الخميس، 5 يناير 2012

عفوا.. اسمحوا لي بالانفصال!!! (


عفوا.. اسمحوا لي بالانفصال!!! (1/2)
بروفيسر/نبيل حامد حسن بشير
عند إعلان الاستقلال كنت طفلاً غريرًا انتقلت أسرته من الأبيض الحبيبة، حيث بدأ الوالد حياته العملية بها ثم اتجه إلى كرش الفيل، مركز العائلة الكبيرة، حيث التحقنا بالمدارس، بعد أن أكملت الروضة براهبات الأبيض. أسس الوالد أسطول من الشاحنات لينطلق من الخرطوم ويتعهد بنقل أقطان جبال النوبة سنويًا التي استمر فيها حتى منتصف الثمانينيات. العاصمة المثلثة حينها كانت حدودها شمالاً شمبات، وجنوبًا ديم القنا – شارع الخور موقع جامع طيفور حاليًا، و كافوري شرقًا، والعرضة جنوبًا. يوم الاحتفال بالاستقلال ركبنا لاندروفر الوالد وبصحبة شقيقه الأكبر أحمد (صاحب أسطول البولمان الشهير بين سوق الخرطوم والديوم الشرقية) للمشاركة في الاحتفال بأمدرمان التي كانت تعج بأمواج من البشر جاءوا من كل بقاع السودان متجهين إلى مكان التجمع، و(على ما أعتقد) أنه كان ميدان الخليفة. بالطبع في ذلك السن لم أكن أدرك أهمية ولا معنى المناسبة؛ لكن نظرات السعادة بعيون الوالد والعم جعلتني أحتفظ في ذاكرتي حتى الآن بهذه المناسبة. رغم صغر سننا كنا نعرف أسماء مشاهير السياسة ومن يحكموننا وأبطالنا بالتفصيل، بل كنا نعرف ناصر وتيتو ونهرو وسوكارنو ونكروما وكينياتا وسيكوتوري ونايريري.. إلخ من قادة العالم. بالطبع على رأس من نعرف الزعيم الأزهري والسيدين ومبارك زروق وإبراهيم جبريل و يحي الفضلي وعبد الماجد أبوحسبو والعم عبدالله خليل و محمد أحمد المحجوب و (الجيران) محمد أحمد المرضي و الشيخ علي عبدالرحمن وغيرهم كثر. لم يتعدَ سكان العاصمة المثلثة وقتها الأربعمائة ألف نسمة. كان التفاؤل سمة الحياة والبساطة في كل شيء هي سنتها، والتساوي في المأكل والمشرب والملبس (الأناقة والنظافة) هو ما يربط بين الناس (ما فيش حد أحسن من حد). أما العلاقات الأسرية والترابط بين الأهل والجيران فهما أساس الحياة وبهجتها. التعاون بين الجميع وسهولة حل المشكلات، خاصة لدى المسؤولين (وزراء ووكلاء ومحافظين) من الأشياء التي تزيد الناس ارتباطًا وحبًا. إن المسؤول يحب الخير للجميع، ويعمل من أجلهم بكل حب وإخلاص، جعل الحياة في أجمل صورها وأيسرها. الكل (مسؤول ومواطن) يتعامل مع الكل بكل حب ودون منٍّ أو أذى. أبواب المسؤولين حتى مستوى الوزير مفتوحة للجميع وقبلها بيوتهم. لا يمنعك حرس أو موظف الهدف (!!) من دخول المكتب أو الوزير، بل يأخذك إلى صالون المنزل، أو إلى سكرتير المسؤول إن كانت الزيارة بالمكتب مع إكرامك بالساخن والبارد قبل المقابلة. نادرًا ما تجد المسؤولين يأكلون وجبة الغداء مع أسرهم، حيث أن بيوتهم دائمًا ما تكون مضيوفة بالأهل أو ذوي الحاجات، وبالتالي يتناول الجميع وجبة الغداء مع المسؤول بمنزله، خاصة الزعيم الأزهري، ولا يشعر أحد بأنه قد تسبب في مضايقة المسؤول في وقت راحته أو في حرمانه من تناول وجبته مع أطفاله أو من أن ينام بعد الغداء استعدادًا لتكملة واجباته المسائية. العلاقات بين القبائل كانت سمن على عسل. أما عن العلاقات بين الشمال والجنوب، فقد بدأت في التدهور بتمرد أدى إلى مقتل أعداد كبيرة من الشماليين بالجنوب قبل إعلان الاستقلال بشهور. أعداد الجنوبيين بالخرطوم كانت قليلة جدًا. الساسة الجنوبيين من أمثال بوث ديو وسويسرو ايرو كانوا في حالة اندماج كامل مع أخوانهم من الساسة الشماليين ومع المجتمع السوداني ككل. خرج الإنجليز والمصريون، وتبقى الري المصري فقط، ولهم منازل بجوار كبري المسلمية وكبري الحرية. أما مواقع ثكناتهم (التي كان يطلق عليها الأورطة) فقد تحولت إلى الغابات، والمطافئ، ومجمع طلعت فريد الحالي. كانت العاصمة تعج بالجاليات الأجنبية من يونان وإيطاليين وشوام ومصريين وهنود. أما تجار الأحياء فكان أغلبهم من اليمن. لا توجد أسواق بالأحياء وبكل مدينة من مدن العاصمة المثلثة (سوق كبير) به كل شيء من اللحوم والدواجن والأسماك والفاكهة والخضروات. تذكرة البص تتراوح ما بين قرش وقرش ونصف، والطرحة ما بين قرشين إلى 4 قروش. رغيف الخبز بقرش واحد و رطل السكر بقرشين وكيلو لحم البقر بثمانية قروش والضأن لا يتعدى 12 قرشًا، ورطل اللبن 1-2 قرش والدجاجة (أو ديك جعيص) 10- إلى 15 قرش، والعتود من 15 إلى 25 قرشًا. أما الصحف فهي السودان الجديد والتلغراف والأيام والرأي العام والصحف والمجلات المصرية. كان يمكن الاتصال تلفونيًا بأية دولة من دول العالم عبر الكبانية. لم نكن نعرف ما هو الدولار وكان جنيهنا يعادل أكثر من 110 استرليني ويعادل 125 قرشًا مصريًا. أما عن المرتبات، فقد كان متوسط خريج الثانوي حوالي 28 جنيه والجامعي في حدود الخمسين جنيهًا. كانت البوستة تزخر بالبشر لإرسال الخطابات العادية والمسجلة أو استلامها والتلغرافات والتوفير..إلخ. العاصمة السودانية كانت من أنظف عواصم العالم الملاريا حتى نهاية السبعينيات لم تعرف بالخرطوم. الساسة يندمجون مع المواطنين في كل المناسبات وبكل الأحياء، و السيد الرئيس كان دائم التجوال بالمديريات تفقدًا لهم وللتعرف على مشكلاتهم. ثم فجأة تلاعب الشيطان برؤوس ساستنا. بالمناسبة الشيطان كان ولازال من نوعين: شيطان سوداني وآخر أجنبي، ممثلاً في المبشرين وبريطانيا و من دول الجوار. أما السوداني منهم فإما أنه يلعب لمصلحته الخاصة، أو أنه تابع لمخابرات أحد القطبين، أو لمصلحة دول و دول مجاورة. ومنهم من هو موجود معنا حتى الآن، ولا زال يلعب ذات الدور القذر رغم علمه بأن أمره قد كشف ومنذ زمن طويل!! لكن الشعب السوداني الكريم شعب مسامح. ما حدث في الفترة 17 نوفمبر 1958 حتى 21 أكتوبر 1964م، و نحن في بدايات السنة الأولى الثانوية، معروف للجميع منذ بداية التآمر للقيام بالانقلاب ضد الديمقراطية (راويات كثيرة) حتى التسليم والتسلم (عبدالله بك خليل/ إبراهيم عبود)، مرورًا بفكرة حرق الجنوب (اتهم فيها الأمير لاي حسن بشير نصر، عضو مجلس الثورة)، وعدة محاولات انقلابية فاشلة (كبيدة – شنان..إلخ) انتهاءً بالثورة العظيمة للشعب في 21 أكتوبر 1964م، وحكمة الرئيس عبود وعدم معاندته لشعبه كما فعل القذافي، ويفعل الآن الأسد وعلي صالح و(الناس العارفين نفسهم الآن و بغالطوا !! وربنا يستر). إن دل هذا على شيء فهو يدل على تفهم المرحوم عبود (لشعبه ولدينه وللنفس البشرية ولإرادة الشعوب). رحمه الله رحمة واسعة. الفترة من 21 أكتوبر 1964م إلى 25 مايو 1969م، نحن في السنة الثانية بجامعة الإسكندرية، كانت عبارة عن استمرارية لتلاعب الشيطانين أعلاه برؤوس القادة، وإيهام كل منهم بأنه الملهم وأنه (المنتظر)، وهو صاحب الفكرة الصائبةـ والبقية تتآمر عليه وعلى حزبه، والحكم يناديه ومفصل عليه وفي انتظاره. أما السودان فلن يصاب بمكروه، وهذه هي لعبة السياسة كما أفهموهم إياها!!. تفنن الجميع في المزايدات، وتم إجهاض أهداف ثورة أكتوبر بالكامل. نشطت الأحزاب بطريقة غير مسبوقة بالشارع والمدارس وجامعة الخرطوم و جامعة القاهرة فرع الخرطوم. بدأ البعض يلمع بواسطة حزبه إضافة إلى صناع الاستقلال المعروفين، وظهر بالساحة الدكتور الترابي وقادة الحزب الشيوعي بقيادة المرحوم عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ والقياديات مثل فاطمة أحمد إبراهيم، والأخوان المسلمين، خاصة الصادق عبدالماجد والرشيد الطاهر بكر وغيرهم، كما طفت على السطح الخلافات داخل حزب الأمة بين المخضرم السيد محمد أحمد محجوب والشاب السيد الصادق المهدي و عمه الإمام الشهيد الهادي. أما حزبنا الوطني الاتحادي، فقد اندمج مع المنشقين عنه الذين كونوا حزب الشعب الديمقراطي وتكون حزبنا الحالي الاتحادي الديمقراطي برئاسة الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري. كان جل اقتصادنا يعتمد على (المرحوم) مشروع الجزيرة العظيم، و تصدير الصمغ العربي والثروة الحيوانية والسمسم. عندما ظهرت بعض العطالة وسط الشباب الذي يحمل الشهادة السودانية ولم يقبل بالجامعات (الخرطوم والقاهرة فرع الخرطوم)، قام السيد وزير المالية الشريف حسين بتعيين عدد كبير منهم على بند أسماه بند العطالة حل بها مشكلات الشباب وأسرهم، بعضهم لا زال بالخدمة حتى الآن، والبعض الآخر تقاعد قبل عامين. نشط الحزب الشيوعي نشاطًا لم يسبق له مثيل خاصة بالمدارس الثانوية والجامعات وبعض المدن، خاصة تلك التي تعج بالعمال مثل عطبرة ومدني، بل كان أنشط الأحزاب الشيوعية بإفريقيا والشرق الأوسط. وكان لقادته مكانة خاصة لدى قيادات الحزب الشيوعي بموسكو، وتحاول بكين مغازلتهم بشتى الطرق. عندما أحس الحزب الشيوعي بالتآمر عليه، وصدور قرار بحله بواسطة البرلمان، والشيوعية في أوج مجدها وقوتها عالميًا، تآمر الحزب مع بعض صغار الضباط من رتبة عقيد وما دونها وقام بانقلاب مايو 1969م، وكالعادة جمد أو ألغى الدستور وقام بحل كل الأحزاب، والغريب في الأمر أنه جاء برئيس وزراء مدني وهو القاضي الشهير والذي لعب دورًا كبيرًا في ثورة أكتوبر بابكر عوض الله الذي يعرف عنه أنه قومي عربي وأقرب إلى الناصرية. أما بقية الوزراء المدنيين فكانوا من أهل اليسار المعروفين. التأميم كان من أكبر الأعمال التي قامت بها مايو وأدى ذلك إلى خروج كل الجاليات السابق ذكرها أعلاه من السودان. بدأ حكم نميري يساريًا، وبعد انقلاب هاشم العطا و بابكر النور عليه، انقلب نميري عليهم، وكانت هذه هي نهاية الحزب الشيوعي بالسودان بعد إعدام القادة العسكريين والمدنيين بما فيهم المرحوم عبدالخالق محجوب وجوزيف قرنق والشفيع أحمد الشيخ عليهم رحمة الله جميعًا. ثم قام بطرد الخبراء الروس، وتحولت مايو إلى الغرب (مكايدة للشيوعيين)، خاصة الولايات المتحدة. هنا بدأ السودان يقع في براثن صندوق النقد والبنك الدولي والديون، وما يتبع ذلك عادة من تبعات سياسية واقتصادية. تمت المصالحة في يوليو 1997 بين حزب الأمة ونظام نميري، ثم مع الاتحادي الديمقراطي مع رفض الشهيد الشريف حسين الهندي (ما أشبه الليلة بالبارحة). ثم بدأت سيطرة الاتحاد الاشتراكي الحزب الأوحد، وشددت القبضة الأمنية حتى كاد الشعب أن يختنق، وبدأت (علامات الفساد) نتيجة استغلال السلطة، وغياب الرأي الآخر، وتكميم أفواه الصحافة والصحفيين، وشراء ذمم البعض مع شراء صحف أجنبية تطبل للنظام (بيروت)؛ لكن للذكرى والتاريخ لم يكن أي من أعضاء مجلس الانقلاب ممن طالتهم الأيدي، لم تثبت عليهم شبهة الفساد المالي، وهذا يحسب لهم. و للأسف كان الفساد على مستوى (بعض الوزراء) وبعض قيادات الاتحاد الاشتراكي والانتهازيين. الفساد في ذلك الزمان كان (بالآلاف) من الجنيهات، لم يعرف أحد في السودان ما هو المليون، ناهيك عن (مليارات) اليوم غير المشبعة!! لا التي يعرفها الآن أخونا (راعي الضأن بالخلا) الشهير بالصحف الرياضية، وبائعة الشاي و غسال السيارات. أعتقد أن بداية الانهيار بالسودان أخلاقيًا واقتصاديًا وسياسيًا بدأ بالعام 1977م. تحول نميري فجأة إلى أقصى اليمين (الاتجاه الإسلامي) بعد أن أغرقه الأمريكان في متاهات أكبر منه وأكبر من أن يتحملها السودان. بدأت عملية التحول من داخل القصر (بواسطة الثلاثي المعروف) والاتحاد الاشتراكي الذي سيطرت عليه الجبهة القومية الإسلامية من الداخل (أحمد عبدالرحمن، محمد عبدالقادر..إلخ). الغريب في الأمر أن شيخ حسن الترابي عند زيارته لنا بتوسن (أريزونا) في بداية الثمانينيات بصحبة المرحوم أبوجديري حدد لنا تواريخ تقريبية كلها صدقت، وهي تطبيق الشريعة (في ظرف 3 سنوات، حدثت بالفعل في 1983)، والاستيلاء على السلطة في أقل من عشر سنوات، وكلنا يعرف ما حدث في 1989م. المهم في الأمر جاء (ربيعنا الثاني) وأسقطنا نظام نميري في 6 أبريل 1985م وهو (أي الرئيس) بالولايات المتحدة بغرض العلاج بعد أن انقلب على أصدقاء اليوم (الإسلاميين) وأودعهم السجون، وبعد أن (تلقى التمام) من الجهات الأمنية، وتسليم السلطة لنائبه وطالبًا منه الانتهاء منهم بعد مغادرته للبلاد. تم كل ذلك بعد زيارة شهيرة لنائب الرئيس الأمريكى (آنذاك) جورج بوش الأب، وهو في الأصل كان مديرًا للمخابرات الأمريكية. نلقاكم في الجزء الثاني لتكملة القصة وتبرير طلبي بالانفصال!! اللهم نسألك اللطف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق