العامل أمسك بصورة كبيرة للرئيس المخلوع مبارك لينزلها من الحائط ثم يضع بدلاً عنها لوحة أخرى مكتوب عليها بخط كوفي جميل كبير (الله.. جلّ جلاله).. ثم يخرج من القاعة حاملاً صورة الرئيس مبارك.. ليذهب بها إلى إرشيف التاريخ. لم يكن ذلك الإجراء الرسمي مجرد جزء من بروتوكولات تغيير السلطة في مصر.. بل تعبير حقيقي عن (أزمة السلطة) في كل مكان.. بما فيها السودان.. يفضح معنى (تداول السلطة) في عالمنا العربي. • وجه الشبه بين النظام في السودان ونظام حسني مبارك وجه الشبه بين نظامنا السياسي في السودان، ونظام حسني مبارك. تركيز السلطة في يد رئيس الجمهورية، ثمّ المبالغة في التعامل مع الرمزية السيادية للرئاسة؛ حتى يكاد أن يتحوّل الرئيس إلى محور تدور حوله الدولة لا مجرد موظف في مقام رفيع مطلوب منه قيادة الدولة تحت إمرة سيادة شعبها والدستور. في السودان.. وفي بدايات عهد الإنقاذ لم يكن ممكناً رؤية صورة السيد رئيس الجمهورية إلا في الأخبار.. لم تكن في كل شوارع الخرطوم صورة للرئيس ولا حتى قاعات الدولة الرئيسة. لكن المتغير الكاسح جاء بعد الساعة الرابعة عصر يوم الأربعاء 5 مارس عام 2009. عندما أعلن قضاة المحكمة الجنائية الدولية قبولهم مذكّرة الاتهام التي أودعها لويس لورينو أوكامبو. في الحال انطلقت مظاهرة كبيرة – تم الإعداد لها سلفاً- إلى داخل مقر مجلس الوزراء ثمّ تبعتها مظاهرات أخرى في الأيام التالية في شوارع الخرطوم والمدن السودانية الأخرى. من تلك اللحظة صار مألوفاً أن تملأ صور رئيس الجمهورية الشوارع. بعضها بأحجام عملاقة كبيرة.. كالتي كانت أمام قاعة الصداقة.. أو في شارع الجامعة قبالة القصر الجمهوري.. وبعضها بأحجام أصغر أُلصقت على سيارات النقل العام وبعض السيارات الخاصة.. مصحوبة بعبارات تمجيد أكبر مما تعود عليه الخطاب السياسي مثل (كنت أميرنا .. وصرت مصيرنا). كان المفهوم في البداية أن الحكومة تحاول الرد على المحكمة الجنائية الدولية عملياً بإبراز مثل هذه التعابير التمجيدية لرئيس الجمهورية.. لكن هل فات على الحكومة أن المحكمة الجنائية بل والمجتمع الدولي يدركون أنّ كل ذلك من صنائع الحكومة وليس مجرد رد فعل جماهيري عفوي. طبعاً لا.. من صنعوا تلك الحملة التمجيدية يعلمون ذلك.. لكن في ذات الوقت لا يستطيعون لجم جماح آلة حكومية جهنمية – أخرى- مهمتها نفخ أي بنود مصروفات (استثنائية) لتصنع منها نهيرات من الأموال التي تتدفق خارج مسارات الميزانية، و بعيداً عن الرقابة.. من الذي يستطيع في مؤسسة حكومية أن يعترض على صرف أي مبلغ مخصص لتصميم وطباعة لافتات أو صور تمجّد الرئيس في وجه المحكمة الجنائية.. أي محاولة لإبداء الاعتراض أو مجرد التردد تعني الوقوف أمام عجلات القطار.. من تلك اللحظة فتحت الأبواب على مصراعيها لتعليق صور رئيس الجمهورية في كل مكان.. ولم تكن المشكلة في (تعليق!) الصور فحسب، بل في الأموال الطائلة التي تهدر في ذلك.. هذا المسلك ولو سلمنا –جدلاً- بحسن الظنّ فيه، زاد من حدة الاختلاف –وطنياً- على رمزية الرئيس وتمثيله لكل الوطن حكومة ومعارضة.. لأنّه أفرط في الجرعة (الحزبية) في الشارع السوداني.. فلو يممت تلك الحملة شطر الوطن أكثر من التركيز على (شخص) الرئيس لكانت فاتحة عهد إجماع وتوافق سياسي لا مثيل له. كان الأجدر استنباط حكمة سياسية ذهبية أنّ (حقن) التعاطف حقناً يزيد من الأجسام المضادة له. وكلما زادت الأجسام المضادة.. زاد التعويل على القبضة الأمنية أكثر من الرشاقة السياسية.. وهذا بالضبط ما حدث في السودان بعد إعلان قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الاتهام لرئيس الجمهورية. ووصلت الموجة ذروتها حينما أعلن الفريق أول مهندس صلاح قوش مدير عام جهاز الأمن والمخابرات الوطني – آنذاك- و في لقاء سياسي مفتوح.. أنّ أي تأييد للمحكمة الجنائية سيقابل بـ(تقطيع الأوصال). وكانت نتيجة ذلك.. ليس تقطيع أوصال المعارضين .. بل (تقطيع أوصال) الوطن الذي فقد الآن جغرافياً ثلث مساحته ووجدانياً أضعاف ذلك. حزب المؤتمر (الوطني) في السودان.. يقابله الحزب (الوطني) الديمقراطي في مصر.. كلاهما الحزب الحاكم.. وللحقيقة كلاهما الحزب (المتحكّم) في كل مفاصل الدولة.. وليس في ذلك حرج أو عيب أن ينال حزبٌ الأغلبية الكاسحة في بلده فيحكم منفرداً ولو للأبد. لكن هل صحيح أنّ (الوطني) في السودان و(الوطني) في مصر كانا يشكلان الأغلبية الكاسحة.. هنا يكمن خطأ النظرية التي أودت بـ(الوطني) في مصر.. وستودي بـ(الوطني) في السودان إن لم ينتبه لها قبل فوات الأوان. • العلاقة بين الأمن والسياسة. حزبا (الوطني) في السودان ومصر، يعتمدان في تثبيت سلطتهما و(جماهيريتهما) على القبضة الأمنية.. كبح الآخر بأعتى ما تيسر، واحتكار الفرص ومساحات العمل العام. يستطيع – مثلاً- المؤتمر الوطني في السودان تسيير أي مظاهرة في أي مكان في أي زمان، بينما لا يستطيع حزب منافس فعل ذلك حتى ولو استعصم بالسبل القانونية النظامية. الحزب (الوطني) في السودان تماماً كرصيفه الحزب (الوطني) في مصر.. يستخدم موارد الدولة لصالح الحزب؛ ليس الموارد المادية فحسب بل حتى القوام الوظيفي (Setup) حيث تُحظى عضوية الحزب بالمناصب التنفيذية في الدولة بكل سهولة وأحياناً بلا مؤهلات.. ويتسنّم كثير من الشباب حديثي التخرج مناصب تنفيذية رفيعة في الدولة بينما يشق على الكفاءات المقتدرة صعود سلم الترقي والوظيفة بسبب ثقل ما يحملونه من ضمير مهني غير منسجم مع حزب المؤتمر الوطني. ويختلط الخاص الحزبي بالعام الحكومي اختلاط الماء بالماء. ولا يكاد المرء يميّز بين ممتلكات الحزب وممتلكات الدولة، ويظهر ذلك في الشركات التي يتملّكها الحزب وتلك التي تمتلكها الحكومة، بالكاد يمكن التمييز بينهما. ويساعد في هذا الاختلاط أنّ قيادة الحزب هي قيادة الدولة من أعلى مستوياتها إلى أدناها؛ حتى في الولايات. القاعدة الذهبية في أي دولة.. أنّه كلما زاد النشاط السياسي قلّ التعويل على النشاط الأمني، والعكس صحيح، كلما قلّ النشاط السياسي ارتفعت الحاجة للنشاط الأمني. ولا تكمن المشكلة بصورة رئيسة في زيادة النشاط الأمني على حساب السياسي. لكن تضاعف بسبب تأثير ذلك على موارد الدولة. أجهزة الأمن في أي دولة ضرورة حتمية؛ لأنّ بقاء أو فناء أي دولة يعتمد بصورة رئيسة على قوة وفاعلية أجهزتها الأمنية. ينطبق ذلك على الدول الديمقراطية الحرة مثل أمريكا وبريطانيا، فالدولة مثل الإنسان، والجهاز الأمني مثل جهاز المناعة في جسم الإنسان.. إذا فقدته الدولة تصيح مصابة بمرض الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) تماماً كالإنسان. لكن المشكلة دائماً في توظيف (جهاز المناعة) في الدولة، كلما انحصرت مهمة جهاز المناعة في التصدي للمكروبات والفيروسات المضادة صح جسم الدولة.. وكلّما خرج (جهاز المناعة) عن مهمته واستهدف الأجسام الطبيعية اعتلت الدولة، تماماً كجسم الإنسان عندما تخرج مهمة خلايا المناعة من طورها فتهاجم الخلايا الصحيحة والمريضة على حد سواء. • (الحالة المصرية) لنلقي نظرة على (الحالة المصرية).. بلغ قوام الأجهزة الأمنية في مصر مليون وأربعمائة ألف عنصر، بينما قوام الجيش المصري لا يتعدى الـ (300) ألف عنصر. وكانت الأجهزة الأمنية في مصر شرسة، قادرة على التحرك في مساحة واسعة تخترق كل اشتراطات حقوق الإنسان؛ لدرجة أنّ المخابرات الأمريكية في سبيل انتزاع الاعترافات كانت تهدد أعضاء تنظيم القاعدة بتسليمهم لقبضة الأجهزة الأمنية المصرية. في حضن مثل هذه القوة الأمنية الهائلة لم يعد (الوطني) بمصر في حاجة لإرهاق نفسه بالعمل السياسي ومكابدة الحجة بالحجة وخوض غمار التنافس الحزبي في الميدان.. فالأجهزة الأمنية توفّر له كبت وكبح الآخر بأعلى كفاءة، فارتخى العضل السياسي لصالح العضل الأمني. لكن العمل الأمني مكلف وباهظ النفقات.. تدريب ضابط أمن واحد وإكسابه الخبرة المناسبة أكثر كلفة من تدريب مائة كادر سياسي، فترتفع النفقات وتُهدر أموال طائلة في الأجهزة الأمنية كلما ازداد التعويل عليها وضعف العمل السياسي (الأقل كلفة)، ويصبح الوضع كأنّما الدولة استبدلت الإنفاق على العمل السياسي (الأقل كُلفةً) لصالح العمل الأمني (باهظ التكلفة). فتكون النتيجة هدر مال وقهر سياسي. وتزداد الصورة قتامة إذا اختلط الأمن بالحزب.. فصار أعضاء الحزب هم الأمن، والأمن هو عضوية الحزب، هنا تقترب الدولة من الحال الذي كان عليه المعسكر الاشتراكي في القرن العشرين.. وتصبح النهاية المحتملة قريبة الشبه بما حدث للمعسكر الاشتراكي؛ انهار تماماً وتشتت رغم كل سطوة أجهزة الأمن والمخابرات التي كان يملكها و( يدير) لا (يحرس) الدولة بها. • التمييز بين الحالة (الأمنية) و الحالة (السياسية) لتقريب الصورة لذهن القارئ اخترت مثالاً شاخصاً للأبصار في الوقت الراهن، ما يُسمى بثورة (الفيسبوك). و(الفيسبوك) هو مجرد بيئة تواصل توفر إمكانية التلاقى الافتراضي دون الحاجة للتلاقي المباشر. في السودان حاول بعض الشباب تبني النسخة المصرية فدعوا الشباب لمظاهرات عبر (الفيسبوك).. ما الذي حدث؟ من الذي واجه هؤلاء الشباب؟ الأمن بالطبع. أين الحزب؟ أين النشاط السياسي؟ نائمٌ في سُبات عميق طالما هناك من يقوم بالمهمة على أفضل وجه ويكبح الرأي الآخر، ومن اليقين أنّ الأجهزة الأمنية حينما تخوض مثل هذه المواجهة لا تهدف لخوض معركة (حوار) وحجة بحجة، فتلك ليست مهمتها ولا قوام عملها، فتصبح المواجهة بين (العقل) السياسي للمعارضة.. و(العضل) الأمني لحزب المؤتمر الوطني، الأجهزة الأمنية هنا تتمدد في فراغ الأجهزة السياسية الغائبة، وتخسر الدولة مرتين؛ فكما أسلفنا، العمل الأمني باهظ النفقات قياساً بالعمل السياسي، وتفريغ ضابط أمن واحد لمواجهة المظاهرات أكثر كلفة من تفريغ (مائة) كادر سياسي للمواجهة الفكرية. • باختصار..!! كل الأسباب التي دعت الشباب المصري للإطاحة بالنظام هناك، متوفرة هنا (وبالزيادة).. ويصبح المحك أن يُقر حزب المؤتمر الوطني بالحقيقة ثمّ يعالجها.. أمّا إذا اعتبر الأمر مجرد خطرفات صحفية وكيد سياسي فسيستبين النُصح ضحى الغد، وسيردد كما ردد زين العابدين بن علي (الآن فهمت..) |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق