| فساد لاند الحلقة 6 | عثمان ميرغني | | | لو انتهت حلقات هذا التحقيق بدمعة أسى وحزن على حال البلد.. دون محاسبة رسمية لكل من ارتكب جريمة في حق هذا البلد.. فسيكون عملنا الصحفي مُجرّد (تنفيس) عن حالة احتقان قصوى.. فالذي نعرضه أمامكم في هذه الحلقات ليس مُجرّد فساد.. هي (ماكينة!) ضخمة كانت تعمل بمنتهى المؤسّسية وتستغل أجهزة الدولة.. مشروع دريم لاند.. تحول إلى مستنقع كبير اسمه (فساد لاند..)..!! في الحلقات الخمسة الماضية طرحت أمامكم المشهد الإجمالي للصورة القاتمة.. صورة الاستثمار في السودان من واقع (عمايل) ماكينة الفساد الكبرى في مشروع "دريم لاند" الذي تحول إلى "فسادلاند" بكل ما تعني الكلمة من معانٍ.. المشروع الذي بدأ نطفة في العام 2003.. وكان يفترض خلال ست سنوات أن ينهض شامخاً في طريق الخرطوم مدني ليدشن جيلاً جديداً من العمران وتخطيط المدن في السودان. ويقفز بولاية الجزيرة إلى مصاف ولاية عاصمة.. لكنه تعثر وانهالت عليه السكاكين من كل جانب حتى أصبح مجرد أطلال.. هياكل بيوت وبوابة بلا معنى في قارعة الطريق. ولو كان هذا المشروع مجرد (اتفاق صغير) بين مستثمر أجنبي ووزارة الاستثمار.. لما استجق الأمر أية ضجة.. وحتى كان مجرد مشروع ولائي في كنف ولاية الجزيرة ربما أيضاً لم يكن ليستدق البكاء عليه. لكنه مشروع مر بكل الدولة من قمة رأسها إلى أخمص قديمها في ولاية الجزيرة.. ما من مسوؤل إلا وثق له الإعلام تصريحاً يصف فيه حجم وأهمية المشروع. التقى المستثمر المصري أحمد بهجت بالسيد رئيس الجمهورية.. وبنائبه الأول.. وكبار الوزراء، د. عوض الجاز، ود. مصطفى عثمان.. ود. عبد الحليم المتعافي (عندما كان والياً للخرطوم، وقبل أن يصبح وزيراً للزراعة).. والتقى بوالي الجزيرة الفريق أول عبد الرحمن سرالختم.. وكل وزراء حكومته فرداً فرداً.. ربما الوحيد الذي لم يلتقِه (بالمعنى الفعلي الحقيقي لكلمة لقاء) هو البروفيسور الزبير بشير طه والي الجزيرة الحالي.. وذلك أيضاً وجه آخر للقضية. ولأن القضية كبيرة مترفة بالفساد من كل صوب وحدب.. ولأن ما بيدي من مستندات ووثائق وشهود عيان يثير الربكة ويتطلب كثيراً من الجهد التحريري لتبسيطه أمام القارئ.. دعوني أعنون القضية في عناوين بارزة السمات. تتركز محاور الفساد في مشروع "دريم لاند".. في الأرض.. "لعبة الأرض" مسلية لأبعد مدى وتدر مليارات "ممليرة" بدون أدنى مجهود وبأيدٍ نظيفة بيضاء لا تتسخ من وحل الفساد.. و(لعبة الأرض) مقسمة على عدة محاور.. تبدأ من مرحلة تسميتها.. أي والله "تسميتها" أي مجرد الوصول لمرحلة (التخيّل).. تخيّل أين يقام مشروع "دريم لاند".. ثم إجراءات تخصيصها للمشروع.. ثم وهو الأهم عملية (الإمساك!) بالأرض في الواقع.. إخراجها من حيز الورق والإجراءات المكتبية إلى التراب.. عيناً على الطبيعة.. وهي عملية تصلح لإنتاج (فيلم هندي) تقص الرقابة ثلاثة أرباعه ومع ذلك يبقى فيه عشر ساعات كاملة صالحة للعرض. ولكي يتسع خيالك– عزيز القارئ- لاستيعاب تفاصيل ما سأذكره لك في الحلقات التالية.. تخيل مائدة طعام مستديرة واسعة يجلس حولها الأكلة بأيديهم المجردة وبالمعالق والشوك والسكاكين.. كل يحاول أن يقضم أكثر.. وأكبر..وكل يأكل مما يليه ومما لا يليه.. البعض الكبار في ولاية الجزيرة- آنئذ- .. شعارهم (نأكل مما نوقع) عليه بالقلم الأخضر.. والأصغر منهم قليلاً.. يتلقون رشاويهم كفاحاً بلا أدنى خوف أو وجل.. في كل الاتجاهات.. و(لعبة الأرض).. بدأت من هنا.. ولاية الخرطوم.. فالفكرة الأولى كان مخططاً لأرض الأحلام أن تكون جنوبي الخرطوم في المنطقة التي تقع غرب سوبا.. والتي انتشرت فيها هذه الأيام مخططات أخرى.. وجرى التفاهم مع والي الخرطوم السابق د. عبد الحليم المتعافي .. وفي 21 يناير 2003 أرسل الوالي د. عبد الحليم المتعافي موافقته المبدئية كتابة إلى ادارة شركة دريم لاند (راجع وثيقة خطاب المتعافي). لكن غياب السياسة الواضحة للتعامل مع الاستثمار في ما يلي الأراضي جعلت المستثمر يهرب بجلده من ولاية الخرطوم.. إلى أقرب ولاية متاحة.. فكانت الجزيرة.. ولاية الخرطوم حددت سعراً معيناً بالدولار للمتر المربع.. ثم ما لبثت بعد قليل أن عادت وضاعفته.. مما جعل المستثمر من ضربة البداية يحس أنه إما أن موضوع الأرض.. هو مجرد (شطارة) مثلما هو الحال في (سوق العناقريب).. أو أن الأمر فيه (فساد). نفس هذه اللعبة تكررت مع كثيرين من المستثمرين.. سأسرد لكم واحدة منها.. تحمست شركة عقارية كبرى في دولة قطر لإقامة مشروع عقاري ضخم في الخرطوم. بالضبط في المنطقة الواقعة على شاطيء النيل بين معرض الخرطوم الدولي وبرج الهيئة القومية للاتصالات.. وصل مندوب الشركة إلى الخرطوم وقاموا بمفاوضة الجهات المعنية. تم الاتفاق على أن يكون سعر المتر المربع (400) دولار.. رجع الوفد القطري إلى الدوحة في انتظار خطاب رسمي يصله من الخرطوم موثقاً السعر المتفق عليه ولبدء إجراءات العمل في المشروع العقاري الضخم.. كانت المفاجأة أكبر من أن تصدقها الشركة القطرية.. وصلها الخطاب يحمل سعراً جديداً لم يتفق عليه .. المتر المربع بـ(800) دولار.. أي ضعف القيمة التي اتفق عليها الطرفان في الخرطوم.. قال لي مندوب الشركة القطرية.. (سألناهم من أين أتوا بهذا السعر الجديد.. ردوا علينا "طيب خلوه 600 دولار).. مندوباً لشركة القطرية قال لي بكل حسرة: (من لحظتها علمنا أننا لم نكن نفاوض جهات رسمية مؤسسية تعرف ما تعمل.. بل مجرد سماسرة يتشاطرون بالتلاعب في سعر الأرض).. ردت الشركة القطرية بكل حسم (نرفض عرضكم.. حتى ولو تفضلتم وجعلتم سعر المتر دولاراً واحداً..) هذه المساحة التي طردت منها الشركة القطرية قبل أكثر من ست سنوات.. لا تزال فراغاً تنمو فيه أشجار (العشر).. وتحتله ستات الشاي.. مع احترامي لهن ولعملهن الشريف.. عشرات الشكاوى من المستثمرين.. أن الأرض في السودان رغم أنها مليون ميل مربع (بالخرطة القديمة).. لكن الجهات الرسمية تتعامل بها وكأنها سلعة شحيحة.. نادرة الوجود.. قبل عدة سنوات مستثمر عربي حاول إقامة مشروع زراعي في ولاية نهر النيل.. قدروا له قيمة الأرض بحوالى (250) مليون دولار.. أكرر في ولاية نهر النيل.. وليس على ضفاف نهر النيل في الخرطوم بجوار القصر الجمهوري. سفير الشقيقة دولة قطر الذي ودعنا قبل أيام بعد انتهاء فترته في السودان، زار كل مناطق السودان مدينة مدينة.. قال لي: (إن الله سيشكركم يوم القيامة.. لأنكم ستردون إليه الأرض كما سلمها لكم..).. ولخص لي العلة في الاستثمار في السودان في جملة واحدة.. قال لي.. (أنتم تبحثون عن جمعيات خيرية تنشد الأجر في الدار الآخرة.. لا مستثمرين يرغبون في الربح الحلال في الدار الدنيا..). ويقصد أن مفهوم الاستثمار في عقليتنا السودانية.. تقوم على أن المستثمر هو رجل صالح.. يحمل على ظهره جوال أموال.. يريد أن يوزعها على ما تيسر في السودان.. ثم يعود لبلاده حاملاً جوالاً من الشكر والثناء والدعوات الصالحات.. إذا هبط مستثمر من السماء .. بمركبة فضائية لا يرصدها الرادار.. في قلب صحراء بيوضة في السودان.. فسيأتيه في نفس اليوم.. وزير مالية الولاية بفاتورة الأرض الصحراء التي سيزرعها.. ويأتيه في اليوم التالي معتمد محلية الكاملين (لعدم وجود معتمد في صحراء بيوضة).. وفي الثالث كتائب من الجباة.. وواحد فقط لن يظهر أمام المستثمر.. رجل رشيد يسأله عن جدوى استثماره.. لنفسه وللسودان.. لعبة التعويضات...!! مشكلة الأرض بالنسبة لمشروع "دريم لاند" ليست في التخصيص وإجراءاته فحسب.. بل في التعويضات أيضاً.. وهو ملف محتشد بالمخالفات والفساد الممعن في التحدّي والسفور.. لأن لعبة (التعويضات) بقدر ما هي سهلة فهي نظيفة لا تترك أثراً على اليدين.. تسطر في كشوفات التعويضات أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.. وتذهب الأموال إلى الأفواه الكثيرة المنتشرة في سلك الخدمة المدنية.. المنطقة الحمراء..!! اربطوا الحزام وتوكلوا على الله ودعونا قبل الدخول في تفاصيل قد تكون مملة أن نضع بعض الأسئلة الحمراء.. هل صحيح أن بعض الكبار قبضوا ثمن أتعابهم مباشرة... شقق سكنية (تمليك) في القاهرة؟ وآخرون لم تعجبهم (الشقة) فقبضوا "فيلا" كاملة أنيقة.. من هم؟ وماهو الدور الذي لعبه كل منهم في إخراج مسلسل "فساد لاند"؟ | |
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق