الأحد، 8 يناير 2012

قتامة المشهد السياسي الآني

رأي
راجت عبارات مثل (التحول الديمقراطي) و(إشاعة الحريات) كثيراً بعد توقيع اتفاقية نيفاشا، والتي كانت ثمرة جهود مضنية طوال فترة المحادثات وأثناء توقيع بروتوكولاتها المختلفة، وبالرغم من أن القضيتين غائبتان عن الواقع السياسي الماثل إلى يومنا هذا وحلم يراود الحالمون، وعند بدء المحادثات والتوقيع، كانت حكومة المؤتمر الوطني تحت صدمة الانقسام وخروج القائد المؤسس للحركة الإسلامية، وليبدأ مناورات ووقع بالفعل مذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية، وأحست الحكومة بخطورة الخطوة والخوف من إمكانية أن يتم التنسيق والتحالف بين أستاذهم، وأكبر تنظيم عسكري معارض بقيادة الراحل الكاريزما د. جون قرنق، ومما لاشك فيه يمثل خطورة قصوى لنظام الإنقاذ ووضعه في محك حقيقي، مما دفع الحكومة بأن تبعث على رأس وفدها النائب الأول والسياسي رقم واحد لديها ليقود المفاوضات العسيرة بنفسه لحظة بلحظة بنداً بنداً، مما يعكس مدى جدية واستعجال حكومة المؤتمر الوطني للإتيان بنجاح أو أي انتصار سياسي، يغطي على حالة الفشل السياسي، وانقسام الحركة الإسلامية وهي على رأس السلطة، رأسياً وأفقياً وفشل مشروعها الحضاري لإنقاذ البلاد، وفي ذات الوقت كانت الحركة الشعبية تتعافى وتستعيد قوتها من جديد بعد انقسام وخروج مجموعة الناصر، فهددت الحركة عدة مدن على عدة محاور وعلى رأسها توريت جنوباً وكسلا شرقاً.
وطيلة سنوات حكم الانتقال كان جل النقاش والاحتكاكات حول مبدأي توزيع السلطة والثروة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ولقد بح صوت القوى السياسية المعارضة في الشمال ممن ينادون بالجهاد المدني أو السودان الموحد أو تحكيم الديمقراطية، وإشاعة الحريات ووضع معايير حقوق الإنسان ولم يسمع لهم أحد، وعندما شعرت الحركة الشعبية بأن لا معنى لأن يبقى السودان موحداً في وجود المؤتمر الوطني حاكماً، وأن تستمر هذه القوانين الاستثنائية ولا بصيص أمل من تغيير على مستوى القوانين والتشريعات والمؤسسات وخاصة بعد غياب مؤسسها، ولذا وجدت الحركة الشعبية أن أقصر الطرق إليها وأنجعها هو بذل كل طاقتها، وإمكانياتها وحشد القوة الدولية في اتجاه واحد وهو استحالة بقاء السودان موحداً وأن الحل الأمثل لهم كجنوبيين هو الانفصال وإعلان الاستقلال لدولة جديدة تسمى جنوب السودان، وهكذا ذهب الجنوبيون وتركوا حلفاءهم في الشمال يعانون من ويلات الانفصال، ويعانون الأمرين من شراسة حزب المؤتمر الوطني وعودته لسيرته الأولى بل ومما زاد الطين بلة، وما جاء على لسان رئيس الجمهورية بأن الشمال بعد انفصال الجنوب صار إسلامياً وعربياً خالصاً، ومما أدى لمزيد من اشتعال اللهيب في جبهات قديمة جديدة، وجعل مجموعات في التخوم تخشى على كياناتها غير العربية وبعضها غير المسلم، ولذا عادت للتمرد المسلح مرة أخرى وكونت الجبهة الثورية المتحدة أو ما يعرف بتحالف كاودا، والذي له تأثيراته سواء رضيت السلطة أم أبت ولابد من حل سياسي وليس عسكرياً من أجل المواطن المغلوب على أمره، وما يعانيه من تشريد ونزوح وأمراض ومجاعات.
وبينما شحذت القوى المعارضة الشمالية وآمنت أن قدرها أن تناضل لوحدها وأن تعمل خارج مظلة الحركة الشعبية وأن تسعى بعمل مدني سلمي لتحقيق مبادئ التحول الديمقراطي وإشاعة مزيد من الحريات وعلى رأسها حرية التعبير والصحافة والتنظيم وحق التظاهر وإلا فالحل في إسقاط النظام، وفعلاً حدث تقدم طفيف في مجالي التعبير والصحافة، ولكن هناك قيود شديدة على حرية التنظيم للقوى السياسية المعارضة فالتنظيم لا يعني بأية حال من الأحوال تسجيل التنظيم أو الحزب لدى مسجل الأحزاب واستلام الأوراق الرسمية والأختام، فحق التنظيم يعطي الحزب إقامة ندواته وعقد مؤتمراته العامة ومؤتمراته الصحفية وقيام الجولات الولائية وتوزيع المنشورات والوقوف ضد اعتقال أعضائه والتظاهر، ولا أدري لماذا تمنع حكومة المؤتمر الوطني المظاهرات بعد قرابة ربع قرن من الحكم والتمكين، وتعتقل معارض الرأي والمتظاهرين في حين أنه يمكن تقديم المتهمين للنيابة أو القضاء.
وما تم بجامعة الخرطوم في الأسبوع الأخير من العام المنصرم عمل مؤسف، ودخول الشرطة إلى داخل غرف الداخليات لاعتقال الطلاب، وحسب أقوال عدد منهم أن هناك اعتداءات تمت من قبل الشرطة على ممتلكاتهم، وبالرغم من إغلاق الجامعة فإن قيادة الوطني تنسى أن شعارات (جامعة حرة أو لا جامعة) و (تحريم دخول الشرطة الحرم الجامعي) هي شعاراتهم، وأن جامعة الخرطوم والتي تحاصرها الشرطة وتعبث بممتلكاتها، هي مصدر قوتهم، وتخرج الرعيل الأول من كوادرهم، ومن تبوأوا أعلى المناصب فيها، هم خريجو هذه الجامعة المنكوبة، والتي كتب مديرها السابق د. مصطفى إدريس عن ما تعيشه الجامعة والبلاد ودق ناقوس الخطر حتى لا يحدث هذا الحريق ودعا لإصلاح والتسامح ما استطعنا.
ولأنك إذا منعت الشعب من التظاهر، أو مارست سياسة المماطلة معهم فسيلجأون لوسائل أخرى مثلما فعل أهلنا المناصير في نهر النيل، ولقد حملوا ما خف حمله وأقاموا مسكناً لهم أمام مقر حكومة الولاية، وأعلنوا بأنهم لن يغادروا موقعهم هذا إذا لم يجدوا حلاً عادلاً لقضيتهم، حتى أن زيجاتهم صاروا يحتفلون بها في مكان اعتصامهم وبعضهم قد ارتحل للدار الآخرة ولكنهم ما زالوا معتصمين ومصممين، وسوف تنضم إليهم مجموعات طلابية ومهنية وحتى على مستوى الشرطة والأمن ففي مثل هذه المطالب تختفي المهنية والحزبية، فالأمر مرتبط بمصير وملاذ القبيلة، وتهديد وجودها الاجتماعي. يقول عبد الله آدم خاطر في مقالته بالصحافة عدد 31/12/2011م (أن قضية أراضي نهر اتبرة أثارت جدالات واسعة في الشمال أيضاً وليس آخرها قضية المناصير الذين نظموا احتجاجاً سلمياً وطوروه إلى اعتصام، انتقلوا به إلى العاصمة الدامر، على نهج الثورات العربية خاصة اعتصام التحرير المصرية ثم أخذت طلائعهم تصل الخرطوم (مكان الرئيس بنوم) وهي مجتمعة قضايا تمثل مخاطر حقيقية على المدى البعيد خاصة إذا ما اعتبرنا ما حدث من تداعيات من مناطق أخرى في البلاد بما في ذلك دارفور) انتهى.
وفعلاً قضايا البلاد كلها مرتبطة ببعضها البعض وتمسك بخناق أخواتها، وكل هذه التمردات والاعتصامات والمظاهرات لأن هذه الشعوب تريد حقوقها ومستحقاتها، وتريد أن ترفع عن كاهلها الظلم والغبن، وعندما تحرم عليه التظاهر يلجأ للتمرد، وعلى ذكر دارفور ومآسيها، فلا حدث شغل الأذهان والمدن والأرياف مثل اغتيال د. خليل إبراهيم رئيس ومؤسس حركة العدل والمساواة، والذي ذكر مآثره وحسن أخلاقه أعداؤه قبل أصدقائه، وخاصة عند غزوة أم درمان في صيف 2008م وتعامله الكريم مع المدنيين ولقد أعلى من قدره هذا الأمر، وما كتبه محمد حامد جمعة (صحيفة الرائد) يقف شاهداً على ذلك واغتيال خليل أدخله في قائمة الاغتيالات السياسية، التي قامت بها حكومات المركز ضد شهداء الفكر وقادة الرأي، مثل عبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه وتساور الشكوك مقتل جون قرنق، ولذا فلقد هددت حركته بعمليات انتقامية وربما تنتقل إلى بعد قبلي/إثني وفق العرف السوداني وساعتها يصبح الأمر أفدح، ويقول الطيب زين العابدين عن تداعيات اغتيال خليل الصحافة عدد 1 يناير 2012 (لاشك أن مقتل خليل سيضعف إلى حد ما حركة العدل والمساواة فهو الذي أسسها وصنع علاقاتها، ولكن هذا لا يعني أن الحركة تموت بمقتله فالقضية التي حارب من أجلها خليل ما زالت قائمة، بل قد يؤدي مقتله إلى المزيد من التمسك وفاءاً له واعترافاً بتضحيته الجسيمة، وأتوقع بأن تلجأ الحركة في الأيام المقبلة للثأر العسكري لمقتل خليل تأكيدً لقدراتها العسكرية بعد موته) انتهى.
فهي حركة تحمل السلاح ولها قضية ومظالم تستوجب الحل، وأضف لها البعد الإثني وحدوث مزيد من التعاطف القبلي، وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن قبيلته أصلاً قبيلة محاربة شرسة، وثم أن الاغتيال قد يبرز قيادات أكثر راديكالية في الانكفاء وتحقيق المطالب الذاتية، تماماً مثل ما حدث بعد مقتل جون قرنق والذي كان وحدوياً وأمله أن يحكم السودان كبيراً، ولكن بعد مقتله استقوى التيار الانفصالي وفعلاً نجح في انفصال دولة الجنوب، وقد يحدث ذات الأمر مع حركة العدل والمساواة في رفع سقف المطالب وإن لم تتحول إلى حركة عنصرية انتقامية..
لقد انفصل الجنوب بفعل تعنت المركز مثلاً في المؤتمر الوطني وذهب جزء عزيز من الوطن ولم نستفد من الدرس شيئاً وثم مرة أخرى وكنتيجة لإلغاء الاتفاق الإطاري اشتعلت نيران الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتأجيجها في دارفور بعد مقتل خليل.
وحين تحاصر الشرطة اعتصام المناصير وتعتقل أبناءهم في الجامعات وتطاردهم، وترفض ولاية نهر النيل ووزير الكهرباء الاتحادي تنفيذ مطالبهم المتمثلة في قرارات رئيس الجمهورية، وكما أكد وذكر حسن عثمان رزق القيادي في المؤتمر الوطني الصحافة عدد 4/1/2012م وبعد أن تحدث عن عدالة قضيتهم وأن ولاء المناصير، أصلاً للمؤتمر الوطني، وأنهم في الانتخابات الأخيرة صوتوا للهادي عبد الله الوالي الحالي لنهر النيل وأن المناصير لم يقصروا في شئ وأن الحكومة هي التي قصرت في حقهم، ولينهي حديثه مخاطباً رئيس الجمهورية بأن لا يجعل بعض بطانته وأعوانه ومن يحب يفسد على الناس دنياهم فيفسد الناس عليه آخرته.
وثم يمنع الطلاب المتعاطفين معهم عن التظاهر بل ويعتدي عليهم داخل حرم الداخليات، ويتم إغلاق الجامعة إلى أجل غير مسمى في ذات اليوم الذي خرج فيه موافقة إدارة الجامعة والسلطات على مطالبهم، والامتحانات التي علقت من غير المعروف متى ستكون؟.
وفي ظل هذه المعطيات والحيثيات وهذا الاحتقان السياسي والتدهور الاقتصادي المريع، وتخلي المؤتمر الوطني عن مشروعه الحضاري والاحتماء بكنف وحضن الطائفية اتقاء لغضبة الشعب وسط هذا الحريق الذي يأكل أطراف البلاد، هل من الممكن لحكومة المؤتمر الوطني إتاحة وليس إشاعة الحريات؟، وهل من الممكن وفق هذا الواقع تحقيق التحول الديمقراطي؟، وهل من الممكن إعطاء الحقوق الأساسية مثل حرية التعبير والتنظيم والتظاهر؟ وهل يمكن تحقيق سلام شامل كما تدعي الحكومة في أطراف البلاد وتخومها، أم سوف يزيد الحريق اشتعالاً يوماً بعد يوم ومزيد من الإجراءات الاستثنائية والاتهامات الجائرة لمزيد من الاعتقالات والتعذيب؟، أم يستمر اللهيب مشتعلاً، ونتيجة لكبت المظاهرات، أن تحدث مظاهرات مثل ما حدث في المنطقة شمالنا، مظاهرات كاسحة تعجز أمامها آلية السلطة القمعية ولن يكون حينها سوى ترك السلطة والفرار؟ ولقد أضطر لفعلها أنظمة كانت أكثر مراساً من نظام الإنقاذ وكان يقول مبارك والقذافي أنهم ليسوا مثل تونس.
ومع إدراكنا لحجم التردي الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، خاصة بعد انفصال الجنوب وذهاب أكثر من ثلثي إنتاج النفط لدولة الجنوب وثم توقف عجلة التنمية والإنتاج طيلة سني الإنقاذ، وكم من المصانع توقفت؟ وأين مصانع الغزل والنسيج؟ والتي اشتهرت بها الجزيرة وأين إنتاج القطن محصول السودان النقدي الأول؟ وكيف حال الزراعة في الولايات المختلفة؟ وثم لماذا توقفت عجلات قطارات السكك الحديدية والتي كانت تنقل الركاب والبضائع عبر الصحراء وعبر السهول؟ وكيف بقدرة قادر تحول الموقف الرئيس للسكة حديد السودان، إلى موقف الحافلات والباصات داخل ولاية الخرطوم؟ والذي يقف كأكبر دليل على فشل النخبة والصفوة الحاكمة!
وهذه الحالة المزرية التي يحياها المواطنون وكيف تحولوا لجوعى ومتشردين ومعوزين، وكيف أن كرام المواطنين وحرائر النساء صاروا وصرن متسولين ومتسولات في حالة يندى لها الجبين خجلاً، هل لاحظ أحد الحاكمين أو الوزراء أو المسئولين هذه الحالة؟ هل تجول أحدهم في شوارع الخرطوم وأم درمان وبحري أو حتى أزقتها وحاراتها دع عنك الولايات التي أحوالها أسوأ، ليرى بعينيه تلك النظرات ولسان حالهم يغني عن سؤالهم ومنظر كثير من أهل البلاد وقد تحولوا إلى متسولين، أو الطلبة والطالبات وهم يبحثون عن مصاريف الأكل والدرس وثم المرضى الذين يملون المستشفيات وحولها وليس عندهم حق العلاج، فما دمتم فشلتم في توفير الحريات لشعب وعجزتم عن توفير لقمة العيش فماذا تنتظرون؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق